حمامات حلب…صفحات من كتاب “تاريخ حلب “للأسقف أردافازت سورميان (20)

الحمام

الفصل التاسع عشر

حمامات حلب

       منذ قديم الأزمان وكمدينة شرقية كانت حلب تحتوي على حمامات عامة وخاصة عديدة جداً التي من الطبيعي ساهمت في رفع سوية الصحة العامة والأفراد. وبسبب عدم وجود الغابات حول مدينة حلب,رغم مساحتها الكبيرة,لتأمين حماماتها وأفرانها العديدة بالحطب إلا أن هذا النقص يعُوض باستخدام القصب والشجيرات. وعلينا التأكيد بأن حمامات حلب الكبيرة هي صروح معمارية جميلة وتشبه حمامات القسطنطينية والأناضول وجميع حماماتها تقريباً مبنية بطراز هذه الحمامات الأخيرة. والحمامات التي هي أوقاف بشكل عام لمؤسسات دينية وثقافية وخيرية تُركت في السنوات الأخيرة مع ذلك دون عناية فتضرر الوضع الصحي العام للسكان. ولكن ولحسن الطالع بدأت حركة جديدة في المدينة بعد توقف معظم حمامات حلب القديمة من العمل في السنوات 20 الماضية وشرعت عائلات ميسورة أو حسنة الأحوال ببناء حمامات خاصة في بيوتها فتُركت الحمامات العامة للطبقات الفقيرة والعمالية. ومن المؤسف أيضاً بأن جميع الحمامات العامة دون استثناء قذرة جداً وتعشعش فيها الأمراض السارية وهي بعيدة عن سهر وإشراف البلدية ومديرية الصحة. وقد قمنا شخصياً بلفت أنظار المسؤولين مراراً حول تلك الأحوال المؤلمة وفي كل مرة كنا نستغرب من عدم المبالات العامة السائدة. وهذه الحمامات صروح هندسية رائعة وكان من المفروض السهر على ديمومتها. ويكمن السبب في رأينا في أنها ليست أملاكاً خاصة لأن أي ملاك لن يغادر حمامه دون السهر الدائم على ملكه. وعندما وصل الرحالة الأرمني Semeon Lehatsi من القدس إلى حلب في عام 1616 وجد فيها((حمامات بديعة ومياه صحيةً غزيرةً)). ويتبين من هذه الكلمات المقتضبة بأن حلب كانت غنية بالحمامات العامة العديدة ويأتي ابن الشداد بذكر 71 حماماً داخل حلب فقط. وعدا هذه الحمامات يذكر هذا المؤرخ العربي 31 حماماً في البيوت الخاصة و28 حماماً عاماً خارج أسوار المدينة و3 حمامات في الياروقية و6 حمامات خارج باب أنطاكية و3 حمامات خارج الحلبة و24 حماماً في البساتين و7 حمامات خارج باب الجنان و11 حماماً في الرمضانية و ويصل مجموعها إلى 195 حماماً. وأهم الحمامات هي:

حمام السلطان: يقع في الباب الأربعين ويؤكد ابن الشحنة بأنه كان موجوداً في أيامه ويقع قرب خندق القلعة وانتهى بناؤه بأمر الغازي في عام 1211م. 

حمام أوزدامير: يقع في حي المعقلية وكان إلى جانبه حمام آخر زال من الوجود.

حماما البرازي: يقعان داخل باب النصر وقد شيده حاكم حلب أبو النصر.

حماما علي: كانا يقعان في معمل لصناعة الجلود زال أحدهما مع الوقت وظل الثاني قائماً في السويقة على الشارع المؤدي إلى حي اليهود. وعلى الرغم من انهدام قسم منه إلا أنه كان يستخدم كحمام وكان وقفاً لمدرسة العصرونية. 

حمام العفيفي: شيد من قبل عفيف الدين بن رازيك في سنة 1212م. 

حمام الشماس: كان يقع في حي الجلوم مقابل ساحة هاشيميت بن قلاندار وكان الشماس وزير ناصر بن صالح بن يوسف المكنى بأبي الفرج المؤمَّل وكان مسيحياً وحاكماً رؤوفاً. وقد عُين شقيقه مفتشاً لضواحي حلب. وكان الحمام وقفاً لمدرسة أبي بكر. 

حمام شمس الدين لولو: لا يزال الحمام يعمل حتى يومنا وهو وقف لمدرسة السفاحية. 

حماما ابن عصروني: يقعان في حي السويقة والواحد منهما مهجور الآن والآخر وقف لتكيتي القدس وغزة.

حمام العفوي: يقع في باب الجنان وهو وقف لمدرسة الشرفية فقد انهدم لاحقاً وتحول إلى حديقة.  وكان بالقرب منه حمام قديم آخر حول إلى مصنع لتقشير الأرز.   

حماما القلعة: أحدهما كان لا يزال يعمل حتى القرن 15 وتحول الآخر إلى مكان لضرب النقود.

      يروي بن الشحنة بأنه عندما ابتعد عن موطنه حلب كانت معظم تلك الحمامات قد انهدمت وهناك بضع عشرات من الحمامات فقط تخدم السكان. وقد شيدت بعد هذه الفترة حمامات جديدة في حلب منها حمام السلطان والبهرمية والذهب والبيلوني وغيرها. أما الحمامان داخل الأسوار وتحديداً حمام إشيق تيمور وحمام الناصري فلم يشيد في حلب حمام يضاهيهما جمالاً وهندسة. 

        قبل قرنين من تاريخنا زار القنصل البريطاني الدكتور ألكسندر راسل ِAlexander Russell شخصياً جميع حمامات المدينة وقدم وصفاً عاماً حولها بقي كما كان قبل قرنين. يقول راسل: ((المضي إلى الحمام عادة عامة شائعة بين الجنسين. والمسلمون انطلاقاً من الفروض والواجبات الدينية يذهبون إلى الحمام أكثر من بقية السكان بينما لأفراد علية القوم حماماتهم الخاصة. وعندما يكون عدد ضيوفهم كبيراً يستأجرون عندئذ حماماً)).

    قاعة الحمام الخارجية تدعى البراني وهي واسعة جداً بشكل عام ومغطاة بقبة ومبلطة ولها أبواب ونوافذ تطل على الجهة الخارجية. وهناك مقاعد حجرية طويلة على جهات القاعة الأربع مُد عليها البساط و الحصر وتشبه الحجرات الصغيرة. وتقع بركة كبيرة في وسط القاعة تستخدم للتزيين وغسل أقمشة الحمام وغيرها ثم يقومون بنشرها على حبال طويلة كي تجف. وينتعل المستحمون والعاملون في الحمام القبقاب لأن حرارة بيت النار لا تصل إلى البراني بل تكون أرضيتها رطبة وباردة ولا تختلف حرارتها عن برودة الشارع في شهر شباط كثيراً.  وهناك باب على أحد أطراف هذه القاعة يؤدي إلى القاعة الوسطى التي تدعى الوسطاني. وهنا أيضاً نجد مقاعد وجرون حجرية بأنابيب للماء البارد والساخن وفيها طاسات نحاسية لصب المياه وتصل حرارة الوسطاني إلى 90 درجة فهرينهايت. ويوجد باب آخر يؤدي من الوسطاني إلى قاعة داخلية أو الجواني حيث الحرارة أكثر ارتفاعاً. ولا يحتوي هذا القسم على مقاعد أو مكان للجلوس بل يوجد مقعد عال ومبلط في الوسط حرارته عالية يقعد عليه المستحمون للتعرّق. وهذه القاعة أقل إضاءة وتحتوي على نوافذ عالية وفي بعض الأوقات على نوافذ صغيرة مغطاة بالزجاج الملون. وهناك حمامات تحتوي على برك كبيرة للاستحمام في هذا القسم وبما أن المسلمين لا يحبذون هذه الطريقة من الاستحمام لذلك لم تعمم. أما القسم الأخير فهو بيت النار الذي يدفئ الحمام. وحرارة المكان مرتفعة لدرجة عدم تمكن الشخص من البقاء فيه أكثر من خمس عشرة دقيقة بينما تتحمل النساء الحرارة أكثر من الرجال. وهناك حمامات خاصة بالنساء ولكن العادة المتبعة مع ذالك هي استحمام الرجال من الصباح الباكر وحتى الظهر والنساء من الظهر وحتى مغيب الشمس. 

      يلف المستحمم الفوطة على خصره ويدخل إلى الجواني للتعرق. وبعد ذلك يستخدم دواء لإزالة الشعر بإضافة بعض الماء إلى المسحوق وبعد تريث بضع دقائق يستحم الشخص ويزول الشعر كلياً. وعندما ينتهي ذلك يأتي عامل الحمام ويقوم بتدليك جسم المستحم بلطف في البدء ثم يزيد من قوة الفرك كي يكون الجلد أكثر طراوة. وبعد ذلك يقوم العامل بشد كل إصبع على حدا كي تسمع الطقطقة ويتابع هذه العملية على الكتفين والرسغين وعظام الرجلين مع تدليكها ثم يقوم بفرك جميع أقسام الجسم بقماشة سوداء خشنة ثم يغسل جسم المستحم بشكل متقن بالصابون والليف وما يبقى على المستحم هو إزالة الصابون بصب الماء بطاسة نحاسية ثم يقدم له المناشف ويستريح فترة ويدخن السجائر أو يأكل بعض الفاكهة الباردة كالجبس أو الحمضيات بينما بعض الأغنياء لا يستخدمون مناشف وأشياء الحمام الأخرى فيجلبيون أشياءهم الخاصة معهم. وتحتاج جميع مراحل الاستحمام هذه إلى وقت طويل لذلك لا يمر بعض المستحمين من جميع هذه المراحل. وتبقى النساء مدة أطول في الحمام مقارنة بالرجال بسبب تنظيف شعرهن وصبغه وتحميم أطفالهن. وبسبب عدد الأجران غير الكبير تنتظر كل امرأة دورها ويتسامرن ويتحدثن في البراني عوضاً عن بقائهن في الوسطاني أو الجواني لذلك تُسمع أصواتهن العالية من قبل المارين في الخارج. وتحب النساء الذهاب إلى الحمام كثيراً لأنهن يعرضن جواهرهن ومصوغاتهن الذهبية ويتلتقين بمعارفهن. وتصطحب النساء معهن إلى الحمام الفواكه والمرطبات والحصر والبسط. ولكل طبقة من السكان خادم خاص في الحمام للسهر على دقة تنفيذ تلك المراحل ويكون هؤلاء بشكل عام من اليهود. وعدا الأيام العادية تذهب النساء إلى الحمام بعد الإنجاب والأمراض وقبل وبعد الزواج ويستأجر الأغنياء الحمام في بعض المناسبات ويدعون أقرباءهم وعائلاتهم. والنساء كالرجال يستخدمن الفوطة أو ثياب الحمام ولا يبقين عاريات. وبعد الولادة تصطحب القابلة السيدة التي أنجبت حديثاً كي تساعدها. والنساء يمضين بعض الوقت مع قريباتهن في جو من المرح)).

Alex Russell (The Natural History of Aleppo) I, London-1794, p. 90    

ينفرد “ملحق أزتاك العربي للشؤون الأرمنية” بنشر صفحات كتاب “تاريخ حلبللأسقف أردافازت سورميان.

من كتاب تاريخ حلب” للأسقف أردافازت سورميان، مطران الأرمن الأسبق في حلب، (1925 – 1940)، ترجمه عن الأرمنية الدكتور ألكسندر كشيشيان، عضو اتحاد الكتاب العرب وجمعية العاديات، حلب، 2006.

Share This