يتغير الزمن، ونتغير نحن معه

vladimir-putin-turkey-turkish-recep-tayyip-erdogan

بدأت تركيا بفرض الحصار على السفن الروسية العابرة من البحر الأبيض المتوسط الى البحر الأسود و بالعكس من خلال مضائق البوسفور والدردنيل كما أعلنت عدد من وسائل الإعلام.

يظهر نظام التعرف الآلي AIS ان السفن التركية هي التي تمخر وحدها عباب مضيقي البوسفور والدردنيل، وليست هناك اي حركة لسفن اخرى. وفي الوقت نفسه، يتواجد عدد من السفن من البحر الاسود والبحر الابيض المتوسط تحمل العلم الروسي بالأنتظار. بالاضافة الى كل هذا تظهر اجهزة المراقبة انعدام حركة السفن الروسية في داخل البحر الأسود من مينائي نوفوروسييسك وسيفاستوبول باتجاه مضيق البوسفور. ويؤكد هذا تقرير محطة CNN التلفزيونية ان تركيا قد تكون فرضت الحصار على حركة الملاحة للسفن الروسية في المضائق التركية.

نبذة تاريخية

في منتصف الثلاثينات كانت العلاقة بين دول المحور (ألمانيا وايطاليا) تقوى يوما بعد آخر. وفي نهاية 1935، وبسبب الحرب الإيطالية-الحبشية، خططت أنكلترا للارتباط مع تركيا بعلاقات صداقة متينة. وكانت المخاوف تسود من احتمال اندلاع الحرب في البحر الأبيض المتوسط بين انكلترا وايطاليا. اما المانيا فكانت مستعدة لمساندة ايطاليا بينما كانت فرنسا مستعدة للإنضمام الى انكلترا. وكانت لتركيا قيمة استثنائية بسبب المضائق وموقعها الأستراتيجي في شمال شرق البحر الأبيض المتوسط.

حوَّل العدو المرتقب والمشترك انكلترا و تركيا الى دولتين صديقتين.

لاحظت تركيا ان الوقت مناسب لإجراء بعض التغييرات على معاهدة لوزان في 1923، فقدمت في 10 نيسان 1936 مذكرة خاصة الى الدول الموقعة على اتفاقية المضائق تقترح عليها اعادة النظر في معاهدة لوزان.

وافقت جميع الدول، من ضمنها الاتحاد السوفييتي، على الطلب التركي ما عدا ايطاليا التي كانت ممتعضة من العقوبات الأقتصادية التي فُرضت عليها بسبب الحرب في الحبشة. كانت انكلترا اقوى دولة بحرية في تلك الأيام، وكان ملكها يدعى سيد البحار السبعة- قد أصبحت المالكة الفعلية للمضائق بموجب معاهدة لوزان وتتمتع بثقل غير عادي في المنطقة.

كان الوضع التركي مهزوزا و ضعيفا، و كان من السهولة ان تصبح حليفة لروسيا. ولم يكن يوجد اي مجال للأختيار امام الأتحاد السوفييتي، فاذا لم تصبح هي المسيطرة على المضائق،  فمن الأفضل ان تكون تركيا مالكتها…ولكن ليست انكلترا اطلاقا تحت أي مسمى.

عقد المؤتمرون اعمالهم في 22 حزيران 1936 في مونترو في سويسرا لإعادة النظر في مقررات لوزان. جاءت المناقشات حول مسألتين رئيستين:

1- هل من الممكن السماح للسفن الحربية للدول المطلة على البحر الأسود بالخروج الحُر؟

2- هل من الممكن السماح للسفن الحربية للدول الأخرى بالدخول الحر الى البحر الأسود؟

ولعدم الإطالة في التفاصيل الدقيقة لهذا الموضوع، كانت الألاعيب الدبلوماسية بين المندوبين تصب جميعها ضد الأتحاد السوفييتي، و كان الوفد الروسي عارفا بكل هذه الأمور، ولهذا السبب، وفي الأيام العصيبة من اعمال المؤتمر، اعلن ان روسيا لن تضع توقيعها في أسفل اتفاقية موجهة ضد مصالحها، فاتصل الوفدان الأنكليزي والتركي بعاصمتيهما، لندن وأنقرة  لمزيد من التعليمات.

كانت توجيهات انتون إيدن وعصمت إنوينو تقضي بالموافقة على المطالب الأساسية الروسية.

في 20 تموز 1936، وقعت في مونترو في سويسرا على الأتفاقية الجديدة للمضائق، وجاء فيها:

1- أُعيد تثبيت حقوق سيادة تركيا على المضائق والآراضي المحيطة بها مع تحصينها وإبقاء قوات مسلحة فيها.

2- توقفت اعمال اللجنة الدولية للمضائق.

3- تحويل حق مراقبة السفن المارة عبر مضائق البوسفور والدردنيل الى تركيا.

4- أُعطي حق المرور الحر للقوات البحرية لدول البحر الأسود من المضائق من دون قيود مشددة.

5- وضعت قيود صارمة على دخول القوات البحرية للدول غير الواقعة على البحر الأسود اليه.

6- يمنع مرور السفن الحربية التابعة لأي دولة من المضائق في وقت الحرب، و عندما لا تكون تركيا طرفا فيها.

7- تبقى مسألة عبور السفن الحربية لأي دولة عبر المضائق متعلقة بالإرادة التركية في وقت الحرب، وعندما تكون تركيا طرفا فيها. ويبقى هذا الشرط نافذاعندما لا تكون تركيا طرفا في الحرب، ولكنها تعد نفسها مهددة بها.

8- بموجب الفقرة 24 من الأتفاقية كانت تركيا ملزمة ان تقدم دوريا الى الدول الموقعة على الأتفاقية  تقريرا عن السفن الداخلة والخارجة من والى  المضائق (لم تحقق تركيا هذا الطلب طيلة سنوات الحرب العالمية الثانية.)

9- حُددت السنة 1956 موعدا لأنتهاء مفعول الأتفاقية، ومن الممكن اعادة النظر فيها بمشاركة جميع الدول الموقعة في مونترو.

و باختصار شديد تحتوي اتفاقية مونترو على 29 مادة، واربعة ملاحق و بروتوكول واحد. تتناول المواد 2-7 ملاحة السفن التجارية عبر المضائق. وتعنى المواد 8-22 بمرور السفن الحربية. وتذكر المواد 1 و 2 مسألة حرية الملاحة عبر المضائق. فتذكر المادة 1 “تعترف الأطراف السامية الموقعة على الأتفاقية وتؤكد على مبدأ المرور الحر والملاحة البحرية الحرة في المضائق.” وتذكر المادة 2 “في حالة السلم، تتمتع السفن التجارية بحرية المرور والملاحة في المضائق، نهارا وليلا، تحت حماية اي علم وحمولة اي نوع من البضائع.”

كان موضوع بنود أتفاقية مونترو محل خلاف دائم على مر السنين فيما يتعلق مرور السفن الحربية الروسية الى المياه الدافئة للبحر الأبيض المتوسط. ووقِعت على الأتفاقية في 20 تموز 1936 في قصر مونترو في سويسرا ودخلت حيز التنفيذ في 9 تشرين الثاني 1936 ثم سُجلت في سجل معاهدات عصبة الأمم في 11 كانون الأول 1936.

بعد ان كانت انكلترا ترعى تركيا وتحافظ على كيانها لئلا تقع فريسة في براثن الدب الأحمر، أخذت امريكا هذا الدور للحفاظ على سلامة تركيا من براثن الدب الروسي. وأما الدب الروسي فهو نفسه ولا يهم إن كان يلبس الأبيض كما في زمن القياصرة، ثم استبدل لباسه الى اللون الأحمر في عهد السوفييت، فنزعه ولبس الأبيض ثانية، فهو راعي مصالح روسيا على الرغم من تنوع لباسه.

والآن

تستغل تركيا الصلاحية الممنوحة اليها، ولكنها لم تعلن صراحة انها تغلق المضائق امام السفن البحرية الروسية لأن تركيا “مهددة بالغزو” أو تعتبر نفسها في “حالة حرب”.

تعتبر التطورات الناتجة عن غلق المضائق امام البحرية الروسية ذات ابعاد مخيفة وخطرة بدرجة عالية، لأن فرض الحصار البحري على اسطول البحر الأسود الروسي ومنعها من الخروج او الرجوع الى موانئها لن تستطيع روسيا هضمها ابدا.

ففي الوقت الذي امر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بنشر 150,000 من القوات الروسية والمعدات في سوريا، حرّك في الوقت نفسه 7,000 جندي مع الدبابات وراجمات الصواريخ والمدفعية الثقيلة نحو الحدود الروسية-التركية في أرمينيا. من المهم ان نشير الى هاتين النقطتين:

1- تركيا دولة عضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو) مع الولايات المتحدة ومعظم الدول الأوروبية،

2- اطلقت تركيا الطلقة الأولى نحو روسيا عندما أسقطت طائرة السوخوي الروسية فوق الأراضي السورية، ثم ركضت الى الناتو للاحتماء بها من رد فعل روسيا.

كدولة عضو في الناتو، بإمكانها ان تحتمي بالمادة 5 من ميثاق المنظمة التي تستوجب ان تدافع الدول الأعضاء الأخرى عنها عندما تتعرض الى الهجوم من دولة خارجية. فاذا قررت روسيا ان ترد على اعلان الحرب من قبل تركيا، فمن المحتمل جدا ان تدعو الأخيرة حلفاءها في الناتو للدفاع عنها ضد روسيا. لقد اثبتت هذه الأخيرة بالصور الملتقطة عن طريق اقمارها الصناعية ان طائرة السوخوي لم تكن في الأجواء التركية، وبطبيعة الحال اثبتت امريكا وانكلترا وفرنسا الحقيقة ايضا على الرغم من عدم افصاحها الامر.

والسؤال المطروح هو “لماذا اسقطت تركيا الطائرة الروسية؟” والجواب المنطقي لهذا السؤال هو:

1- تركيا تسمح لداعش ببيع النفط المسروق من العراق وسوريا أن يمر عبر الاراضي التركية، في الوقت الذي كان اردوغان يجني ملايين الدولارات من النفط الرخيص المباع في السوق السوداء.  فالغارات الروسية على آلاف ناقلات النفط الحوضية قد “حرمت” تركيا “حقها” في النفط الرخيص.

2- اختبأت تركيا خلف ميثاق الناتو ودعت الدول الاعضاء الى مساعدتها في حال شن هجوم روسي عليها، وكانت تظن ان حليفاتها ستركض وتعلن الحرب على روسيا. وهذه طبيعتها. كأنما التاريخ يعيد نفسه عندما كان السلطان الأحمر يحتمي خلف بريطانيا (التي كانت عظمى) وبالذات خلف رئيس وزرائها دزرائيلي كلما ضاق الحال به، الى ان تنازل السلطان الى انكلترا جزيرة قبرص. والحديث يطول…

يقول المثل اللاتيني: tempora mutantur, mutantur et nos illis . وهذا هو عنوان البحث الذي لا ينطبق على تركيا من دون الأمم.

آرا دمبكجيان

Share This