قصة من الأدب الأرمني.. حـــياة رغـــيدة.. لأفيديك إساهاكيان

Avetik_Isahakyan 

ثمة ثقليد عريق عندنا في شيراك: كان الرعاة الكورد يرعون اغنامنا حتى حلول صوم العذراء ، أي حتى اوائل شهر آب.
في آب كان الرعاة يتقاضون من اصحاب الضآن أجور أتعابهم و يعودون إلى مرابعهم في كهوف يراسخادزور وكوهب وكاراكلا الجبلية ،يسوقون حميرا تنوء بالاحمال بعدئذ، يقوم أولاد القرى برعي الضآن حتى اواخر الخريف وحلول بواكير الصقيع.

وكان من لا يملك اغناما كثيرة من الفلاحين يودعها في قطعان من هم أيسر حالا منهم. و قمت انا أيضا برعي الضآن عامين متتاليين بدافع التسلية فحسب. وفي الخريف كنت اودع خرافي الحبيبة مخشوشا لفحتني الشمس، وأعود من غير رغبة إلى المدينة ،إلى جدران المدرسة الدافئة اذ تنتظرني كتب مدرسية ومعلم صارم أود ان أقص عليكم ليلة من ليالي حياتي الرعوية ، ليلة فريدة مفعمة بالجمال النقي والافتتان العميق. كنا قرابة عشرين فتى نرعى قطيع ضان كبير وكنت في مشارف الخامسة عشرة من العمر، وكان سمباط الذي نذعن له اذعانا مطلقا اكبرنا سنا، في الثالثة والعشرين او يكاد.

هذه ليلة من اواخر ليالي آب ، لم يبزغ القمر بعد، و القطيع أوى للراحة تحت حراسة عدة انفار منا ، و الكلاب تتسكع حوله.
لسنا عند النبع المتدفق من سفح مضيق جبلي هين العمق، والجرار الفخارية باللبن تتبرد في مياه النبع ، أضرمنا موقدا و قذفنا فيه من بعر الضان الجاف ووضعنا فوقه مرجلا لنغلي ماء.

-شوينا في رماده شيئا من تقاوي البطاطا كان بعض الاولاد يضطجع على اردية صوفية و مفارش من اللباد ، بينما استلقى الاخرون على الارض مباشرة سمباط، زعيمنا، كان يجلس متكئا على حجر كبير يدخن لفافة تبغ من ورق سميك، و سحائب الدخان الكثيف اللاذع تتصاعد نحو السماء. راح سمباط يصدر الاوامر مشيرا باستخفاف الى الجهة التي يريد براس خنجره الكبير المعلق الى جنبه بحزامه ند قدميه، استلقى كلبان من كلاب الرعي وراحا يغطان في نوم عميق، واضعين رأسيهما على ساقيهما، والنسيم العليل يحف بدعة فوق الحقول المحصودة، وزيزان الحصاد تسقسق بانتظام، وطيور لا مرئية تزقزق في البيادر بحنان، والنعاج تشخر بلطف بين الفينة و الاخرى، حمل النسيم من بعيد نباحا متقطعا و صرير عربات ونثار اصوات بشرية مبهمة.

وكل هذا كان يذوب في هدوء لا متناه. وغمر الضوء الازلي الذي كان لا بداية له و لا نهاية روحي أيضا، وكانه يفيض في جسدي كله كنت مستلقيا على ظهري وقد طويت ذراعي تحتي ورحت احدق في السماء القاتمة العتيقة المخملية التي بدت و كان كل نجوم الكون قد جمعت فيها. كنت اتصفح كتاب مصيري الذهبي الذي تتعاقب صفحاته الواحدة تلو الاخرى امام ناظري المتوقدين . في مخيلتي ارتسم المستقبل كدرب التبانة اللانهائي مليئا بالمفاجآت الساحرة و الامال الوضاءة. والحياة، الحياة الواقعية،خيلت الي دربا سحريا ينتظرني على كتفه حصان في عدة ذهبية. كان الصراع والعشق والفتاة الحبيبة وتخطي الحواجز والنجاح بانتظاري على درب الحياة. حليفي النصر على الدوام، وما للموت من منفذ، لأن الحياة كانت تعني الخلود، اما الموت، فما كتب علي كما كان يبدو أصخت السمع للاغنية الصادحة في قلبي ، وراحت الدماء تتدفق بحبور في عروقي ، و غمرت كياني كله سعادة هائلة لا توصف كان قلبي عامرا بحب شامل ، وددت أن احتضن الوجود كله، الناس والبهائم و الصخور والجبال والنجوم أحسست نفسي جزيئا ان الكون يمت بالقربى لكل ما هو حي، للشجيرات والصخور، للريح و الماء، للسحاب والنجوم أعادتني أصوات رفاقي للأرض، قال أحدهم -على الإنسان إما ان لا يولد بتاتا أو ان يظهر على الوجود مقداما، شأن كوراوغلي، ويغادره مقداما.

آه لو يغدو المرء مثل كورأوغلي ، ينطلق بفتاة قلبه إلى الجبال تاركا لرحمة السيف كل من يعترض سبيله!…  اعقبه آخر:

صحيح. وإذا قيض له أن يولد كلبا ، فليكن قانص ذئاب ككلبنا كالاش التفت رفيقي نحوي مخاطبا.

-وانت ما رأيك؟

 انت محق يا سغمون جان، حبذا لو يأخذ المرء حبيبة قلبه و ينطلق بها إلى الجبال . كان ظمأ الحب والبطولات يقلق أفئدتنا اليافعة. كلنا كان يحلم باختطاف الحبيبات و الهرب الى الجبال ، و بأن يصبح من قطاع الطرق و ينال الشهرة ويرهب العالم عاد هوفاك، أحد رفاقنا ، وكان قد ذهب لجلب الخضار من حواكير القرية. ينبغي القول أن السرقات الطفيفة ما كانت في نظرنا من الجرائم بل كانت ضربا من الحيلة والاقتدار.

كان الاولاد جميعا ،ما خلا سمباط، يذهبون إلى حواكير القرية لسرقة القثاء والجزر والبطاطا.

-أهذا أنت؟ لماذا تأخرت؟ – سأله نزاريت بحدة ، ريثما كننا ننتظر متى يفرغ هوفاك أمامنا ما عاد به من غنائم
-كنت ابحث عن النحلة التي صنعت مادة الشمعة لتوضع عند رأس والدك المرحوم.

-و هل عثرت عليها؟ ساله أحدهم مازحا

-عثرت عليها في خميرة الخبز الذي يعد لمأتم والدتك، اجاب هوفاك برصانة .

أعجبنا جدا حضور بديهة هوفاك، وطفقنا نصفق له حتى أن بعضا منا راح يهز ساقيه جذلا سأل سمباط: و أين سينو؟

لقد مرض والده، فبقي في الدار ،أجاب هوفاك ثم أطلق ثبان رداءه ،فانهال على الارض كوم قثاء غض ، سرعان ما داهمته عشرات الاذرع بادره نزاريت بلهجة تنم عن عدم الرضا -لماذا اتيت بهذه الكمية القليلة ؟إنها لا تكفي حتى لو أخذ كل واحد منا واحدة.

-جرب أن تفعل…ان العم تيبان لا يغض الطرف عن الحاكورة . أنا ما كدت أفلت منها إلا بشق الانفس. لا تزعلوا. اللحم لا ينتزع من فم الذئب ، وإذا كنت أنت شجاعا حقا ،أذهب بنفسك غدا، وسنرى -كفى ، تعالوا نأكل، فمعكم قد يهلك المرء جوعا ،-بلهجة آمرة قاطعهما سمباط(الذي يهلك جوعا)كل لحظة، والذي يلتهم الطعام كل مرة حتى التخمة فتحنا حقائبنا على عجل و أفرغنا على أحد الأردية الجبن و البصل والخبز. ورحنا نتحدث عن السفرة بمرح. لكزني جاري و غمز مشيرا الى سمباط ، الذي لف برغيف كبير بيضة وبصلا وبطاطا وراح يقضمها نافضا راسه بين الفينة و الفينة -يا لها من لفة !..كأنها رقبة صهر سمنته حماته ، همس جاري في اذني فتمالكت نفسي بصعوبة عن الضحك. لم نكن نهزأ من سمباط، خوفا من غضبه كان لدينا قدحان أو ثلاثة لا غير، لذا كنا نشرب بحسب الدور بتلذذ الشاي المشبع برائحة الدخان. وبعد العشاء اضطجعنا على الارض ورحنا نقص أحداثا مرحة و حكايات وروايات خيالية، ثم قصة كريم الهارب وكازار الهقشين واللص ياهيك ومغامراتهم الغرامية وكان كلنا يتصور نفسه فارسا عاشقا من قطاع الطرق. وطفق احدنا يغني بكل جوارحه أغنية كوراوغلي.

-كازارجان، اعزف على الناي، قال سمباط مترجيا، اعزف، و لن اضن عليك بحياتي !..

شرع كازار يعزف على ناي صغير من القصب، و بينما هو يعزف، خيل الينا كأن في نايه حفيف الريح و خرير مياه الينابيع ، و كأن من نايه تتدفق أشعة القمر و ينهمر الحزن والأسى.

-آه لو كانت معي الآن حبيبتي سوينار، لما أردت شيئا آخر !هتف سغمون ورمى قبعته عاليا، ثم انكفأ على الأرض و دس وجهه في الرداء قال سمباط:

لقد جن هذا الرجل تماما !..لتأخذك الشياطين !..هل تريد أن تصبح هالنس موسيس ؟اعلم ، فقد تنتهي نهايته
قصة موسيس هذه حدثت قبل سنين طويلة . فقد احب موسيس فتاة، و لكنه سيق جنديا. و قبل رحيله عن القرية أخذ من حبيبته قسما بالوفاء. وحين عاد بعد سنتين علم انها تزوجت غيره. تناول موسيس محشّه (منجله) فورا وهرع إلى الحقل، وراح يحصد بضراوة القمح قبل نضوجه. لقد جن. وبقي موسيس معتوها طوال حياته ومات وهو يردد اسم معبودته بزغ القمر، فغمرنا ظل الجبل.

قال سمباط -كازراجان، لماذا توقفت ؟ اعزف عاود كازارجان العزف. وأصغينا له جميعا في حبور صامت .وكان كل منا ذهنيا مع معشوقته. ناهى همس النسيمات الخفيض. وتناهى ثغاء الخراف حلوا.

اعزف يا كازرجان، فقد يكون، هنا معنا..

-من هذا ؟ من ؟ تساءلنا و قداستفقنا من تاملاتنا -إنه ذاك المغرم بالغناء – من يكون؟ما اسمه؟- أنا نفسي لا أعرف ما اسمه، و لكنني سأقص عليكم قصته.

اختلجت اوصالنا وأرهفنا السمع بدأ سمباط يروي -في وقت سالف كان هنالك شاب جميل يهوى بلا صواب العزف و غناء العاشقين والموسيقيين وآلات الساذ و التار و المزمار كان ما إن يطرق سمعه ظهور مطرب او عازف جديد في مكان ما، حتى يستقدمه غير ضان بالنقود، ثم ينسى ما حوله و يغلق عينيه ويصغي لهم ليل نهار، يصغي و لا يروى له غليل.

هكذا مرت ثلاث سنوات، وربما سبع، وحين رأى أن ثروته قذ أشرفت على النضوب ، باع بقايا أملاكه ومواشيه و أرضه، ودعا خيرة العازفين والمطربين، وارتقى وإياهم الجبل حيث أقام وليمة تلذذوا وانشدوا واعزفوا! هاكم محفظتي. اعزفوا الأغنيات وأسحر وأبهج الاناشيد بحيث تصغي الجبال و الوديان، الوحوش والطيور، الأشجار والأنهر، تصغي و تحس بروعة الغاني و الرقص ، وكيف تزين الدنيا !.. ليسمع الناس و يدركوا بهجة الحياة ، كي لا يرحلوا عن العالم متبلدين تعساء  كولائم الملوك و قال:

ظل المطربون يغنون ويعزفون حتى نفد الطعام. عندئذ مضى كل منهم في سبيله، بينما اختفى الشاب بلا أثر . يزعمون أنه ما يزال حيا حتى الآن، يجوب العالم، اليوم هنا وغدا هناك . و لكنه ما إن يسمع عزفا او غناء حتى يكون بين الحاضرين.
يجلس خلف الباب او يتوارى وراء الجدار و يصغي، يصغي حتى يتوقف العزف ، يأتي و يذهب من دون ان يلحظه أحد. ولذلك أقول: ربما كان الان بيننا، لعله خلف تلك الصخرة مثلا – وراح سمباط يحدق بانتباه في الصخرة المطلة على هاماتنا. التفتنا التفاتة شخص واحد ورحنا نتطلع إلى الصخرة برهبة، ومخيلتنا تعمل بسرعة -كازراجان، اعزف فقط لأجل ذلك الشاب وحده ، لأجله فقط ، ناشد سمباط، ثم دفن رأسه تحت ردائه و لاذ بالصمت.

واصل كازارجان العزف. هزتنا قصة الشاب المولع بالغناء. أما انا فقد شعرت فعلا بوجوده غير المرئي إلى جانبي. ولا أدري لماذا تصورته يافعا جدا ذا وجه شاحب حزين. -فرغ كازار من العزف.

لففنا انفسنا بالأردية وتوسدنا الصخور ، غفونا في نوم هانئ تحت همس الريح و ثغاء الخراف اللذيذ. – تمت-
1929
ترجمة موفق الدليمي

صحيفة التآخي

Share This