كتاب “الأرمن في مصر في العصر العثماني” للدكتور جمال كمال محمود..عرض عطا درغام

الارمن في مصر 

تُعد دراسة “الأرمن في مصر في العصر العثماني” على قدر كبير من الأهمية ، حيث عادت مصر مرة أخرى ولايةً تابعة لدولة كبرى بعد أن كانت قاعدة لسلطنة المماليك. وكان لذلك أثره على أوضاع مصر بصفة عامة وعلى الأقليات الدينية بصفة خاصة، ومنها الأقلية الأرمنية. كما أن العصر العثماني يُعد آخر العصور التي طُبق فيها عهد الذمة.

وجدير بالذكر أن الأرمن ثاني طائفة في مصر في ترتيب طوائف أهل الذمة تدفع الجزية بعد الأقباط. وكانت الدولة العثمانية منذ نشأتها متعددة القوميات والأديان، ولكنها لا تعترف بالقوميات المتعددة لرعاياها، ولا تُميز بينهم علي أساسها ، وإنما تلتزم بأحكام الشريعة الإسلامية في معاملة رعاياها غير المسلمين باعتبارهم أهل ذمة تعترف بديانتهم وحرية اعتناقهم لها مقابل أداء الجزية.

وفي هذا السياق، كان الأرمن من أشد الشعوب المسيحية في الدولة العثمانية إخلاصا في خدمتها، كما أنهم كانوا آخر الشعوب في التحول عن الولاء لها، ولذلك أطلق عليهم العثمانيون اسم “الملة الصادقة”.

وفي هذا الإطار:عن مركز الدراسات الأرمنية، تأتي دراسة الدكتور جمال كمال محمود بعنوان (الأرمن في مصر في العصر العثماني)، وقُسمت الدراسة إلي تمهيد وخمسة فصول وخاتمة.

في التمهيد، تُعرفنا الدراسة بجغرافية أرمينية، وهي البيئة التي نزح منها الأرمن إلي مصر، وعلاقة الدولة الإسلامية بأرمينية، إلى جانب الوجود الأرمني في مصر قبل العصر العثماني ليكون مدخلا لدراسة تاريخ الأرمن في العصر العثماني.

ويتناول الفصل الأول  التوزيع الجغرافي للأرمن في القاهرة والأقاليم وتجمعات ومساكن الأرمن، والعلاقة بين السكن ومحل العمل. فقد تركز في مصر علي مناطق معينة كانت القاهرة أهمها إلي جانب بعض مدن الأقاليم كالإسكندرية ودمياط ورشيد والطور وجرجا بالصعيد. ورغم ميل الأرمن للسكني في مناطق معينة؛ إلا أن ذلك لا يعني انغلاقهم علي أنفسهم أو العيش في “جيتو” خاص بهم، بل هم ميل من أجل الحياة والعمل معا .فتركزت منازلهم داخل بيوت النصارى ، وقد جاورت منازل بعضهم منازل مسلمين بل ومساجد، كما استغل بعض الأرمن عقارات تابعة لأوقاف إسلامية كإيجار

 كما عالج تعداد الأرمن في العصر العثماني وعلاقات الأرمن في مصر بالأرمن في ولايات الدولة العثمانية الأخرى.

ويناقش الفصل الثاني علاقة الدولة بالأرمن؛ لما لذلك تأثير وتأثر من جانب الدولة والرعية. والمقصود بالدولة هنا الإدارة المحلية في ولاية مصر، مع الأخذ في الاعتبار أهمية الإدارة المركزية في إستانبول، وما يصدر عنها من فرمانات لها تأثير علي أهل الذمة، ومنهم الأرمن.

واهتمت الدراسة بدراسة مظاهر هذه العلاقة من جزية وأعباء مالية ومادية وإشراف للدولة علي مواريث الأرمن من خلال بيت مال الجوالي والقيود المفروضة علي الأرمن، وعلاقة الأرمن بالباشا وكبار الأمراء إلى جانب وضع الأرمن عصر الحملة الفرنسية.

وتشير الدراسة إلي تعرض الأرمن- مثل بقية أهل الذمة- لبعض القيود والتي تعود إلي عصور الإسلام الأولي، وقد صدرت العديد من المراسيم التي تناولت هذه القيود في العصر العثماني، وهذا يؤكد ان هذه المراسيم لم تكن لها قاعدة محددة تحكم هذه القيود، وإن هذه القيود لم تُطبق كلها تماماً أو حتي إذا طُبقت لم يستمر تطبيقها فترة طويلة؛ بدليل صدور مراسيم جديدة غيرها، وأنها مسألة وقتية لاختلاف الأزمة عبر ما يقرب من ثلاثة قرون. فضلا عن تغير رموز الإدارة وما يتبعه من تغير في السياسات تجاه أهل الذمة.

وجدير بالذكر أن بعض الأرمن ممن اعتنقوا الإسلام قد تولوا الوظائف العُليا مثل الصنجقية والكشوفية بل وصل أرمني مسلم لحكم جرجا، وارتبط العديد من الأرمن ببعض الباشوات وبعض كبار الأمراء، كما برز منهم قادة عسكريون مثل نقولا الأرمني وكان مسيحيا.

ويعالج الفصل الثالث النشاط الاقتصادي للأرمن ، حيث أبرزت الدراسة الدور الاقتصادي الذي لعبه الأرمن في مصر؛ فاشتغلوا بأغلب الأنشطة الاقتصادية التي كانت سائدة في ذلك العصر. أسهم الأرمن بدور هام في تجارة مصر الداخلية والخارجية ، وأقاموا علاقات تجارية مع تجار الشوام .

كان للأرمن دورهم الهام في المعاملات المالية كالقروض والرهونات والشركات والحوالات المالية والودائع؛ مما يوضح سلاسة المعاملات المالية في العصر العثماني بين كافة الطوائف الدينية وبعضها البعض بصرف النظر عن الدين ، ومن جهة أخري الحرية التي كفلتها الدولة لرعاياها علي اعتبار أن الاقتصاد – لا يهتم -في الغالب- بالحساسيات بين الطوائف الدينية المختلفة.

وقد أتاح ذلك للأرمن أن يلعبوا دورا هاما في الحرف والصناعات والتجارة الداخلية والخارجية، وتشعبت علاقاتهم الاقتصادية مع أغلب الطوائف من خلال المعاملات المالية ، والاستثمارات العقارية التي لجأ إليها الأرمن لاستثمار فائض أموالهم فيها .إلي جانب الأوقاف الأرمنية كنشاط اقتصادي هام استفاد منه الأرمن كواقفين أو عمال في وظائف الأوقاف المختلفة ، وكذلك كمستفيدين من هذه الأوقاف.

واهتم الفصل الرابع بدراسة الحياة الاجتماعية، فقد كشفت الدراسة عن حقيقة مهمة مؤداها، وهي تفاعل الأرمن مع الطوائف الأخرى، حيث حدث تزاوج بين الأرمن والنصرانيات من الشوام والروم والفرنسيين والبنادقة والإنجليز، وفي المقابل حدث تزاوج بين بعض الأرمنيات والطوائف السابقة.

وتتناول الدراسة محاولة التعرف علي الأحوال الشخصية عند الأرمن وخصوصية بعض هذه الأحوال والمؤثرات الإسلامية عليها ، مثل الزواج علي الشريعة الإسلامية، وإن كان في الغالب، تسجيلاً لعقود هذا الزواج.

أما طقوس الزواج، فكانت تتم أمام الكنيسة الأرمنية، وكذلك تعدد الزوجات والطلاق- في بعض الأحيان- والعلاقات الأسرية وعلاقات الأرمن الاجتماعية، والتي اتسمت بالتشعب الشديد مع أغلب الطوائف في مصر آنذاك.

اتسمت الأسرة الأرمنية بالترابط. وكان التكافل الاجتماعي مظهراً من مظاهر الحياة الاجتماعية عند الأرمن، وكان أهم عوامل ترابط وتماسك الأرمن وعدم ذوبانهم في البيئات التي نزحوا إليها.

أوضحت الدراسة الدور المهم الذي لعبته  المرأة الأرمنية  في الحياة الاجتماعية، بل وفي النشاط الاقتصادي  ودورها المحوري في الأسرة خاصة في حالة وفاة الزوج أو سفره، فكانت تقوم بدور القيمة والوصية علي أبنائها؛ بل وصلت إلي ان تكون قسيسة إلي جانب نشاطها الاقتصادي وهو الدلالة.

اهتم الأرمن بالتعليم والفنون والموسيقي ، وأتقن البعض منهم بعض اللغات الأجنبية كالإنجليزية والفرنسية والإيطالية ، وهذا أتاح لهم العمل كمترجمين لدي الجاليات الأوروبية في مصر آنذاك.

ويستعرض الفصل الرابع الحياة الدينية للأرمن في مصر في العصر العثماني، وذلك من خلال نشأة الكنيسة الأرمنية الأم كمدخل، والسلك الكنسي للكنيسة الأرمنية في مصر والدور الاجتماعي للكنيسة الأرمنية والكنيسة الأرمنية وحركة التبشير، وعلاقة الكنيسة الأرمنية بالكنيسة القبطية .

تمتع الأرمن مثلهم مثل الطوائف الأخرى باستقلال في غدارة شئونهم من خلال نظام الملل الذي أقامته الدولة العثمانية لرعاياها من غير المسلمين، وأصبح للأرمن بطريركية بالأستانة وأصبحت الكنيسة الأرمنية هي الرمز المجسد للقومية الأرمنية في الدولة العثمانية، وتمتع الأرمن في مصر بحريتهم الدينية.

شهد العصر العثماني محاولات التبشير الكاثوليكي بين الطوائف المسيحية في مصر ومنهم الأرمن ، وبالتالي تحول البعض منهم إلي المذهب الكاثوليكي منذ القرن السابع عشر، وتحول البعض الآخر إلي المذهب البروتستانتي في أوائل القرن التاسع عشر.

اعتنق بعض الأرمن الدين الإسلامي، وقد أتاح ذلك لهم المجال لارتقاء البعض منهم الوظائف العسكرية والإدارية العليا، وشاركوا المسيحيين دورهم الفاعل في المجتمع المصري

وينهي الباحث دراسته بخاتمة تضمنت أهم النتائج التي توصلت إليها الدراسة، ومجموعة من الملاحق الهامة التي أرفقها في نهاية الكتاب تتعلق بالدراسة.

Share This