نشوء الإمارات العربية الأولى في أرمينيا الكبرى.. طبيعة الحكم العربي في أرمينيا.. من كتاب “الإمارات العربية في أرمينيا البقرادونية” للمؤلف المستشرق الدكتور البروفيسور آرام تير-غيفونديان (4)

arm600

الفصل الأول

طبيعة الحكم العربي في أرمينيا

امتازت حقبة الاحتلال العربي لأرمينيا بسمات تميزها عن العهدين السابقين وتحديداً الفارسي والبيزنطي. وكان أساس سياسة هاتين الإمبراطوريتين هو ربط أرمينيا بهما بشتى الأواصر الدينية والإجتماعية ولم تكن فكرة استيطان أرمينيا موجودة في هذه الفترة لدى تلك العناصر الأجنبية من فرس أو يونانيين. ومن المعروف أيضاً أن بيزنطة نقلت القوات الأرمنية المسلحة إلى بلغاريا في عهد الإمبراطور موريس لتساهم في حملاته العسكرية ولم تكن غاية هذه السياسة بالتالي إضعاف العناصر الأرمنية في أرمينيا الكبرى أو توطين أية مجموعة غريبة هناك.

نشأت الإمبراطورية العربية بشكل مغاير تماماً مقارنة ببيزنطة أو فارس. احتل العرب إمبراطورية الساسانيين كاملة ومناطق واسعة من المقاطعات البيزنطية أثناء عملياتهم العسكرية الفذّة. وفي هذه المناطق المحتلة، التي لم تكن لها أية علاقة لغوية أو دينية مع شبه الجزيرة  العربية، نشر الفاتحون العرب الدين الإسلامي واللغة العربية ونقلوا قبائل عربية لتوطينها في هذه الأراضي ثمّ أحكموا قبضتهم على جميع هذه المقاطعات فتشكلت دولة الخلفاء الواسعة.

رغم ذلك تباينت أحوال إحدى المقاطعات العربية كثيراً مقارنة مع بقية المقاطعات وتحديداً ولاية أرمينيا العربية التي تشكلت إدارياً من أرمينيا وإيبيريا وأغبانيا. إنها حقيقة تاريخية أيضاً أن الإسلام لم ينتشر بسرعة في مقاطعات الخلافة الأخرى ولم تختفِ الديانات المحلية في مدة قصيرة. ومع ذلك أضحى الإسلام الدين السائد ولو على المستوى الرسمي في القرنين 8-9 م على وجه الخصوص. ورغم سيادة الديانة الزرادشتية بين أفراد الشعب في إيران مثلاً إلا أنه لم يكن معترفاً بها على المستوى الرسمي. كذلك كانت الحال مع البطاركة السوريين والمصريين الذين كانوا رؤساء مجتمعاتهم المحلية فقط لأن قبائل عربية عديدة استوطنت على هذه الأراضي ونشرت الإسلام بسرعة في ربوعها وتنازلت بالتالي اللغتان السريانية والقبطية تدريجياً عن مكانتهما للغة العربية وتحولتا إلى لغة الطقوس الدينية بدءاً من القرن 9 م .

كان الوضع مختلفاً جذرياً في ولاية أرمينيا حيث كان الكاثوليكوس الأرمني الشخصية السياسية والزعيم الديني للمجتمع في الوقت ذاته ولم ينتمِ إلى الأقليات. كذلك كان باستطاعة الأمراء الأرمن في هذه الولاية العربية الوصول إلى مراتب عليا في سلم الحكم والحصول مثلاً على لقب “أمير أمراء أرمينيا” أو “القائد العام للجيوش الأرمنية” بدون هجر عقيدتهم الدينية بينما لم يكن باستطاعة أمراء مسيحيين آخرين اعتلاء مراكز مرموقة إلا في حالات استثنائية فقط. لذلك كان وضع أرمينيا الخاص أمراً غير مقبول للخلافة العربية وخاصة في العهد العباسي فوصل الصراع ضد أرمينيا إلى درجات متقدمة لاحقاً.

تبنى الأمويون بعض الاجراءات الخشنة ضد أرمينيا ومع ذلك لم يحدث تغيير أساسي داخل البلاد لرسوخ أوضاعها الداخلية. وبسبب انفجار صراعات حادة بين قوى سياسية عديدة داخل الخلافة حتى نهاية القرن 7 م، كانت الحملات العسكرية العربية على أرمينيا في الأعوام 640م و642م و650م عبارة عن غزوات غير منظمة (حملات اكتشاف وغزو-المترجم).

يمكن اعتبار حملة عام 654م بداية تاريخ الاحتلال الحقيقي لأرمينيا. لذلك ليس غريباً أن يصف التاريخ العربي هذه الحملة بإسهاب.

وصلتنا معلومات حول تلك الغزوات العربية غير المنظمة عن طريق مصادر أرمنية أيضاً. وكان الواقدي المؤرخ العربي الوحيد الذي وصف الهجوم العربي الأول على أرمينيا إلا أن بحثه زال من الوجود مع الأسف الشديد.

 يعتبر المؤرخون الأرمن عام 654م بداية احتلال أرمينيا الفعلي من قبل العرب عندما نعمت البلاد بعدها طوال القرن 7 م بقسط من الاستقلال لم تعرفه منذ سقوط مملكة الأرشاقونيين الأرمن. وعندما توحّدت أرمينيا ضمن دائرة النفوذ العربي في القرن 8 م انتظمت علاقاتها مع الخلافة العربية بعد المعاهدة التي أبرمت سنة 652م بين معاوية وثيودور رشدوني. نصّت هذه المعاهدة على وجوب أرمينيا دفع جزية خفيفة وإرسال جيش مساند للعرب عندما تفرض الحاجة إلى ذلك. جاءت في المعاهدة فقرة شيقة يؤكد فيها الخليفة قائلاً: “… لن أرسل أمراء عرب إلى قلاعك ولا حاكماً مسلماً ولا حتى فارساً واحداً…”. جاء ذكر هذه المعاهدة بشكل أوسع على الصفحة 141 من “تاريخ” المؤرخ الأرمني Sebeos حيث يضمن الخليفة سلامة سكان العاصمة الأرمنية دبيل قائلاً: “هذه معاهدة حبيب بن مَسْلَمة مع المسيحيين واليهود في دبيل الحاضرين منهم والغائبين. إنني أضمن لكم سلامة حياتكم وأموالكم وممتلكاتكم وكنائسكم ومعابدكم وسور مدينتكم. لذلك أنتم في أمان وإننا ملزمون بتطبيق هذا العهد ما دمتم تدفعون الخراج والضرائب ويكفي أن الله شاهد على ما أقول”.

يُتأكَّد من هذا النص أنه لم يكن للخلافة أي ممثل أو إداري أو عسكري في أرمينيا في القرن 7 م. إلا أن هذه الأحوال الإيجابية تبدّلت كثيراً في عهد الخليفة الأموي عبد الملك 685-705م بعد تعزيز أركان الدولة العربية والقضاء بشكل تام على ثورة عبد الله بن زبير. قام شقيق الخليفة محمد بن مروان بعد ذلك بالهجوم على أرمينيا واحتلالها مسبباً لها دماراً وخراباً كبيرين.

بدأت الإمارات العربية بالتشكل في أرمينيا وأغبانيا وإيبيريا في فترة قصيرة في عهد الخلافة  الأموية بالذات بعد وضع حاميات عربية في مدن أرمينيا الرئيسية في النصف الأول من القرن 8 م. لم تكن الخلافة تنوي التفريط بهذه البلاد ذات الأهمية الاستراتيجية والعسكرية الكبيرتين جداً التي أضحت القاعدة الأهم أثناء حروبها ضد بيزنطة لاحقاً. وكانت مدينة دبيل عاصمة هذه الإمارة العربية حيث يقطن الحاكم العربي مع عائلته وحاميته كما جاء في شهادة المؤرخ الأرمني العاصر غيفوند.

رغم هذه الممارسات كان لأرمينيا نوع معين من الحكم الذاتي في حقبة الخلافة الأموية على نقيض عهد العباسيين. وكانت طبيعة الخلافة الأموية عربية صرفة حيث يسود العنصر العربي. وكان  باستطاعة غير المسلمين، أكانوا حلفاء لهم أم قبلوا الإسلام ديناً، الاشتراك في الحياة السياسية لهذه الدولة لكن بصعوبة فقط. ومن هنا كانت أرمينيا تثير استياء الأمويين. ولم يكن هذا يعني طبعاً أن الأمويين كانوا ميّالين لأخذ موقف ودّي تجاه أرمينيا لأن حقيقة قتل بعض الأمراء الأرمن سنة 705م مثلاً كافٍ للإشارة إلى عكس ذلك. ومع ذلك كانت لممارسات الحكام العرب غايات ردعية لا أكثر ولم تتبعها إجراءات أخرى.

تبدّل هذا الوضع جذرياً في الحقبة العباسية لأن العنصر الفارسي، الذي لعب دوراً حاسماً في إسقاط الأمويين، بدأ بمشاركة العرب في تسيير شؤون الدولة. كذلك لجأ الخلفاء العباسيون البان ـ إسلاميون منذ الفترة الأولى لحكمهم إلى وسائل جذرية لإضعاف قوة الأمراء الأرمن. ومثالنا على ذلك أن أول الخلفاء العباسيين أبو العباس “السفاح” أغرق الثورة الأرمنية في الدم بين عامي 747-750م.

كانت حقبة خليفته أبو جعفر المنصور ثقيلة الوطأة على أرمينيا أيضاً لأن الضرائب المفروضة وصلت إلى نسب غير قابلة للتصديق حتى انطلاقاً من معايير ذلك العصر.

لذلك كانت هذه الأحوال الشاذة سبباً لثورة عنيفة تحولت إلى أكبر حركة احتجاجية أرمنية طوال فترة الإحتلال العربي. لم يتمكن حاكم أرمينيا العربي الحسن بن قحطبة إخماد الثورة بقواته لذلك هرع حاكم خرسان أمير بن إسماعيل إلى نجدته بجيش قوامه 30,000 رجلاً.

إنكسر الثوار الأرمن بعد معركة عنيفة فاصلة في موقع Bakrevant وسقط الزعيمان الأرمنيان موشيغ ماميكونيان وسمبات بقرادوني شهيدين.

هزّ العصيان المسلّح جميع أصقاع أرمينيا الكبرى وأدى إلى النتائج التالية:

(أ) فقدت عائلة ماميكونيان الأرمنية دورها القيادي في الحياة السياسية الأرمنية وتشتّت أفرادها ولجأ بعضهم إلى بيزنطة واستوطن آخرون في المقاطعات الأرمنية الأخرى.

(ب) تخلّى أمراء أرمن عديدون عن مناطقهم وأملاكهم وهاجروا إلى بيزنطة.

(ج) بقيت إمارات أرمنية صغيرة في المناطق الجنوبية ـ الغربية من أرمينيا التي لم تكن من القوة لصدّ أي هجوم خارجي لذلك أضحى الباب مشرّعاً أمام هجرة قبائل عربية إلى مناطق عديدة من أرمينيا الكبرى.

*ينفرد موقع “أزتاك العربي للشؤون الأرمنية” بنشر كتاب “الإمارات العربية في أرمينيا البقرادونية” للمؤلف المستشرق الدكتور البروفيسور آرام تير-غيفونديان، (الطبعة الثانية المنقحة)، ترجمه عن الإنكليزية: الدكتور ألكسندر كشيشيان، عضو اتحاد الكتاب العرب، رئيس تحرير “كتاب العاديات السنوي للآثار”، صدر الكتاب عن مؤسسة المهندس فاروجان سلاطيان، حلب 2013، وسيتم نشر فصول الكتاب تباعاً.

Share This