الطباعة الأرمنية (1512ـ 2016 م )

امجد عزت

د. ماجد عزت إسرائيل*   

احتفل العالم في هذا العام 2012 بمرور500 عاماُ على بداية الطباعة في أرمينيا (عام 1512)، حيث اختارت منظمة اليونسكو مدينة “يريفان” عاصمة أرمنيا “عاصمة للكتاب العالمى هذا العام 2012م”، وشمل الاحتفال تنظيم ندوة عن “ماضى وحـاضر الطـباعة الأرمنية”، وفي ايلول 2011 نظمت مكتبة الإسكندرية بمصر الندوة الدولية الرابعة “لتاريخ تطور الطباعة”، و تشارك جامعة القاهرة احتفالات الأرمن بالطباعة فى ندوتهـا السنوية وعنوانها “500 عاماً على الطباعة الأرمنية”.

ومن يتأمل تاريخ تطور الطباعة يلاحظ أنها تمثل أهم مقومات النهضة والحيوية، ففيها الدعامات الفكرية التي قامت عليها الحضارة ببعدها الإنساني، ومن المعروف أن الطباعة البدائية بدأت بالصين بقطعة خشبية تختم على جلود الحيوانات في القرن الخامس عشر الميلادى، ثم سرعان ما انتقلت هذه الفكرة إلى قارة أوروبا على يد أحد الرحالة الأرمن واسمه “انطون”، واستطاع تطويرها، وكانت النواة الرئيسة فى اختراع مطبعة “يوحنا جوتنبرج” (غوتنبرغ) فى عام 1439م، وبحلول عام 1512م، كانت هناك قوالب معدنية وأدوات والآت خاصة بالطباعة، ساهمت فى الاحتفاظ بالعديد من الكتب والوثائق.

ومع منصف القرن السادس عشر الميلادى، كان الأرمن قد نجحوا فى أدماج الحبر الأسود مع الأحمر لأول مرة فى تاريخ الطباعة، على يد “هاكوب ميغابارد”، وطباعة الكتاب الأول للصلوات الأرمنية المعروف باسم”الجمعة” وبعدها تم طبع الكتاب الثانى وهو” الكتاب المقدس”وبدأت تتوالى العديد من الكتب و المطبوعات تدريجياً  .

وخلال القرن السابع عشر الميلادى تبلورت فكرة الطباعة وزادت مراكزها،  ونتيجة لذلك تعددت المطبوعات والتراجم ونذكرمنها على سبيل المثال كتاب (التركيب والتفكير العقلانى) عام 1675م، وكتاب (قاموس اللغة اللاتينية والأرمنية) وفي خلال القرن الثامن عشر الميلادى ،ساهمت عائلة “شاهاميريان” في (الهند) من أنشأء مدرسة و مطبعة ، ساهمت في طبع كتاب (دفتر جديد للوعظ) (1772م)، وكتاب (كمين الكلمات) عام (1773م) .

كما أنتشرت مراكز الطباعة الأرمنية فى المدن المجاورة لأرمينيا، خاصة مراكز الطباعة بمدنية القسطنطنية والمعروف باسم “كريكور مازونيتسى” وساهم فى طبع العديد من الكتب منها “تاريخ الأرمن” عام (1709م)، وكتاب “تاريخ بلاد دارون” عام (1719م)، وكتاب “الأستفسارات” عام (1720م)، أما مركز”الكاهن” فساهم بطباعة كتاب “اللغة الأرمنيـة” عام (1727م) وكتاب “تاريخ الأرمن” لكاتبه “غازار ياريتسي” عام (1793م) أما مركز الطباعة الأرمنية بمدنية موسكو، فيرجع الفضل في إنشائه إلى “كريكور خالتاريان”، تحت رعاية الأسقف الأرمني لذات المدينة، كما ساهم مركز جولفا الجديدة (إيران) في طباعة كتاب “المزامير” عام (1783م)، وكان مركز إيتشميازين للطباعة الأرمنية لايقل أهمية عن مركز طباعة مدينة موسكو.

ومع اوائل القرن التاسع عشر الميلادي، كانت الطباعة الأرمنية قد انتشرت في شتى بقاع المسكونة، بفضل المجتمعات الأرمنية التى توجد في الشتات، وكان للشرق العربي وخاصة فى عواصم المدن مراكز لها مثل مدينة القدس وحلب ودمشق، ويرجع الفضل إلى “رزق الله حسون” المولد فى مدينة حلب السورية (1825ـ 1880م) في طبع أول جريدة عربية، تعرف باسم”مرآة الأحوال” وهي التي صدرت فى مدينة اسطنبول عام (1855م) وانتشرت فى بلاد الشام.

لقد شكل اختراع الطباعة بصفة عامة أساسا متينا للثورة المعرفية، فى تطور حركة البحث العلمي،وكانت اساساً للاتصال والتواصـل الحضاري بين المجتمعات، وبسبب شيوع الطباعة تداعت تلك الأسوار العتيدة التي كانت تحيط بها المجتمعات سابقا عقائدها ،وتقاليدها، وتراثها، حيث تسلل الكتاب هـذه الأسوار، وعبر كل الحواجز، فاخترقت المـجتمعات من خـلال الكتب بسهولة، حتى انتهى العالم أخيرا إلى منطقة واحـدة، لما يسرته الطباعة من الاتصال، وكذلك وسائل الاتصال الأخرى، التي توجد فى عصرنا الحالى

وكان للطباعة فضل في تقارب الأرمن واختلاطهم بالطوائف الأخرى، وتعرضهم للشتات في الأرض أن انعكس ذلك على فكرهم في الأدب والفنون، وصبغ بعض إنتاجهم الفكري بوشيجة الشعور الإنساني العام مع بروز طابعهم الشخصي، وبدا ذلك أكثر ما يبدو لدى شعرائهم، والشاعر أكثر ما يكون إحساسا بما يدور حوله بما انطبع عليه من رهافة الحس وسعة الإدراك، ولذا لم يكن بدعاً أن يظهر من الأرمن شعراء كبار يشاركون في مدار الأدب الإنساني، منذ عهد قديم.

ويرجع الفضل للطباعة الأرمينية في إضافة لمسات إلى فنون العمارة، كما يعود إليهم الفضل في إدخال فن الفوتوغرافيا، وإنشاء استوديوهات للتصوير في زمن وجد معارضة من جانب رجال الدين، وكان من دواعي تفردهم بطابع خاص أن صارت لهم عادات وتقاليد كانوا حريصين على الحفاظ عليها، وكان لنمو حركة الترجمة من اللغة الأرمينية إلى اللغة العربية والعكس، وبعض اللغات الآخرى؛ زيادة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بين الجالية الأرمينية والجاليات الآخرى، وهو ما تواصل إلى عصرنا الحديث.

* أكاديمي مصري، دكتوراه الفلسفة في التاريخ الحديث والمعاصر، عضو الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، عضو لجنة التاريخ والتوثيق بهيئة قصور الثقافة.

Share This