هجرة العرب إلى أرمينيا وقبيلة سُليم (السُلَّميون)

الدولة العباسية

كانت أغجنيك المقاطعة الأرمنية الأولى التي استوطنتها جموع كبيرة من العرب الذين ثبّتوا أقدامهم في مدنها مثل نبركرت وآمد وباغيش. وتشير المصادر أن الشيبانيين عبروا ممر جورا وحكموا المناطق الواقعة قرب تطوان على سواحل بحيرة Van.

كان لتمركز القوات العربية في أرمينيا غايات سياسية وعسكرية لأنها لم تقم بإخضاع أرمينيا فحسب، بل رأت في قواتها المتفوقة شرطاً لصد هجمات البيزنطيين والخزر أيضاً. علاوة على ذلك كانت القواعد العربية في أرمينيا ضرورية لشن حملات عسكرية ناجعة يمكن تزويدها بقوات جديدة بالسرعة الممكنة عند الضرورة. والسبب الذي حال دون استيطان العناصر العربية في أرمينيا حتى نهاية القرن 8 م هو دخول هذه القبائل إلى مقاطعتين أخريين مجاورتين للحدود البيزنطية هما سوريا والجزيرة في بداية القرن7. ورغم ذلك، ومع مرور الوقت، بدا واضحاً أنه يجب توطين بعض الجماعات العربية في أرمينيا أيضاً وخاصة بعد الثورة العنيفة التي انفجرت على أراضيها بين عامي 774-775م. ولخلق خط دفاع ناجع ضد الخزر نشرت الخلافة قواتها في بعض مقاطعات أغبانيا وخاصة قرب باب الأبواب حيث كان المستوطنون العرب قد وصلوا إليها بأعداد كبيرة منذ الفترة المبكّرة للحكم العربي.

ولمحاربة الإمبراطورية البيزنطية استقرت القبائل العربية في قلب أرمينيا منها قبيلة سُليم التي شاركت في الحروب الحاسمة على الحدود العربية–البيزنطية. لذلك انتقلت هذه القبيلة إلى المقاطعات الأرمنية المتاخمة للأراضي البيزنطية وتحديداً إلى مدينتي باغيش وقاليقلا. وكان لقبيلة سُليم دور نشيط في الحروب البيزنطية التي جرت في المقاطعات العربية لأرمينيا الكبرى وذلك منذ بداية الإجتياح العربي. لقد أرسل عيّاض بن غنم في هذه الفترة حبيب بن مسلمة وصفوان بن المعطّل السُلّمي باتجاه نهر الفرات لطرد القوات البيزنطية فاحتلا مدينة سميساط ووصلا حتى كاماخ رغم احتلال المدينة من قبل سُلّمي آخر وهو عُمير بن الحباب.

علينا أن نشير هنا أيضاً إلى منصور بن جعوانة من قبيلة قيس الذي كان قد سمّى القلعة الواقعة جنوبي مدينة Melitene باسمه في فترة الحكم الأموي. ويؤكد البلاذري أن مدينة كاماخ كانت بيد قائد عربي من قبيلة قيس في فترة الهجوم الكبير على قسطنطين الخامس.

عندما وصلت الفتوحات العربية إلى نهايتها في فترة العباسيين عُيّن يزيد بن أُسيِّد السُلّمي حاكماً على أرمينيا وتوارث عدد من أفراد عائلته المنصب من بعده. واستناداً إلى البلاذري كانت والدة يزيد ابنة نبيل منطقة سيونيك الأرمنية الذي كان قد أسر أثناء حملة مجد بن مروان. استرد يزيد مدينة قاليقلة، التي كان قد احتلها قسطنطين الخامس، وفرض على السكان الأرمن تأمين حاجات القوات العربية التي تمركزت فيه .

لُقِّبَ ساهاك بقراتوني أميراً على أرمينيا في هذه الفترة وتولى يزيد حكم البلاد لثلاث فترات بين 752-754م و759-770م و775-780م وكان قائداً ممتازاً في حروبه ضد الخزر وحاكم أرمينيا والجزيرة في الوقت ذاته. ويذكر اليعقوبي في السنوات الأخيرة من القرن 8 م أنه كان ليزيد ولدان نجحا في إدارة شؤون أرمينيا كحاكمين وهما خالد بن يزيد بن أسيد السلّمي 794م وأحمد بن يزيد بن أسيد السلمي 796- 797م.

حكم ابن الأخير بدوره المدعو عبد الله بن أحمد السلمي أرمينيا لحقبتين بين عامي 825-826م وأكد اليعقوبي أنه كان حاكماً ضعيفاً. واشترك ابن عبد الله المدعو يزكان السلمي في الحرب ضد بيزنطة وجرح في المعركة التي جرت أمام زيبترا حيث توفي حسب أقوال البلاذري.

هناك حكام آخرون من قبيلة سُليم ومن عائلة يزيد بن أسيّد توالوا على حكم أرمينيا. ولدينا أبحاث تشير إلى أن يوسف بن رشيد السلمي عمل بنشاط على توطين العرب في أرمينيا.

ينتمي الجحّافيون، الذين سنحدث عنهم لاحقاً، إلى قبيلة سُليم. وكان الحكام العرب من قبيلة سُليم يدعمون بالطبع هذا التغلغل إلى الأراضي الأرمنية عن طريق أنسبائهم. ومن المؤسف أن المؤرخين العرب لا يقدمون سوى النذر اليسير حول هجرة العرب إلى أرمينيا في نهاية القرن 8 م. ومع ذلك توجد معلومات قيمة جداً حول ذلك جاءت على لسان اليعقوبي لأن هذا الجغرافي العربي كان من أقرباء حاكم أرمينيا وديع وكانت مسألة الجاليات العربية في أرمينيا موضع أهتمامه الخاص لذلك سافر إلى تلك البلاد.

بدأت أولى موجات الاستيطان العربية الكبيرة في أرمينيا في حقبة هارون الرشيد 786-809م. يؤكد اليعقوبي على هذه الحقيقة قائلاً: “عين هارون الرشيد يوسف بن رشيد السلّمي حاكماً عوضاً عن خزيمة بن خازم. وقد أسكن هذا جماعة من النزاريين على هذه الأرض لكن زاد عدد هؤلاء في حقبة يوسف. وبعد ذلك سمّى هارون الرشيد يزيد بن مزيد بن زائدة الشيباني حاكماً على أرمينيا الذي جلب أعداداً كبيرة جداً من أفراد قبيلة ربيعة من كل حدب إلى درجة شكلوا  أغلبية السكان وقام بالسيطرة على البلاد على نحو صارم لم يتجاسر أحد على التحرك بدون إذن منه. ثم جاء بعده عبد الكبير بن عبد الحميد الذي كان من عائلة زيد بن الخطاب العدوي من حران. وقد وصل هذا مع جماعة من رجال ديار مضر إلاّ أنه بقي مدة 4 أشهر ثم قفل راجعاً”.

يؤكد هذا المقطع على أن القبائل العربية الجنوبية (اليمنية تحديداً) استوطنت في أرمينيا قبل بقية القبائل على الرغم من جهلنا بالمقاطعة الأرمنية الأولى التي نزلوا فيها. ومن المحتمل أن بعض الجاليات اليمنية كانت موجودة في أرمينيا الأصلية. لقد وصلت العداوات والخصومات بين القبائل الشمالية والجنوبية، التي استمرت قروناً عديدة، إلى درجة من الحدة على أراضي أرمينيا  اضطر الحاكم يزيد بن مزيد الشيباني على مصالحة النزاريين مع اليمنيين. ومع ذلك علا شأن مجموعة القبائل الشمالية القاطنة على مساحة أرمينيا الكبرى في عهد هارون الرشيد. وتنتمي قبيلتا مضر وربيعة، كما أسلفنا، إلى المجموعة الشمالية وتشكل قيس فرعاً من قبيلة مضر وكانت قبيلة سُليم إحدى جماعات قيس.

كان الحقد بين هاتين المجموعتين الكبيرتين من القبائل الشمالية والجنوبية شديداً وعميقاً إلى درجة عدم بقاء أي أثر للمستوطنات اليمنية القليلة بعد نزوح قبائل قيس إلى أرمينيا.

من الشيق أن نذكر هنا أن قبيلة قريش، التي كانت تحكم المدينة المنورة، تنتمي إلى المجموعة الشمالية وكان الرسول محمد أحد أفرادها. وعندما تعرض الرسول إلى الاضطهاد في مكة التجأ إلى عرب المدينة المنورة الذين ينحدرون من القبائل الجنوبية.

كانت أغجنيك تشكل إدارياً قسماً من منطقة الجزيرة التي أضحت الآن جسراً تمر فوقه القوات العربية الشمالية نحو أرمينيا الكبرى والتي اكتظّت منذ البدء بالشيبانيين الذين ينتمون إلى جماعة ربيعة من قبيلة بكر. وصلت بعد ذلك جماعة من القيسيين من قبيلة سُليم عبر هذه المدينة أيضاً وانتشرت في المقاطعات الكائنة حول بحيرة Van. وكانت قبيلة سُليم المشهورة تقطن بين مكة والمدينة قبل ظهور الإسلام.

عند بدء الحملات العسكرية العربية في القرن 7 م انتشر أفراد هذه القبيلة في منطقة ما بين النهرين وشمالي إفريقيا ومناطق أخرى. وإذا حاولنا  تلخيص الحقائق التي ذُكرت في هذا البحث نرى أن وضع القبائل العربية، التي استوطنت في أرمينيا والمناطق القريبة منها، يمثّل الصورة التالية: لا نعلم حتى الآن عن هوية القبيلة العربية الجنوبية (الغسانيون أم اللخميون أم التنوخيون أم الكلبيون أم غيرهم) التي بنت المستوطنات الأولى في أرمينيا لكنها مع ذلك وصلت على الأرجح عبر سوريا. هناك مستوطنات في أرمينيا الكبرى شكلتها جماعتان تنتميان إلى القبائل الشمالية وتحديداً ربيعة ومضر:

(أ) كانت جماعة “وائل”، التي هي فرع من قبيلة ربيعة، مؤلفة بدورها من قبيلتين معروفتين هما بكر وتغلب. انحدر الشيبانيون من قبيلة بكر واحتلوا أغجنيك بينما نزح الزراريون إلى أرزان ومن المحتمل ينتمون إلى قبيلة بكر. وانحدر الحمدانيون بدورهم من قبيلة تغلب المسيحية وأسسوا مملكتهم الشهيرة في منطقة الموصل في القرن 10م.

(ب) تشمل مجموعة مضر قبيلة قيس إلى جانب فروع أخرى منها قريش التي كانت قبيلة الرسول محمد. وانحدر السلميون من قبيلة قيس والجحافيون وUthmanids من قبيلة سُليم.

لم تكن الغاية من إرسال جميع هذه القبائل العربية محاربة بيزنطة فقط، بل كان هناك مخطط معين للاستيطان. استوطنت هذه القبائل في منطقة من أرمينيا كانت تعرف لدى الجغرافيين العرب بأرمينيا الرابعة. ويحدد الجغرافي ابن خرداذيبة من القرن 9 م هذه المنطقة على الشكل التالي: “تتألف أرمينيا الرابعة من سميساط وخلاط وقاليقلة وأرجيش وباجونايس”.

كانت لهذه المدن أهمية عسكرية كبيرة أثناء الحروب العربية ـ البيزنطية لأن القوات العربية كانت تتمركز فيها وكانت سميساط وقاليقلا تقعان في المنطقة الحدودية تقريباً بينما شكلت خلاط وأرجيش ومنازكرت، التي سكنتها قبائل محاربة، شريطاً خلف المنطقة الحدودية ومنها أرسلت قوات جديدة إلى هذه المنطقة.

أسهمت الهجرات الجماعية الأرمنية بشكل كبير في ملئ القبائل العربية الفراغ. لقد أُكرهت الجموع الأرمنية وعائلات الأمراء على الانتقال إلى الأراضي البيزنطية لأسباب سياسية واقتصادية وسواها ولو على حساب تحملها الاضطهادات الدينية (الخلقيدونية).

لم تتوجه الهجرات نحو الغرب فحسب، بل وصلت إلى المناطق الشمالية ـ الغربية أي إلى أراضي إيبيريا الغربية أيضاً بعد سحق ثورة الأرمن عام 703م. واستناداً إلى المؤرخ الأرمني غيفوند: “هجر سمبات بقراتوني والأمراء المرافقون له مناطقهم ورجوا ملك بيزنطة أن يقدم لهم مدينة كي يعيشوا فيها وأراضٍ لرعي قطعانهم”.

وكانت الهجرات ظاهرة عامة مميزة في المقاطعات العربية. مثال آخر على الهجرة هو انتقال الأرمن من مدينة قاليقلة والمقاطعات المجاورة لها إلى بيزنطة بعد ثورة عام 747-750م.

استغلت الإمبراطورية البيزنطية هذه الوحدات المسلحة الأرمنية في الحروب التي شُنّت ضدها في مناطق مختلفة. علاوة على ذلك سَرَّع النظام الضريبي الجائر في حقبة العباسيين بدوره وتيرة الهجرة الأرمنية. يؤكد المؤرخ الأرمني غيفوند على ذلك قائلاً: “تخلّى العديدون عن أراضيهم وقطعانهم وهربوا بمحض إرادتهم”.

إلا أن الموجة الكبرى للهجرات بدأت بعد سحق ثورة عام 774-775م التي غيّرت وجه السياسة الأرمنية كاملة واختفت بالنتيجة فجأة وبدون ترك أي أثر بعض عائلات الأمراء الأرمن كالماميكونيانيين والكامساراكانيين الذين كانوا قد لعبوا دوراً محورياً في الحياة السياسية للبلاد. ويروي المؤرج الأرمني فارطان أن الكنونيين Gnunis الأرمن عاشوا في مقاطعة أغيوفيت وطلبوا من أمير البقراتونيين Ashot  Msaker إنقاذهم من العرب الذين يتسللون إلى المقاطعات الواقعة شمالي بحيرة Van. فوصل آشوت إلى أغيوفيت بجيش قوامه 1,000 جندياً وضم جميع أفراد هذه العشيرة وسار بهم إلى مقاطعة تايك. سنرى لاحقاً أن هذه الأراضي المهجورة انتقلت إلى قبيلة Uthmanids العربية.

هكذا كانت الأحوال في نهاية القرن 8 م عندما وجدت أرمينيا نفسها على عتبة تغييرات جديدة. وكان زعيم ثورة عام 774-775م موشيغ ماميكونيان قد خلّف 4 إناث و3 ذكور. تزوجت إحدى الفتيات من أحد أمراء قبيلة الجحّافيين ولعبت دوراً محدداً في تاريخ هذه الحقبة.

*ينفرد موقع “أزتاك العربي للشؤون الأرمنية” بنشر كتاب “الإمارات العربية في أرمينيا البقرادونية” للمؤلف المستشرق الدكتور البروفيسور آرام تير-غيفونديان، (الطبعة الثانية المنقحة)، ترجمه عن الإنكليزية: الدكتور ألكسندر كشيشيان، عضو اتحاد الكتاب العرب، رئيس تحرير “كتاب العاديات السنوي للآثار”، صدر الكتاب عن مؤسسة المهندس فاروجان سلاطيان، حلب 2013، وسيتم نشر فصول الكتاب تباعاً (4).

Share This