الصوامع المولوية في حلب…صفحات من كتاب “تاريخ حلب “للأسقف أردافازت سورميان (16)

sawameh

الفصل الرابع عشر

الصوامع المولوية في حلب

       المولوية أو الدراويش كانت الطائفة الإسلامية الأكثر انتشاراً في الامبراطورية العثمانية السابقة واتخذوا قونية عاصمة السلاجقة القديمة مركزاً لهم وكان زعيمهم الديني Hünkâr Molla متمركزاً فيها بشكل مستمر حتى عام 1923. وكانت لشيوخ المولويين مساجدهم وتكاياهم الخاصة النشيطة والمنظمة من إدرنة حتى القسطنطينية وبروصة وجميع مدن مناطق الأناضول وولايات تركيا الشرقية وكيليكيا ومنطقة ما بين النهرين وسوريا ولبنان وفلسطين ومصر. ويشتهر المولويون بنظافتهم ونظافة دور عبادتهم على وجه الخصوص حيث كان المؤمنون يصلون ليل- نهار ويقرأون ويبقون معابدهم في نظافة استثنائية ويزورهم العديد من الأجانب وخاصة في أمسيات الخميس عندما يصلون جماعياً ويرقصون بقيادة الناي. اعتبرتهم تركيا الكمالية أشخاصاً كسالى مسترخين فقامت باضطهادهم وبعثرتهم واستملكت جميع صوامعهم لاستخدامها كمرافق عامة وسواها. وفي حلب أيضاً وابتداء من القرن 15 على الأرجح كان للمولويين صومعتين كمركزين إسلاميين بقيتا حتى يومنا. وتقع أولاهما في حي بستان كل آب وهي عبارة عن دير واسع يحتوي على جامع ومسكن واسع جداً بطابقين ومجهز بأثاثات جيدة وصوامع واسعة ومطبخ ومكتبة وبستان وباحة حيث نجد قبور عديدة لرجال دين عليها شواهد بكتابات جميلة. ويعود تأسيس تكية الملا هونكار المولوية إلى جلال الدين البلخي الرومي وإلى سلالته ينتمي زعماء هذه التكية كابن سلطان العلماء ومحمد بهاء الدين وابن الحسين الخطيبي وابن أحمد الخطيبي وابن محمود الخطيبي وابن مولود وابن ثابت البلخي وابن مسّبب وابن مَشهر وابن حَمّاد وابن عبد الرحمن وابن بكري. وكانت هذه التكية حتى قبل 60 عاماً تقع خارج أسوار المدينة في منطقة نائية معزولة ومحاطة ببساتين وكروم واسعة تروى مباشرة بمياه نهر قويق عبر أقنية كانت تجري تحت مستوى باحة المجمّع. وبسبب توسع رقعة المدينة بيعت مساحات كبيرة من حدائقها الخاصة وقام المولويون بتشييد المقاهي والدكاكين واغتنت التكية وتكدست مبالغ كبير جداً أدّت إلى التنافر والمحاكمات بين زعماء الدراويش.

      في التكية الآن 13 فرداً يبيتون فيها بشكل مستمر. وهؤلاء الدراويش كزملائهم من المسيحيين والمسلمين والوثنيين يعيشون حياة جماعية ويقتاتون على المأكولات التي يتبرع بها المؤمنون بسخاء. وللتكية أوقاف خُصصت من قبل المؤسسين والمحسنين وهي عبارة عن حقول وكروم وحوانيت وحمامات وغيرها. وللدراويش صلوات خاصة إلزامية في بعض ساعات اليوم لكنها غير مفروضة على بقية المسلمين. وجميع هؤلاء الدراويش متزوجون ولهم أسرهم في المدينة أو القرى المحيطة بها. وكزعماءهم (الدده) الذين يغيبون عن التكية مرتين إلى ثلاث مرات أسبوعياً يسمح لهؤلاء بمغادرة التكية لزيارة أسرهم.

       الطقس الديني الأهم والأكثر تشويقاً هو اجتماع أفراد الطائفة  المولوية للصلاة الجماعية في مساء يوم الخميس في جامع التكية الذي لا يختلف عن بقية الجوامع بأي شكل. وهذه الصلاة التي تدوم مدة ساعة واحدة يصاحبها الرقص فيدور الدراويش دون توقف وبانتظام على أعقب أرجلهم بمصاحبة موسيقى رخيمة تصدر عن 3-4 من آلات الناي. و يسبب هذا الرقص تعباً شديداً لكنه يحمل في طياته التحليق الروحاني والتدريب على المشاق.

      لجميع الدراويش زعيم له صلاحية طرد أي فرد في التكية أو قبوله من مركزه في قونية انطلاقاً من الأنظمة المتبعة أو أهوائه أو العلاقات الجيدة أو السيئة بين الأفراد. والزعيم الأكبر الذي يدعى”داده الطريقة” ينتخب من قبل زعماء التكايا بينما منصب الزعيم الديني (الجلبي) فإنه وراثي. وللدراويش عادة قديمة وهي تقديم ما يزيد عنهم من مأكولات للفقراء. وبما أنهم يعيشون على ما يقدمه الغير فإنهم بدورهم يعلمون هؤلاء الفقراء على الكسل. عدا ذلك وبناء على العرف العالمي في الأديرة وغيرها من المعابد يستضيفون اللاجئين إليهم مدة ثلاثة أيام ويؤمنون لهم المبيت والمأكل والمشرب. ولجميع هؤلاء الدراويش مهنهم الخاصة لذلك يمكنهم إعالة أسرهم.  وللدراويش زيهم الخاص الإلزامي:يرتدون معطفاً طويلاً يغطي الجسم حتى الرجلين ويمكن أن يختلف لون القماش ونوعيته حسب الذوق وفصل السنة بينما غطاء الرأس مصنوع من اللباد الطويل المخروطي الشكل وهي عادة قديمة جداً من المحتمل تعود إلى الحثيين. ويحق لأولاد الدراويش الذكور الانتساب إلى التكية ودراسة المقرر فيه. ولأن الجميع ملزمون باتباع قوانين الشريعة الإسلامية بشكل صارم والعيش في جو صالح تبنى هذه التكايا على موقع عال بعيد عن المدينة والضجيج في منطقة تمتاز بمناخها الصحي ومناظرها الجميلة.

      كانت التكيتان المولويتان في حلب كبيرتان وجميلتان منذ البداية. ويقع الجامع عامة في وسط الباحة وتقع حولها حجرات الدراويش أو غيرها من المنشآت ويدخل الجميع إلى الجامع ليل- نهار للصلاة ولحمد لله.  فقدت هذه الطائفة الشيء الكثير من شهرتها السابقة ودب خلل  محسوس في نظامهم العام في السنوات الأخيرة بينما نعلم بأن الدراويش كانوا أكثر رصانة وزهداً ولطفاً ومساعدة للفقراء قبل 40 عاماً. ويعتاش الدراويش كما رأينا من دخل الأوقاف والهدايا ويبقون في التكية مع إخوتهم الدراويش طالما هم على قيد الحياة ويسمح لهم بهجر حياة التكية عندما يشعرون بالتعب ولا يحق لأحد وضع العراقيل أمامهم لأنهم يتحلون بحريات كبيرة. ويروى بأن بعض الدراويش كانوا أغنياء جداً.

      التكية المولوية الثانية في حلب هي “تكية الشيخ أبي البكر” التي تقع بعيداً عن الأولى وعلى الطرف الجنوبي-الشرقي من حي الميدان وتمتاز بموقعها المرتفع البديع وهي مجمّع يحتوي على قاعة استقبال مقببة كبيرة وطوابق واسعة جيدة التأثيث ومزدانة بأشجار السرو المعمّرة وينبوع ماء عذب جداً يُسحب منه الماء بالدولاب الذي يديره بغل ويملأ في الصهريجين الواقعين تحت الرواق وفيها برك وسبلان تستخدم للوضوء والاستحمام. وعلى الرغم من صغر الجامع لكنه يعتبر من مساجد حلب الهامة بجماله الداخلي والخارجي وقبته المحمية والمغطاة بطبقة من الرصاص. وتقع قبور الزعماء (الداده) في الرواق الواسع خارج الجامع وهي مغطاة بشواهد كبيرة من الحجر الأصفر أو الأبيض المنحوت جيداً وعليها اسماء المتوفين. وهذه التكية مزار محترم من قبل المسلمين والنساء بدورهن يزرنه ثلاث مرات في السنة.

 

ينفرد “ملحق أزتاك العربي للشؤون الأرمنية” بنشر صفحات كتاب “تاريخ حلبللأسقف أردافازت سورميان.

* من كتاب تاريخ حلب” للأسقف أردافازت سورميان، مطران الأرمن الأسبق في حلب، (1925 – 1940)، ترجمه عن الأرمنية الدكتور ألكسندر كشيشيان، عضو اتحاد الكتاب العرب وجمعية العاديات، حلب، 2006.

Share This