حلب بين انكشارية الأمس واليوم

1-32

يقولون: لما كان التاريخ مرآة الأمم، يعكس ماضيها، ويترجم حاضرها، وتستلهم من خلاله مستقبلها، كان من الأهمية بمكان الاهتمام به، والحفاظ عليه، ونقله إلى الأجيال نقلاً صحيحاً، بحيث يكون نبراساً وهادياً لهم في حاضرهم ومستقبلهم. فالشعوب التي لا تاريخ لها لا وجود لها، إذ به قوام الأمم، تحيا بوجوده وتموت بانعدامه.
من لا تاريخ له لا حاضر له، هذهِ مقولة نؤمن بها جميعاً، فالتاريخ دوماً هو الحافز الدافع للإنسان في سبيل تحقيق الأفضل..
وبلاد الشام ذات تاريخ عريق قديم عتيق، فلا بد لنا حين نفتح صفحات التاريخ أن نسمع صهيل الجياد الشامية، ووقع خطاها على تاريخ الشعوب والأمم

وبلاد الشام عبر تاريخها العريق كانت محط أطماع الغزاة ولصوص الليل والنهار فجاءها من وراء البحار والصحارى ومن خلف دجلة والفرات غزاة يصعب ذكرهم جميعاً، فكان منهم الإسكندر ذو القرنين، هولاكو، تيمورلنك، المماليك، العثمانيون وجيشهم الانكشاري، الفرنسيون…. وقد عاثوا فساداً وقتلاً في بلادنا الشامية… ورحلوا جميعهم وبقيت الشام صامدة شامخة تنثر الورد والفل والياسمين على أنحاء العالم وتخط تاريخها أنها بلاد العز والحضارة..

والآن تتعرض ديارنا لغزاة جدد من العربان والأعراب بالتحالف مع الانكشارية؟! ويمارسون بحق ديارنا وأهلنا من قتل وسحق وبقر بطون وقطع رؤوس.. ما كان يمارسه الانكشاريون بحقنا منذ نحو 500 عام؟!
فهل التاريخ يعيد نفسه.. الوجوه تغيرت ولكن الإرهاب واحد ويد القاتل واحدة والعقل المتحجر واحد، والضحية ديارنا وأهلنا… لا بد من العودة للتاريخ ولنقرأه بتؤدة وتجرد.. ما الانكشارية ومن الانكشاريون، ونتساءل هل يعيد التاريخ نفسه؟

الانكشارية

مجموعات عسكرية من الأتراك العثمانيين شكلوا تنظيماً خاصاً، لهم ثكناتهم العسكرية وشاراتهم ورتبهم وامتيازاتهم، وكانوا أقوى وأقسى فرق الجيش العثماني وأكثرها نفوذاً وتسلطاً وقتلاً. لا يعرف على وجه الدقة وقت ظهور الانكشارية، ولكن يحدد المؤرخون ظهورهم في منتصف القرن الرابع عشر الميلادي، حتى عام 1826 م وهو تاريخ القضاء عليها.

الانكشارية في نشأتها الأولى كانت جيشاً من العبيد وقد أُخذ هؤلاء العبيد في بادئ الأمر من أسرى الحروب، الذين وقعوا في أيدي العثمانيين، من الأطفال والفتيان، في أثناء حروبهم مع بيزنطة ومع أوروبا الشرقية. ولكن سلاطين بني عثمان لم يلبثوا أن لجؤوا إلى طريقة أخرى لتزويد جيشهم بالجند، فعملوا على جمع الصبية، والفتيان من رعاياهم في شبه جزيرة البلقان وآسيا الصغرى، وقاموا بتربيتهم تربية عسكرية قاسية لا تعرف الرحمة، وأحدثوا قطيعة بينهم وبين أصولهم، وتربوا على أن السلطان والدهم الروحي، وأن الحرب والقتل صنعتهم الوحيدة.
اعتمد الأتراك العثمانيون بشكل أساسي لرفد الجيش الانكشاري بالعناصر على اقتلاع الشباب من الأسر المسيحية وإجبارهم على اعتناق الإسلام، وفق مبدأ التجنيد الذي سمي بـ«الدوشرمه» (أو الدويشرمه) في عملية جمع دورية تجري بشكل مستمر أقله سنوياً، وفي كل مره يقتلعون عناصر انكشارية جديدة ما يقرب عددها 8000 إلى 12000 فرد.. نظام الجمع هذا يتضمن أخذ واحد من كل خمسة أبناء لكل أسرة مسيحية لتعزيز الانكشارية، ويسند الأتراك هذا التجنيد(أو الدويشرمه) إلى ضريبة إسلامية شرعية أطلقوا عليها اسم «ضريبة الغلمان» أو «ضريبة الأبناء»، وهي ضريبة زعموا أنها تبيح للمسلمين العثمانيين أن ينتزعوا خُمس عدد أطفال كل مدينة أو قرية نصرانية، باعتبارهم خُمس الغنائم التي هي حصة بيت مال المسلمين؟؟!!

كان هؤلاء الجنود الانكشاريون يربون تربيةً عسكرية في معسكرات خاصة بهم، في قصور الحكام الأتراك في بورصة، وأدرنة، أو في مدارس القصور الخاصة التي أنشأها السلطان سليمان القانوني (927-974هـ/1520-1566م) في غلطة واصطنبول والمسماة مدارس الإيج أوغلان، إضافه لفنون الحرب التي كانوا يتدربون عليها كانوا يتلقون مختلف العلوم الإنسانية كالدين الإسلامي واللغة وغيرها، وفي أثناء تعليمهم يقسمون إلى ثلاث مجموعات: الأولى تعد للعمل في القصور السلطانية، والثانية تُعد لشغل الوظائف المدنية الكبرى في الدولة، والثالثة تعد لتشكيل فرق المشاة في الجيش العثماني، ويطلق على أفرادها الانكشارية، أي الجنود الجدد، وكانت هذه المجموعة هي أكبر المجموعات الثلاث وأكثرها عددًا.

وكان على رأس القطعات الانكشارية الثلاث آغا الانكشارية (يني شري آغاسي). وكان شخصية كبيرة في الدولة، فالعسكر الجديد كله في جميع أنحاء الدولة العثمانية تحت إمرته.

وكان الجند العثماني في سورية مؤلف من 3 أقسام: الانكشارية السلطانية الذين يرسلهم السلطان من الآستانة ويسمون القبوقول وولاؤهم للسلطان في الأستانة ويستطيع الوالي استخدامهم وفق صلاحيات معينة، طوائف من المرتزقة الذين استوردهم الولاة من الجزائر والمغرب والموصل، أو من الأرناؤوط والبوشناق والأكراد والتركمان وبرز من فرقهم الدالاتية واللاوند والسكمان وولاؤهم للولاة الذين ينفقون عليهم، عناصر محلية تحت زعامات الأعيان المحليين ويسمون اليرلية وولاؤهم للأعيان المحليين «عبد العزيز محمد عوض».

لقد عانت الشام كثيراً من الصراعات المتكررة فيما بين فرق الجنود. إلى جانب جند الولاة، وارتكبت المجازر الكثيرة من الانكشارية في حق أبناء الشام، من قتل وتنكيل ونهب وسلب وسبي، ومن مجازرهم ما رواه المؤرخ كامل الغزي عما فعلوه في مدينة حلب..

حلب
يسهب المؤرخ المعروف كامل الغزي في كتابه «نهر الذهب في تاريخ حلب» في الحديث عن فظائع ومجازر وجرائم الانكشارية في حلب، فقد كانت عساكرهم تقترف من الآثام والشرور، وهتك الأعراض، ونهب الثروات، ومعاملة الناس بالجبروت والقسوة، ويتسلطون على حياة الناس الخاصة، ويفرضون عليهم ما يجب أن يأكلوه أو لا يأكلوه… وكمثال لفظائع الانكشارية التركية، يذكر الغزي واقعة جامع «الأطروش» في حلب فيقول: «في رمضان سنة 1212ه عظمت الفتنة بين السادات واليكجرية» وهم الانكشارية «في حلب وجرى بينهما منازعة وقتال، وتغلب الانكشارية على السادات، فالتجؤوا إلى جامع الأطروش، وحوصروا فيه، ومنع الانكشارية وصول الماء والقوت اليهم وشددوا عليهم الحصار، ونفدت أقواتهم، وعيل صبرهم، وأشرفوا على الهلاك من الجوع والعطش، فاستأمنوا الانكشارية، فأمنوهم على أنفسهم، وحلفوا لهم الأيمان المغلظة على ذلك فوثق السادات بهم، وفتحوا أبواب الجامع، فما كان إلا أن هجم الانكشارية عليهم، وفتكوا بهم قتلاً وجرحاً وسلباً وسبياً، والسادات يستجيرون بهم، ويستغيثون بالنبي وآله فلا يلتفتون إليهم. وكانوا يقتلون السادات على أنحاء شتى، فمنهم من يقتلونه نحراً في عنقه، ومنهم من يبقرون بطنه، ومنهم من يفلقون بالسيف هامته، ومنهم من يذبحونه من قفاه أو من عنقه، ومنهم من يطرحونه في البئر أو في حفيرة حياً، وكان السيد يستغيث بشربة ماء قبل أن يقتلوه، بل يقتلوه ظمآناً، ومن الغريب أن انكشارياً ظفر بأخيه السيد وأراد أن يقتله فاستغاث بشربة ماء قبل القتل فبال في فمه وقتله».
ويقول الصحفي العريق بشير فنصة في كتابة «النكبات والمغامرات»: «يروي لنا الآباء نقلاً عن الأجداد، الشيء الكثير عن المنكرات والمخازي التي اقترفها عساكر الانكشارية، فكانوا يؤجرون البيوت لمن يشاؤون، ثم يخلونهم منها متى يريدون، ويستملكون ما يروق في أعينهم من عقارات وأراض بقوة السلاح، ويبيعون ويشترون على هواهم، ويتعاطون ما يطيب لهم من أعمال على الرغم من أنهم عساكر من عساكر السلطان، مكلفون بالدفاع عن مملكته. كانوا في الهزيمة أمام الأعداء كالغزلان…».

إن ما ارتكبه الجيش الانكشاري العثماني بحق رعايا الدولة العثمانية، هو شيء يسير من مجازر هذه الدولة، وإن فتحنا صفحات التاريخ نقرأ: مجازر عثمانية

وبقراءة سريعة نستعرض بعض مذابح ومجازر الأتراك بحق المشرقيين، ففي عام 1515م استباحوا حلب ومعرة النعمان أسبوعاً كاملاً واستشهد من جراء ذلك قرابة 40 ألفاً في حلب، و15 ألفاً في معرة النعمان، في عام 1516م استباحوا دمشق ثلاثة أيام واستشهد 10 آلاف شخص، في عام 1516م استباحوا ريف إدلب وحماة وحمص والحسكة واستشهد عشرات الآلاف، في عام 1847م ارتكبوا مذابح بدر خان حيث استشهد أكثر من 10 آلاف في منطقة أنطاكيا، في عام 1895 ارتكبوا مجازر ديار بكر وطور عابدين واستشهد أكثر من 15 ألفا من الأرمن، في عام 1909م قتل العثمانيون 30 ألف أرمني في مدينة أضنة، ما بين عامي 1914– 1916 استشهد قرابة 600 ألف سرياني في منطقة جبال طوروس وجبل آزل، ما بين عامي 1915– 1916 تم الانتهاء من مجازر الأرمن باستشهاد مليون وربع المليون أرمني في منطقة ديار بكر– أرمينيا– أذربيجان– شمال العراق– شمال حلب– الأناضول– أضنة– طور عابدين– طوروس، وما بين عامي 1916– 1920 كانت مجازر السريان والأشوريين حيث استشهد ما بين 400– 500 ألف سرياني في سهل أورميا، وتعرف بمذابح سيفو وأيضاً من المذابح الجماعية والإبادة التي تعرض لها الروم الأرثوذكس بيد العثمانيين والأتراك الاتحاديين…مذبحة أطفال مدرسة حلب اليونانية الأرثوذكسية

وبعد..من المعيب والغريب أننا نسمع بين الفينة والأخرى أن تلك الدولة أو السلطنة العثمانية كانت فتحاً لبلادنا، وأنهم أي «العثمانيون» حماة الدين والحق… يقولون إنهم تركوا بصمات معمارية عظيمة في بلادنا، وتركوا أيضاً لنا ذكريات مؤلمة عن السفر برلك وأخذ عسكر ومذابح لن تنسى، ولن تمحى من الذاكرة الشعبية وصفحات التاريخ..
التاريخ لا يرحم، لا يرحم أحداً ولا ينسى الأحداث بل يسجلها في كل لحظة‏، والآن بعد مرور أكثر من أربعمئة عام على خروج المحتل العثماني من بلادنا، ما زلنا نستذكر إجرامهم وسفكهم لدماء آبائنا وأجدادنا، والتاريخ يسجل الآن أن هنالك حلفاً شيطانياً بين العربان والأعراب والأتراك للنيل من شامنا، وأن الانكشارية التركية في العصور السابقة هي ذاتها الانكشارية التي يمارسونها على أرضنا وشعبنا، والأسلوب والحقد نفسهما ولكن أحياناً بدموية أكثر..
مرت على بلادنا جحافل من الغزاة والجناة واللصوص والحرامية وقطاع الطرق وجميعهم راحوا إلى مزابل التاريخ وبقيت الشام شامة الدنيا.

شمس الدين العجلاني

الوطن

Share This