مجلة (داليدا) المصرية تؤرخ للإبادة التركية للأرمن في أول عدد تذكاري لها

داليدا 

بإخراج فني متميز وموضوعات رصينة جاء العدد الأول من مجلة (داليدا) الذي تخصص بمناسبة مئوية مذابح الأرمن التي أحيى العالم ذكراها في أبريل 2015. وحمل العدد عنوان (رحلة الأرميني.. بعد مائة عام من المذابح والتهجير.. كيف أصبحوا جزءًا أصيلًا من النسيج المصري)؟ وتضمن العدد موضوعات متنوعة حول الأرمن منها حوار مع الدكتورة نايري هامبيكيان أستاذة التاريخ والعمارة. ومائة عام على مذابح الأرمن ماذا بقي للأحفاد في بلاد الشام وشهادات عن مذابح الأرمن في أضنة وطرسوس أبريل 1909. كما احتفى العدد بالرواد الأرمن في الموسيقى والشعر والأدب والسياسة، ومن الرواد الذين تحدث عنهم العدد شخصية بوغوص بك بوسفيان مستشار محمد علي الكبير وفيلسوفه، ومن سيرته:

بوغوص بك يوسفيان (1768- 11 يناير 1844) أقام في مدينة رشيد بعد وفاة والده، ولكنه رحل إلى أزمير التركية عقب دخول الفرنسيين مصر. وقد عاد بعد مغادرتهم البلاد. وقد اتهم بتبديد أموال محمد علي فصدر الأمر بقتله، غير أن الأمر لم ينفذ لأن بوغوص كان قد أدى بعض الخدمات إلى جلاده. وبعد أيام ندم محمد علي لقتل بوغوص. فأحضره الجلاد فطلب بوغوص المغفرة وعفا عنه مولاه.

لم يفارق الباشا لحظة واحدة، فكان ترجمانه ووزير خارجيته ووزير تجارته. وقد قال محمد علي ذات يوم: “إن بوغوص هو الرجل الوحيد الذي أثق به كل الثقة، وأعتمد عليه كل الاعتماد”.

وقد كان له نفوذ كبير وكان رأيه هو المرجح دائمًا، ولما توفي سنة 1844 أمر محمد علي بدفنه في موكب رسمي.. كان أول صاحب لمنصب (ناظر ديوان التجارة والأمور الإفرنكية) وكان مقره بالإسكندرية، وهو المنصب الذي تحول بعدئذ في عصر إسماعيل ليصبح (ناظر الخارجية).

الذي فاجأ محمد علي عند وفاته بعدم امتلاك ثروة سوى تسعة عشر شلنًا وسبعة عشر قيراطًا من الماس كانت ملكًا لمحمد علي باشا، بالإضافة إلى ست أوراق بيضاء مختومة أعطاها محمد علي إياه أثناء سفره إلى السودان، ولكن “يوسفيان” لم يستخدمها ولم يستغلها، هذا إلى جانب أن محمد علي لم يحدد راتباً منتظماً لـ”يوسفيان”، على الرغم من أن محمد علي باشا ترك له حرية التصرف.

ويعد “يوسفيان” أنزه من تولى مناصب في عصره؛ ما جعل محمد علي غاضبًا وقت وفاته ليرسل لـ”نوبار باشا” يؤنبه على عدم إقامة جنازة عسكرية له، وأمره بأن يُخرج جثمانه ويعاد دفنه في جنازة عسكرية، وعلى الرغم من عدم إخراج جثمانه إلا أنه أُقيمت له جنازة عسكرية كبيرة.

وكان بوغوص باشا من المقربين جدًا لمحمد علي من حاشيته؛ حيث استخدمه الوالي لمعرفة معلومات كثيرة عن الأسواق الأوروبية وما يجري فيها، والأحداث السياسية العالمية ليطلق عليه “مستشار محمد علي وفيلسوفه”.

وولد يوسفيان في إزمير عام 1768، وتعلّم في منزل خاله أركيل الذي كان يعمل مترجمًا في القنصلية البريطانية في أزمير على يد معلمين خصوصيين، حيث تعلّم الكثير من اللغات، ووصل إلى مصر عام 1791؛ حيث عمل بالتجارة واستأجر جمرك رشيد، ليترك مصر ويعود إلى أزمير عام 1798؛ لكي يعمل مترجمًا بالقنصلية البريطانية بها.

وعاد يوسفيان إلى الإسكندرية عام 1800 وعمل كمترجم لضابط بريطاني يُدعى سيدني سميث، وفي عام 1802 عيّن مترجمًا لخسرو باشا ثم خورشيد باشا بعد ذلك، وعيّنه محمد علي باشا في وظيفة ترجمان واستطاع تأجير جمرك الإسكندرية من محمد علي مقابل 2500 كيسة لمدة خمس سنوات، وبعد ذلك منحه محمد علي رتبة البكوية عام 1818 ليعيّنه ناظرًا لديوان التجارة والأمور الإفرنجية في 1826. وتوفي يوسفيان، في يوم 11 يناير عام 1844 عن عمر يناهز 74 عامًا.

إن أهم استفادة لمحمد علي من الأرمن في مجال المال والتجارة: كانت شخصية بوغوص بك بوسفيان صاحب المواهب والقدرات الفائقة، ويؤكد حجم الأوامر التي أصدرها محمد علي إليه حقيقة قدرات هذا الرجل غير العادية، وقيامه بدور كبير في صنع القرار الاقتصادي لمحمد علي، وهكذا كان بوغوص يوسفيان الأرمني أول وزير لخارجية مصر في العصر الحديث. وجدير بالذكر أن العلاقات كانت وثيقةً جدًّا بين محمد علي وبوغوص حتى أضحى الأخير المرآة الشخصية للباشا والمخلص الوحيد له بين حاشيته، كما كان والي مصر على دراية تامة بكل ما يجري حوله من خلال بوغوص الذي عرف معلومات غزيرة عن الأسواق الأوروبية والأحداث السياسية العالمية حتى قيل إنه “مستشار محمد علي وفيلسوفه”.

ويؤكد كل من كتب عن عصر محمد علي بأن بوغوص كان أهم موظف في الإدارة المصرية، وأنه الشخص الوحيد الذي شغل مكانة قوية عند محمد علي؛ لأنه لم يخن الثقة التي وضعها فيه. كما أنه خدم مصر بكل جهده وله أياد بيضاء في نهضتها وثروتها، وكان آلة ذكاء على غاية الاستعداد بين يدي محمد علي .

وبعد وفاة بوغوص، حل محله أرمني آخر يُسمي آرتين بك تشراكيان منذ 13 يناير 1844 حتى 14 أيلول  1850، وهو الرجل الثاني في سلسلة أهل الثقة من الأرمن الذين قاموا بدور همزة الوصل الرئيسية بين مصر والدول المتعاملة معها. ثم تولى أرمني ثالث هذا المنصب ويسمى إسطفان بك دميرجيان منذ 20 أيلول 1850 حتى 20 نوفمبر 1853؛ حيث فصل الوالي عباس حلمي الأول (1849- 1854) ديوان الخارجية بالإسكندرية عن ديوان التجارة ونقله إلى القاهرة.. وكذا تؤكد هذه الأوامر أن جميع المسائل والمشكلات المالية والتجارية التي واجهت محمد علي قد أوكلها بلا استثناء إلى بوغوص للبت فيها وحلها، ويكفي دليلًا على هذا أن محمد علي قد أصدر أوامره في 1825 بضرورة أخذ رأي بوغوص قبل الإقدام على بيع أي محصول، بل واستشارته في كل سلعة تصدر إلى الخارج أو تستورد منه.. وكان بوغوص مسئولًا عن تنظيم البعثات التعليمية إلى أوروبا، فأسفرت اتصالاته مع أصدقائه الأوروبيين عن استبعاد إيطاليا لانتشار انظمة الحكم الاستبدادية فيها وتعصبها دينيًّا ضد المسلمين، ولكنه آثر فرنسا التي اتسمت بتسامحها مع الغرباء ومؤسساتها التعليمية ذات المستوى الرفيع، فضلًا عن مناخها الصحي، وقد اختار بوغوص عددًا كبيرًا من أعضاء بعثة 1826 إلى فرنسا، منها أربعة من الأرمن، وظل بوغوص ينظم البعثات إلى أوروبا، ويتراسل مع المشرفين والمسئولين هناك، أما المبعوثون إلى إنجلترا فقد أصدر محمد علي أمرًا إلى ابنه إبراهيم بأن يجري اختيارهم بواسطة بوغوص، وأن يقيموا في بيت “بريجز” صديقه؛ كي يتعلموا فن البحرية عنده، وبذا استفاد محمد علي من العلاقات الشخصية لبوغوص يوسفيان.. كما شارك الأرمن المبعوثون بعد عودتهم إلى مصر في تنظيم المدارس العليا التي أسسها محمد علي، وارتبط تأسيس بعض هذه المدارس وتنظيمها بشخصيات أرمنية مثل مدرسة الهندسة ببولاق التي تولى إدارتها يوسف حكيكيان. وهكذا قام الأرمن بدور هام في تنظيم التعليم وتطويره خلال حكم محمد علي، فكان جميع الأرمن العاملين في مجال التعليم ممن تلقوا تعليمهم في فرنسا على نفقة الحكومة المصرية عدا حكيكيان الذي تعلم في انجلترا، وكانت له رؤى خاصة عن التعليم، ويرى أنه من وسائل ارتقاء العقل وأنظمة الحكم، وهو الذي أشار على محمد علي بأهمية تعليم البنات على جميع المستويات.. المجلة التي توزع مجانًا قدمت سجلًّا حافلًا ورائعًا للأرمن سوف يبقى طويلًا في ذاكرة الصحافة المصرية.

Share This