الرسام والشاعر العراقي الأرمني أرداش كاكافيان باريسي الهوى بغدادي المزاج

elbashayer_image_1453651385

رأيته مرة واحدة. التقينا على سلم حجري قصير في قصر صار محطة للفقراء من المثقفين. لا تزال رائحة تبغ غليونه تملأ أنفي. الرجل الممتلئ، قصير القامة بلحية سوداء مهذبة كان هو أرداش كاكافيان، الباريسي الطباع ذو المزاج البغدادي المنفعل.

ستحرجه باريسيته حين يُزاح بخفة من تاريخ الفن التشكيلي في العراق. فالرجل الذي ظل عراقيا في رسومه إلى النهاية لم يعش إلا ثلث حياته الأول في العراق. أما الثلثان الآخران فقد قضاهما في الخارج، مواطنا فرنسيا.

ولكن عراقيته كانت هي الأخرى أشبه بالمزحة التي تكشف عن انتماء وطني، يعتبره البعض منتحلا.
الرسام الذي ظل يحنّ إلى بغداد من خلال رسومه كان أرمني الأصل. أما حين مات فقد كانت وصيته أن يذر رماد جسده في نهر دجلة.

كان يمكن أن يكون جزءا من الفريق الستيني الذي غيّر مصير الرسم في العراق، لولا أن إقامته في باريس قد جعلته يقف وحيدا.

وبالرغم من أنه لم يعرض إلا نزرا قليلا من لوحاته في بغداد فإن الكتب التي أرّخت لسيرة الحداثة الفنية في العراق كانت قد ضمت اسمه وضمنت له حقه في أن يكون جزءا من تلك السيرة.

أرداش الذي كتب الشعر في مختلف مراحل حياته، من غير أن يسعى إلى تقديم نفسه شاعرا، كان حريصا على أن يكون الرسم فعلا ثقافيا، إن على مستوى الإنتاج أو على مستوى التذوق. وهو ما دفعه إلى اعتماد التعبيرية أسلوبا في الرسم.
الذاهب إلى لاروس بقوة باريسيته.

ولد أرداش (أرادشيس) كاكافيان في الموصل، شمال العراق عام 1941 في عائلة كانت قد هاجرت من ديارها بعد المذبحة الكبرى التي ارتكبها الأتراك أوائل القرن الماضي. في وقت مبكر من شبابه انضم إلى جماعة بغداد للفن الحديث التي كان الفنان الرائد جواد سليم قد أسسها عام 1952. في وقت مبكر أيضا دخل السجن لأسباب سياسية وهو ما فع بعائلته إلى أن ترسله إلى باريس عام 1961، لكن بشرط أن يدرس الهندسة المعمارية، لخشيتها من أن يتغلّب عليه شغفه بالرسم.

قصائد ينسبها عدنان المبارك “ناقد فن عراقي مقيم في وارسو” إلى صديقه أرداش كاكافيان:

1

الناس أنواع كالبضائع في السوق، الروح واحدة لتهب الريح
ليتفتح البرعم ليأخذنا الحصان إلى الحقول.

2
قلبي مسّه السكون قبل الأوان
قلبي دودة قزّ
كانت في شرنقتها قبل الأوان
في بياض قلبي الصغير
دفنت كل ما ملكته، أنزل إليه مع الغروب
لأعيش معما جمعته وثروتي
حياتي التي عشتها عبر نفسي.

3
دوائر القمر أسلاك شائكة
أخيط بها أنسجة قلبي
وأفتح بها مجاري دمي
أسلاكي الشائكة عنابر من الضوء
لمنتصر بلا قوة.

4
في بلدتنا، سواد الأشباح
يملأ الطرق، في بلدتنا،
يختلط الزفت بشعاع الشمس.
الأقمار تمرّ في الغربة
حيث الأصدقاء لم يبق منهم
غير الذكريات.

5
في ساعات الشمس
ضحكاتنا كانت حواراً للأرض.
كنا نحترق مع ظلالنا،
نحترق كطيور مغتربة،
مرّات ومرّات
كنا نجوب الآفاق
بحثاً عن الفجر.

6
كنت أقول
رحيلنا
ليس إلا فراغاً.
كنا ثواراً
في أرض تحرقها الشمس
كنا نحترق
مع الأزهار،
عبثاً.
كان الشاب وفيا للوعد الذي قطعه لعائلته فحصل بعد سنوات على ليسانس في العمارة، وهو ما حرره ليقبل على دراسة الرسم في باريس التي صارت مستقرا نهائيا له. أقام معرضه الشخصي الأول في قاعة الرياح الأربع وهو ما جعله حاضرا بقوة في الحياة الفنية لمدينة النور وقد يكون ذلك الحضور هو السبب الذي من أجله ضمت موسوعة لاروس الفرنسية شيئا من سيرته بين صفحاتها بدءا من عام 1971. لم يكن يومها الرسام العراقي الأول الذي دخل اسمه إلى موسوعة معرفية، بل كان الوحيد.
في بداياته تعلّم الشيء الكثير من تجربتي الفنانين حافظ الدروبي وجواد سليم، غير أنه في باريس وجد في نفسه ميلا إلى رسوم النرويجي إدفارد مونخ والفرنسي بول غوغان، وكان يسرق النظر أحيانا إلى رسوم المصري محمود سعيد.
ميله إلى الأسلوب السوريالي جاء متأخرا، لذلك لم تكن سورياليته نقية وصارمة. لقد أبقى طرقه مفتوحة على التعبيرية والانطباعية مازجا بين المدارس الفنية ليكون ذلك المزج قاعدة لأسلوبه الشخصي الذي كان انعكاسا لتربية معمارية تولي تواشج المفردات في ما بينها اهتماما لافتا.
بغداده التي لم تغادر الخمسينات
“كنت أظن أنني بارحت بغداد ورحلت عنها، لكنها حقيقة أصبحت قطعة مني، فحينما أتحدث أشعر أن بغداد هي التي تتكلم” قال أرداش ذات مرة.
وهو قول يفسر لجوءه المستمر إلى رموز بصرية مستعارة من حضارة وادي الرافدين. فالقارب الذي يظهر في الكثير من لوحاته هو قارب سومري. قارب المعدان في أهوار العراق نفسه. ذلك القارب وإن كان يشير إلى السفر بما ينطوي عليه من شعور بالغربة التي يتخللها الحنين فإنه يظل على المستوى الجمالي واحدا من أهم المفردات التي تعيد الرسام إلى ثقافته البصرية الأولى.
بالنسبة إليه فقد أهّله الرسم للإمساك بعصا الساحر التي تستحضر في أيّ لحظة يشاء المفردات التي تعيده إلى بغداد حلميا. بدا واضحا أن الرجل الذي توفي عام 2000 قد استولت عليه فكرة أن يكون عراقيا من خلال الرسم بعد أن حرمته شهوة الإقامة في باريس من أن يكون مواطنا محليا.
كانت مواطنته بمثابة درس جمالي. وقد أجازف في الحكم النقدي حين أقول إن كاكافيان وقد شدته المحلية إلى قعرها التعبيري كان ابن جماليات الفن الخمسيني بالرغم من أنه كان ابن الثقافة الستينية التي نزعت إلى العالمية. ربما حدث ذلك لأن أرداش كان قد غادر العراق قبل أن تشهد الحياة الفنية ظهور رسامين انقلبوا على المفاهيم التي كرّسها الفنانون الرواد.
لا أعتقد أن فنانا من نوع أرداش كان يهمّه الاطّلاع على تطورات الحياة الفنية في العراق بعد أن اندمج بالحياة الفنية في باريس. بغداد الخمسينات هي المدينة التي ظل أرداش يناجيها حتى نهاية عمره.
رسوم تلتفت إلى الماضي بشوق
ما عرفه العراقيون من أرداش كاكافيان هو شيء قليل مما أنجزه. لذلك لم يكن له أثر في ما أنتجه الرسامون الذين ظهروا في محلة ما بعد الستينات. كم كان ضروريا لو أن وصفته الشرقية قد وصلت إلى أولئك الرسامين. كان في إمكان تلك الوصفة لو أنها طورت وتعرضت لأبحاث مختبرية أن تكون قاعدة لقيام فن مختلف. فن يكون بمثابة حاضنة لتزاوج المحلي بالعالمي، بطريقة تحفظ للشرق حقوقه في ابتكار جماله المختلف.
كان أرداش كاكافيان معجبا بتجربة وأفكار شاكر حسن آل سعيد (1925 ــ2004) لأسباب تتعلق بطريقة هضم الفن الشعبي والانفتاح به على فضاء التشكيل المعاصر. ما لم يكن يتوقعه أرداش أن يتحول آل سعيد إلى التجريد. لقد اكتفى بما قدّمه الرجل في الخمسينات. ذاكرة أرداش الخمسينية هي ما جعلته يقف عد حدود تجربة فنية، كان صاحبها قد تركها وراءه، بعد أن خاض مغامرات أسلوبية لا تزال تثير الكثير من الأسئلة.
بالنسبة لأرداش كان لغز الحياة البغدادية يكمن في ما رسمه آل سعيد في خمسينات القرن الماضي. ومَن يرى رسوم كاكافيان اليوم لا يمكنه سوى أن ينسبها إلى ذلك الزمن. فهي رسوم تلتفت إلى الماضي بشوق. ذلك الماضي الذي يضم الحياة والفن في سلّة واحدة. ما يُرى من بغداد في رسوم كاكافيان هو عبارة عن تفاصيل حياة عاشها الرسام وحملها معه لتكون في ما بعد دليل متحفه الخيالي.

موقع البشاير

Share This