القبائل العربية شمالي ما بين النهرين.. وعلاقتهم بأرمينيا

arabic-emirates-in-pakradounian-armenia

الشيبانيون

لعبت منطقة ما بين النهرين أو الجزيرة، كما تسميها العرب، دوراً حاسماً في تطور الحياة السياسية الأرمنية في الحقبة العربية. سُلخت مقاطعتان أرمنيتان في نهاية القرن 4 م هما أغجنيك وكورجايك عن المملكة، بموجب معاهدة عام 387م معقودة بين بيزنطة وفارس، وانضمتا إلى بلاد ما بين النهرين مما أدى إلى احتلال أرمينيا الكبرى بالذات.

دخل القائد العربي عيّاض بن غنم إلى منطقة ما بين النهرين عبر سوريا في عام 639-640م واحتل مدينة الرقة Kallinikos على طريقه ثم اتجه إلى الرها Edessa. خضعت نصيبين وطور عابدين وغيرهما من المدن للفاتح العربي. دخل العرب أيضاً مدينتي آمد Amida ونبركرت Martyropolis بدون مقاومة تذكر فوصلت الجيوش العربية حتى حدود أرمينيا الكبرى. أحتل عيّاض بعدئذ منطقتي كوردوك وتيموريك في مقاطعة كورجايك وخضع أمير أنجيواجيك (زاوازان) للفاتحين.

استمر عيّاض بن غنم في تقدمه ودخل إلى أرمينيا عبر ممر جورا عند بتليس ووصل حتى أبواب دبيل. وساهم حبيب بن مسلمة، الذي أصبح فاتح أرمينيا لاحقاً، في احتلال المنطقة الشمالية لبلاد ما بين النهرين واستمر في زحفه بمحاذاة نهر الفرات حتى وصل إلى كاماخ بالتعاون مع صفوان بن معطّل من قبيلة سُليم.

بعد احتلال هذه المناطق بدأ العرب بنقل القبائل العربية وتوطينها على وجه السرعة. ونعلم أيضاً أن جماعات من قبيلتي لخم وتنوخ، اللتين تنتميان إلى المجموعات العربية الجنوبية، استوطنت في مناطق عديدة من وادي نهر الفرات. وكانت القبائل العربية تنقسم جغرافياً إلى فرعين:

(أ) القبائل الجنوبية أو اليمنية.

(ب) القبائل الشمالية.

تنقسم مجموعة القبائل الشمالية بدورها إلى فرعين: قبيلة ربيعة وقبيلة مضر. وكانت ربيعة مؤلفة من قبيلتين كبيرتين: بكر وتغلب بينما احتوت مضر على قبيلة قيس الكبيرة وكانت سُليم أحد فروعها. إلى جانب ذلك وجدت تغلب وبكر مجالاً حيوياً للعيش في العراق في السنوات الأولى لظهور الإسلام. وفي حقبة انتشار الإسلام والفتوحات العربية الأولى ساهمت قبيلة بكر الكبيرة، والشيبانيون منهم على وجه الخصوص، بنشاط في فتوحات الخلافة المظفّرة بينما ظلت قبيلة تغلب على دينها المسيحي.

أدًت الفتوحات إلى انتقال قبيلتي تغلب وبكر واستيطانهما في شمالي منطقة ما بين النهرين. استقرت قبيلة تغلب في منطقة الموصل، التي سمّيت بدار ربيعة، بينما اتجهت قبيلة بكر وخاصة الشيبانيون منهم إلى المناطق الشمالية لنهر دجلة واستوطنوا حول آمد ومن هناك بدأوا يحكمون منطقة أغجنيك الأرمنية.

سميت المنطقة بعدئذ بدياربكر لذلك فإن المدينة التي كانت تسمى Amida في الماضي هي مدينة ديار بكر الحالية. أما بقية مناطق ما بين النهرين السورية فقد استوطنتها قبيلة عربية مرموقة أخرى هي قيس فقد وصلت جماعات كبيرة منها إلى هذه المنطقة عبر فلسطين وسوريا. تزامن ظهور الإسلام مع انتشار قبيلة قيس نحو الشمال إلا أن جماعات قليلة منها ظلت في سوريا بينما عبر القسم الأكبر نهر الفرات فسميت الأراضي التي احتلتها هذه القبائل بديار مضر لأن قبيلة قيس كانت تنتمي إلى مجموعة القبائل التي استوطنت المنطقة وكان معظمها ينتمي إلى المجموعة اليمنية الجنوبية وخاصة إلى قبيلة كلب. وكانت لهذه المنافسة عواقب مصيرية على تاريخ الحقبة الأموية لأن الخلفاء الأمويين كانوا يعتمدون على قبيلة كلب أما الآن فقد بدأوا يميلون إلى قبيلة قيس.

لم يزُل السكان المحليون نتيجة استيطان هذه القبائل العربية ولا شكّل العرب الأغلبية إلا أنهم أضحوا العنصر السائد بشكل واضح جداً. وكان السكان المحليون في الجزيرة ينتمون إلى أعراق شتى. فإلى جانب العرب كان هناك السريان والأرمن والأكراد واليهود وسواهم. أدّت حركة تعريب السكان المحليين، التي بوشر بها أثناء حقبة الأمويين، إلى تقوية العنصر العربي أكثر.

إعتنق بعض السكان المحليين الدين الإسلامي إلا أن النصر الأكبر كان للغة العربية لأنها أضحت اللغة المحكية في منطقة شمالي ما بين النهرين في نهاية القرن 9 م ودخلت حتى في آداب الكنيسة السريانية. وعندما جاءت البعثة السورية الخلقيدونية برئاسة ثيودور أبو قرّة إلى أرمينيا أرسل اليعاقبة السوريون ضده الشمّاس Nana الذي، بعد إبطال نفوذ ثيودور أبو قرة، جهّز شرحاً باللغة العربية لإنجيل القديس يوحنا الذي تُرجم إلى الأرمنية بطلب من الأمير الأرمني بقْراد بقْرادوني.

نشأت مقاطعة الجزيرة كإحدى الوحدات الإدارية للدولة العربية وكانت مؤلفة من 3 مناطق: ديار ربيعة وديار مضر وديار بكر.

تقع ديار ربيعة في المنطقة الوسطى لنهر دجلة وتحدها أرمينيا من الشمال وتدخل فيها مناطق عديدة منها كوردوك وتموريك وغيرهما وكانت مدينة الموصل تشكل مركزاً لها وعاصمة منطقة الجزيرة كلها في الوقت ذاته.

كانت ديار مضر تمتد من المناطق الوسطى لنهر الفرات من Kirkesion  إلى سميساط وتدخل  فيها الرها وحرّان وغيرهما من المدن.

أما ديار بكر فقد كانت مرتبطة بشكل أوثق مع أرمينيا مقارنة مع المنطقتين الأخريين. سمّت آمد،  التي كانت المركز الإداري والتجاري للجزيرة وتصلها بضائع عديدة من أرمينيا، إحدى بواباتها الأربعة “باب الأرمن”. وكان العرب يسمون مدينة Nperkert الأرمنية، الواقعة في منطقة أغجنيك، بميّافرقين. ومن مدن هذه المنطقة أيضاً أرزان Arzn وبدليس Baghesh. ومن المدن الأقل أهمية في منطقة دياربكر أنهيل Angh وهاني وسعرت وخيران إلى الشرق بينما حصن كيغا كان يقع إلى الغرب من نهر دجلة.

كانت منطقة ديار بكر تحكمها قبيلة الشيبانيين ولعب أمراؤها دوراً مهماً ليس في الحياة السياسية لمنطقة الجزيرة فحسب، بل في حياة أرمينيا وآذربيجان أيضاً. وعند ظهور الإسلام كان مثنّى بن حارثة، زعيم هذه القبيلة المولعة بالحرب، قد ساهم بشكل كبير في انتصار السلاح العربي في العراق .

وبسبب اكتسابها لشهرة عظيمة في عمليلتها الحربية ضد العشائر المجاورة تحركت هذه القبيلة شمالاً تدريجياً نحو وادي نهر دجلة ووصلت إلى أغجنيك. وإلى الجهة الشمالية ـ الغربية من هذا الوادي تبدأ المنطقة العسكرية لشمالي ما بين النهرين التي كانت معروفة بحزام ديار بكر العسكري أو”الثغور البكرية”. امتدت هذه المنطقة إلى بحيرتي Göljük وDuluk. وكان أحد أفراد هذه القبيلة، وهو معن بن زائدة الشيباني، قد حارب العباسيين في الأيام الأخيرة للأمويين. ورغم ذلك، وبسبب إنقاذه لحياة الخليفة المنصور، بقي على المسرح السياسي في عهد العباسيين أيضاً وعيّن حاكماً على اليمن وخلفه ابنه زائدة من بعده.

كان يزيد بن مَزْيَد بن زائدة الشيباني أول أمير شيباني عُيّن في منصب حاكم أرمينيا وهو ابن شقيق معن الذي تبوأ هذا المنصب لفترتين في عهد الخليفة هارون الرشيد 786-809م. وكانت الخلافة في هذه الفترة تمارس سياسة خشنة تجاه أرمينيا وخاصة أن عمليات توطين البلاد بالعناصر العربية كانت تتسارع بشتى الطرق الممكنة. ويؤكد اليعقوبي أن يزيداً نقل عرباً عديدين جداً ينتمون إلى قبيلة ربيعة (الشيبانيين) إلى أرمينيا أثناء فترة حكمه الأول عام (787- 788م إلى درجة أنهم شكلوا أغلبية السكان في بعض المناطق في فترة قصيرة جداً.

من المحتمل أن هذه الجاليات تأسست لا في أرمينيا بل في شيروان حيث أقام أتباع يزيد إمارتهم الوراثية في القرن 9 م. وحسب أقوال الكاثوليكوس الأرمني هوفهانّيس دراسخاناكيردتسي عامل يزيد أرمينيا بقساوة حتى إنه قام بسلب الأواني الذهبية والفضية من الأديرة الأرمنية. وتشهد المصادر العربية أيضاً على هذه الممارسات الفظة.

بعد إزاحته من منصب حاكم أرمينيا أُرسِل يزيد لسحق عصيان الوليد بن طريف الشيباني الذي ينتمي إلى قبيلته. وكان الوليد قد جهّز جيشاً كبيراً في منطقة  Medzpin وسبب بعض الصعوبات لقوات الخليفة. إلا أن يزيداً أفلح في قتل نسيبه في معركة وطيسة وعُيّن حاكماً على أرمينيا للمرة الثانية سنة 799م في فترة هجمات الخزر. ولم تكن أرمينيا وحدها تحت حكمه، بل مدّ سلطته على آذربيجان وردّ جحافل الخزر بنجاح. بعد وفاته عام 801م خلفه ابنه أسد الذي كان حاكم الموصل في الوقت ذاته ثم جاء بعده ابنه الآخر المدعو محمد بين عامي 802-803م. وطّد محمد، الذي كان يحكم من قلعة شاماخي في شيروان، سلطته على هذه المقاطعة إلى درجة أصبح القسم الشرقي من أغبانيا ضمن أملاكه الوراثية. وفي حقبة خلافة الأمين 809-813م سُمّي أسد بن يزيد بن مزْيَد حاكماً على أرمينيا في فترة صعود المتغلّبة العرب أي يحيى بن سعيد “كوكب الصباح” وإسماعيل بن شُعيب. قبض أسد على هذين الثائرين لكنه أطلق سراحهما بعد فترة وكان ذلك سبباً في إقصائه عن منصبه. وبعد هذه الأحداث سُمّي خالد بن يزيد حاكماً على أرمينيا في 4 مناسبات وقُلّد هذا المنصب للمرة الأولى في فترة خلافة المأمون 813- 833م وكانت معاملته لعائلات الأمراء الأرمن لطيفة.

وفي الفترة الثانية لحكمه 828-832م حارب خالد الثوار في أرمينيا فخضع له محمد بن عتّابي في إيبيريا وسوادة بن عبد الحميد الجحّافي في أرمينيا ويزيد بن حسن في نخجوان مسبباً الرعب والكوارث للسكان المحليين والمتغلّبة الذين استوطنوا فيها.

عُيّن خالد للمرة الثالثة أثناء حكم الخليفة المعتصم 833-842م حاكماً على أرمينيا عام 841م  لكن مجرد بلوغ الأخبار حول تعيينه فجّر عصياناً شديداً في أرمينيا مما اضطر الخليفة على استدعائه إلى بغداد. عُيّن خالد للمرة الرابعة أثناء خلافة الواثق 842-845م لكنه جاء إلى أرمينيا في هذه المرة على رأس جيش كبير وقمع الثوار المسلمين. توفي خالد بعد فترة ودفن في عاصمة أرمينيا دبيل.

وخلفه ابنه محمد الذي احتلّ المناطق بالحديد والنار وحارب إسحاق بن إسماعيل بن شعيب أمير تفليس كما حارب اللاز.

كان الشيبانيون على علاقة وثيقة مع أرمينيا ليس بسبب سيطرتهم على أغجنيك فحسب، بل لأنهم كانوا يحكمون شيروان التي كانت قسماً من أرمينيا. وكان شقيق محمد المدعو هيثم يحمل لقب “شيروان شاه” وحكم خلفاؤه هذه المنطقة وراثياً من بعده ويُعرفون في التاريخ باسم المَزْيَديين. بعد سقوط الحكم العربي سنة 861م حكم هؤلاء كأمراء مستقلين حتى عام 1027م عندما استُعيض عنهم بالكسرانيين.

عُيّن محمد بن خالد، الذي كان في ديار بكر، حاكماً على أرمينيا مرة أخرى بعد حملة بوغا الكبيرة. يقدم لنا المؤرخ الأرمني توماس أردزروني بعض المعلومات حول فترة حكمه الثالثة في عام 878م. حاول محمد التحالف مع أمير القيسيين أبو الورد في أباهونيك وغيره من الأمراء  لإزاحة “أمير أمراء الأرمن” آشوت عن منصبه لكنه لم يُفلح فطرده الأمير الأرمني من أرمينيا. وبذلك أصبح محمد بن خالد آخر أمير شيباني تبوأ منصب حاكم أرمينيا.

ظهر فرع جديد من عائلة الأمراء الشيبانيين في ديار بكر في منتصف القرن9 م فحكموا حتى بداية القرن 10 م نذكر منهم عيسى بن الشيخ الذي كان شخصية مرموقة في الخلافة. عُيّن عيسى حاكماً على سوريا (الشام) وعُزل بعد فترة من قبل الخليفة وأرسل إلى أرمينيا.

استناداً إلى هذا المؤرخ العربي حكم عيسى أرمينيا وديار بكر قبل التعيين الثالث لنسيبه محمد بن خالد. وكان ابنه محمد يدبّر المكائد ضد عائلة الزُراريين في أرزان والمملكة الأرمنية، التي تشكلت حديثاً، لكنه دُحر أمام قوات الخليفة ففقد الشيبانيون مركزهم السياسي الهام ومعظم أملاكهم في ديار بكر.

*ينفرد موقع “أزتاك العربي للشؤون الأرمنية” بنشر كتاب “الإمارات العربية في أرمينيا البقرادونية” للمؤلف المستشرق الدكتور البروفيسور آرام تير-غيفونديان، (الطبعة الثانية المنقحة)، ترجمه عن الإنكليزية: الدكتور ألكسندر كشيشيان، عضو اتحاد الكتاب العرب، رئيس تحرير “كتاب العاديات السنوي للآثار”، صدر الكتاب عن مؤسسة المهندس فاروجان سلاطيان، حلب 2013، وسيتم نشر فصول الكتاب تباعاً (3).

Share This