خانات حلب وضواحيها…صفحات من كتاب “تاريخ حلب “للأسقف أردافازت سورميان (21)

خان

الفصل العشرون

خانات حلب وضواحيها

“لحلب 365 خاناً وعدد لا يحصى من الحوانيت وكل ما ترغبه تجده فيها لأنها مدينة كبيرة. وهناك خانات تجد فيها القماش والأطلس وهي من صنع الفرنجة” الرحالة الأرمني من القرن 17 Semeon Lehatsi

     حلب التي اشتهرت منذ قديم الأزمان بأنها المدينة الأغنى والأنشط تجارة في الشرق الأوسط كان من الطبيعي أن تكون لها خانات واسعة عديدة داخل وخارج الأسوار التي تشكل في الوقت ذاته إرثاً هاماً من الناحية الأثرية. وعندما وصلت تجارة حلب الداخلية والخارجية إلى أعلى ذروة لها في الازدهار قبل 3-4 قرون,وكان القناصل الأوروبيون يتنافسون لترويج منتجات وصناعات بلادهم في عاصمة التجارة السورية,لم تكن جميع خانات حلب الكبيرة منها والصغيرة أسواقاً واسعة ونشيطة للمبادلات التجارية فحسب, بل كانت مستودعات لجميع أنواع السلع الأوروبية والأسيوية. وهذا هو السبب بأن 20 من خانات حلب الشهيرة هي نماذج باهرة لفن هندسة العمارة. والسبب الآخر هو أن الأوروبيين قطنوا فيها منذ البداية. وبقية الخانات التي يزيد عددها عن 100 مبعثرة في أحياء حلب المختلفة التي كان قسماً منها يشكل ضواحي المدينة قبل 200 سنة لذلك نجد اليوم بعض الخانات المهملة التي كانت لها أمجادها التجارية في الماضي في حي الجديدة والهزازة وقسطل الحرامي وغيرها. وهذه الخانات التي تحتوي على طابق واحد بشكل عام هي أبنية مبنية بأحجار كبيرة والطابق الأرضي يحتوي على غرف عديدة تضاء عبر نوافذ عالية. وللخانات غرف كبيرة وصغيرة ويُصعد إليها عبر درج يقع قرب المدخل الرئيسي. وكجميع الخانات في العالم تستخدكم خانات حلب كنزل وفندق ومستودع وسوق واسطبل. ويكون الطابق الثاني بشكل عام فندقاً للمسافرين لقاء إجرة بسيطة جداً. أما الخانات التي تتمركز فيها العمليات التجارية الكبيرة فإنها تكون من أملاك التجار الكبار عامة أو يقوم هؤلاء باستئجارها للحفاظ على سلعهم في جو أمين.

      لكل خان مدخل واحد فقط يغلق أبوابه عند غروب الشمس كما كانت العادة في إغلاق بوابات سور المدينة. وبوابات الخانات الكبيرة المغطاة بألواح الحديد المزخرفة تحتوى على باب صغير الذي يمكن أن يبقى مفتوحاً حتى أوقات متأخرة من الليل. وحتى ما قبل قرن واحد من أيامنا كان يقطن آغا الخان الكبير في هذا المكان وكان يحصل على ضريبة معينة عن كل بضاعة ويقوم في الوقت ذاته بتسيير أمور التجار المختلفة عبر عمال يعتمد على أمانتهم ويعملون في غرف النزلاء وكان معظمهم من أرمن عربكير وتشمشكادزاك منذ أزمنة بعيدة. وكانت لجميع الخانات تقريباً باحات واسعة مرصوفة بأحجار كبيرة منحوتة وتتوسطها برك نظيفة وجميلة. ويقدم المؤرخ والقاضي العربي ابن الشحنة من القرن 18 في تاريخه المفيد جدولاً للخانات الموجودة في زمانه داخل وخارج أسوار المدينة:

خان إشق تيمور:يقع في باب النيرب بالقرب من مدرسة. خان أبرَك:يقع في سوق الهوا. خان خير بك:يقع قرب باب السراي للقصر العدلي. خان أوزدامور:يقع في سوق الصابون. خان السيد:يقع أمام مدرسة الصلاحية. خان القاضي:يقع مقابل باب قنسرين وقرب المستشفى المبني حديثاً. خان الخراطين وخان الشيباني (خان الفرنجة). وصل المبشرون الفرنسيسكان إلى حلب وتمركزوا في قيسرية الشيباني في عام 1570م وجعلوها ديراً خاصاً لهم.  خان المرأة: (المرة) يقع في سوق الهوا.  خان المجنّي:يقع في سوق الهوا أيضاً وهو وقف لصروح دينية. خان الشرّايين:كان يباع فيه جلود الماعز. خان الزيت:يقع داخل باب المقام وقرب المدرسة الإلجائية. خان الجورة وخان البرداية وخان السُهيل وخان الحنّة وخان الدكاشرة وخان الأكينجي:قرب مدرسة الكلدوي وخان الحرير:يقع داخل باب النصر. خان في حي بحسيتا اليهودي. خان الزيت:يدعى خان خير بك أيضاً ويقع قرب معامل الصابون. خان دار كورة وخان ابن السفاح:قرب خان دار كورة الذي تحول إلى مقهى في عام 1606. خان الصابون:يقع داخل باب الجنان. خان داخل باب قنسرين. خان السمك:يقع على نهر قويق. خان الحنّة:وهو في حالة خراب. خان الفاخورة وخان الفحم:في حي خارج باب أنطاكية. خان السُويّد:في حي المشارقة قرب جسر قويق. خان خَير بك:باسم حاكم حلب ويقع خارج باب النصر. خان بدر بك:باسم المسؤول الإداري عن الخان وخان الخندق وخان أسيس وخان مقابل الخان السابق وخان بجانب بيت عائلة المرعشي وخان اللِبن وخان الفحم خارج باب القناة.

      ازداد عدد الخانات في المدينة وضواحيها بعد القرن 15م بسبب تحول المدينة إلى مركز كبير للتجارة الدولية وشيد عوضاً عن الخانات الصغيرة المنهدمة جزئياً خانات أوسع على الرغم من بقاء الفن المعماري على حاله. وقد وصلت تجارة حلب مع أوروبا وآسيا في القرنين 16-17 إلى أحجام كبيرة جداً مما اضطر حكام المدينة على تشييد خانات كبيرة وجميلة خارج حلب تشبه خانات حلب المشهورة كخان الوزير وخان الصابون وخان الجمرك لتسهيل عمليات نقل ومقايضة مختلف السلع وتأمين سلامتها تجاه مختلف الأخطار. وكانت عصابات مسلحة كما سنرى تهاجم وتسلب قوافل الجمال التجارية فمن البديهي أن تقوم ولاية حلب ومن المحتمل بطلب من القنصليتين البريطانية والفرنسية في المدينة بتأمين سلامتها لأن القناصل في كل مكان تقريباً هم عملاء الشركات الرئيسية أو مؤسسات تجارية خاصة. وكانت عمليات نقل ثروات حلب وجميع أنواع البضائع الغالية المفيدة من وإلى المدينة خلقت عصابات مسلحة طوال قرون عديدة وتحولت أطراف الطريق الملكية النشيطة بين حلب واسكندرون إلى أوكار للصوص الأكراد والتركمان واليوروك الذين كانوا في أحيان كثيرة يتواطؤون مع حكام المدينة أو عملائهم ويتقاسمون الغنائم. وهذا هو سبب بناء خانات كبيرة وجميلة وحصينة على هذه الطريق التجارية النشيطة حيث قامت الحكومة بوضع المخافر للمحافظة على القوافل التي يمكن أن يصل عدد الجمال أو البغال في قافلة واحدة إلى 300 حيوان.

     يروي القنصل الفرنسي في حلب لوران دارفيو ما يلي في عام 1683:((يقع خان أو حصن على بعد ثلاثة فراسخ عن حلب يدعى خان طومان يحرسه آغا مع حراس يصل عددهم إلى 40 عنصراً. وقد شيد هذا الحصن ضد هجمات العربان لأن حلب كانت تحصل على معظم ما تحتاج إليه من طحين من هذا المكان. ويقع الخان قرب نهر Singa الذي يختفي في مستنقع يبعد ثلاثة فراسخ عن الموقع. وتقوم حلب والقرى المحيطة بالخان بتأمين احتياجات أفراد المحرس. ويظهر من أطلاله بأنه كان كبيراً وواسعاً وحصيناً وكانت فيه مدافع عديدة استخدمت في عام 1630 لحصار بغداد وبقي فيه 5-6 مدفعاً صغيراً لحمايته بإشاعة الهلع في المغيرين بصوتها العالي. والأتراك بطبعهم لا يحبون الترميم بل يفضلون بناء الجديد. وهناك خان ثان على بعد فرسخين عن حلب على طريق طرابلس يسمونه خان العسل فقد كان منشأة كبيرة وحصينة ويستخدم نزلاً للقوافل والمسافرين. وأنقاضه اليوم وكر للعربان واللصوص وهو اليوم في حال دمار شبه كامل. وهناك ينبوع يتفجر من تحت تلة قرب هذا الخان يمتاز بمياهه الرائعة. وقد قمت بتدوين هذه الملاحظات الخاصة أثناء إقامتي في حلب معتقداً بأن المهتمين سيُسرون بهذه المعلومات)). 

(Memoires du Chevalier d’Arvieux) VI, Paris-1785, p. 411

      تقع قرية خان طومان عند نهاية جريان نهر قويق وكانت في وقت ما محطة هامة ونشيطة أمام القوافل التي تصل أو تغادر حلب من الجهتين الجنوبية والغربية. وقد خلت القرية من سكانها عبر الزمن وتشهد أطلالها على غناها الآفل وتحول الخانان إلى كتل أنقاض. وهذه القرية القديمة وخاناتها الجميلة لا يزورها الآن سوى الأثريين. وكانت قرية خان طومان عقدة تجارية داخلية نشيطة وتحتوي على خانين متجاورين وقسطل بديع بين القرنين 12-17 وجميع الحجاج الأرمن المتجهين إلى القدس الشريف من مدن أرمينيا التاريخية ومملكة كيليكيا الأرمنية كانوا يتوقفون فيها. وفي هذه القرية بالذات كان مسيحيو حلب يستقبلون الحجاج الأرمن. ويظهر بأن أحد هذين الخانين كان بناء واسعاً وجميلاً لكنه تحول الآن إلى كتلة من الأنقاض عدا قسم من الرواق والينبوع الواقع على الطرف الجنوبي من الباحة. وقد أكدت التنقيبات التي أجريت على الخانين بأن الخان الكبير الأقدم يعود بناؤه على الأغلب إلى ما قبل عام 1615م أي قبل انسحاب المماليك من سوريا ودخول العثمانيين إليها لأن الخان مملوكي الطراز كاملاً كخان الصابون في حلب. وعلينا الإشارة أيضاً بأن لقسطل ساحة البزة في حلب تماثل مع خاني الصابون وطومان من حيث الزخرفة وطراز الأعمدة على الزوايا. أما الخان الثاني في هذه القرية فإنه يمتاز بباحته المستطيلة 29,65x20,50م ويتجه على محور شمال ـ جنوب ويحيطه رواق مقنطر يتراوح عرضه بين 5,0-5,5م. ويمتاز هذا الخان بطرازه المعماري الخاص وأحجاره البيضاء التي تميل إلى لون العنبر الجميل وشيد بدوره في القرن 13م بطراز الأبنية الحلبية المشهورة. وقد تضررت جبهته الأمامية كثيراً وقنطرة المدخل وأقسام أخرى فتم ترميمها. والشيء ذاته يقال حول الجبهة الغربية.

      بما أن هذه الخانات التي شيدت خارج أسوار حلب وفي مناطق نائية كانت عرضة لهجمات اللصوص وقطاع الطرق لذلك كانوا يقومون بتحصينها كالقلاع تقريباً. ولا عجب أن نرى بقايا سقّاطة machicoulis في القسم العلوي أوعلى الجهة الشمالية للجبهة الغربية. ومن الطبيعي وجود مسجد كمكان اجتماع عام في الخانين وهذان المسجدان هما في حالة خراب شبه كامل. أما خان العسل الواقع على طريق قوافل حلب ـ حماه الذي كان جحراً للصوص فقد وصل إلينا في حالة خراب شبه كامل منذ نهايات القرن 15م والبناء مطمور تحت الأتربة والأنقاض كذلك مدخله المبني بالطراز العربي ولم يبق من البناء سوى القليل. 

     على طريق حماه ـ حلب أيضاً وعلى بعد 110 كم عن حلب و40 كم عن حماه يقع خان شيخون. وهذا الخان الجميل الذي رمم مرات عديدة وأعيد بناؤه كان يخدم نزلاً لقوافل الحجاج المسلمين المتجهين إلى مكة المكرمة. وقد تحول هذا الخان العربي الطراز نصف الخرب الآن إلى مجرد ذكرى لأيام مجيدة خلت وتحمل القرية اسمه. وبما أن محيط خان طومان وخان العسل خال من السكان اليوم فإنه من الشيق تقديم وصف لقرية خان شيخون التي كانت إحدى أقدم المدن السورية في العصور قبل المسيحية. يقع على الطرف الجنوبي من قرية خان شيخون تل كبير بيضاوي الشكل تصل أبعاده:150م على محور شرق ـ غرب و200م على محور شمال ـ جنوب ويتراوح ارتفاعه بين 18-25 م وأبعاد القاعدة بين 200-250م. وسفح التل محروث ومزروع ويبدو أن للمدينة المطمورة تحت التل باب واحد على الطرف الجنوبي يتجه نحو مدينة حماه ولا يمكن إظهاره كاملاً عن طريق التنقيبات الأثرية لأن القرية آهلة بالسكان. وهناك صهريج كبير جيد البناء على الجهة الشرقية من الباب فقد اكتشفت على طرفي فتحته غرف على عمق 5-6 م تعود إلى عصر البرونز. وقبل التنقيبات الأخيرة بزمن بعيد حفر سكان القرية مغارات أو بالأحرى ممرات عميقة على سفح التلة يصل عمقها إلى 20 م إما للسكن أو إيواء حيواناتهم أو تخزين مؤنهم. وأثناء حفر هذه الممرات ظهر القسم الصخري من التل على عمق 24 م حيث تم اكتشاف بعض القطع الخزفية وأحجار صوانية مصقولة وكتل من الرماد وأشياء متفحمة. وقد ظهرت لقى مشابهة في الطبقات الأخرى وعلى ارتفاعات مختلفة وبقايا جدران سيئة البناء. ويوجد على سطح الطبقة الأولى بئر يتصل بصهريج تم حفره في الطبقة الصخرية على عمق 10م. وكما في الطبقة الأولى فقد اكتشفت قطع عديدة جداً من الفخاريات ومن المحتمل أن التل كان يحتوي في قديم الزمن على قلعة محاطة بسورين أحدهما لحماية الجزء العلوي منها والآخر كان قرب الخندق. ويبدو أنه أثناء بناء المدينة هنا في العصر البرونزي ظهرت الحاجة إلى إزالة أنقاض المستوطنة التي شيدت قبلاً. وفي هذه الطبقة الثانية وأثناء الحفريات ظهر تمثال خزفي أزرق جميل لخنفساء مصنوعة بالطراز المصري عليه اسم الفرعون تحوتمس الثالث. وهذا التل الذي يعود إلى عصر البرونز مغطى ب 6 م من الأنقاض وفيه بقايا 4 مدن متتالية. وتقدم الأسوار الأولية والمنشآت والخزفيات والأسلحة المكتشفة في المكان بعض المعلومات حول مراحل تطور فن البناء. ويعود بناء المدينة الثانية إلى الحقبة الممتدة بين القرنين 7-8 ق. م. من المحتمل في عهد تيغلات بيلاسار حوالي عام 735 ق. م. كموقع عسكري متقدم على طريق حلب ـ حماه. ويبدو بأن المدينة الثالثة احترقت كاملة مع سكانها بعد حصارها بسبب وجود كميات كبيرة من الرماد في جميع البيوت. وبناء على التماثيل والدمى المكتشفة تعود المدينة إلى العصر اليوناني أو الهوني. وقد اكتشفت قطع مماثلة في النيرب وتل نبي مند وغيرهما. أما الطبقة الرابعة فهي عبارة عن قرية زراعية شيدت بيوتها بالأحجار الصغيرة أو القرميد المشوي دون حفر أساسات ولا وجود لآثار حريق في هذه الطبقة. وهكذا فإن هذه الأبنية التي تعود بقدمها إلى عصر الحديد بناء على ارتفاع الطبقات واللقى الأثرية يمكن تصنيفها على الشكل التالي:

(أ) المدينة الأولى تعود إلى القرنين 10-9 ق. م.

(ب) المدينة الثانية تنتمي إلى الحقبة البابلية الجديدة والحقبة الفارسية بين القرنين 6-5 ق. م.

(ج) المدينة الرابعة إلى الحقبة الفارسية بين القرنين 5-4 ق. م. وقد هجر السكان التل نهائياً في فترة الإسكندر المقدوني. 

    على بعد 4,5 كم غربي خان شيخون وعلى طريق قلعة المضيق (أفاميا القديمة) يقع تل الآس الذي مع تل الشيخ صياد يُرى من مسافات بعيدة ويلفت شكله المنظم وموقعه انتباه المرء. وهذا التل بيضوي الشكل أيضاً كتل حلب وخان شيخون وتقع مقبرة التل على بعد 800م على جهته الجنوبية-الغربية حيث اكتشفت أثناء التنقيبات المنهجية ثمان غرف على شكل آبار مربعة وجمجمة بشرية متطاولة dolichocephale داخل إحداها إلى جانب كميات كبيرة من الخزف والأشياء البرونزية العديدة والعجيبة جداً. واكتشف بين هذه القبور القديمة أيضاً قبر يعود إلى الفترة المسيحية يحتوي على أسرجة دائرية الشكل وقناني زجاجية صغيرة رقيقة. وبعض الأسرجة تحمل صورة الصليب.

Le Comte du Mesnil du Buisson: Une Campagne de Fuilles a Khan Cheikhoun.

p. 171-188, Syrie. 1932,Paris

ينفرد “ملحق أزتاك العربي للشؤون الأرمنية” بنشر صفحات كتاب “تاريخ حلبللأسقف أردافازت سورميان.

من كتاب تاريخ حلب” للأسقف أردافازت سورميان، مطران الأرمن الأسبق في حلب، (1925 – 1940)، ترجمه عن الأرمنية الدكتور ألكسندر كشيشيان، عضو اتحاد الكتاب العرب وجمعية العاديات، حلب، 2006.

Share This