أرمينيا وعلاقاتها السياسية بكلٍ من البيزنطيين والمسلمين

 asia25012B

صدر كتاب “أرمينيا وعلاقاتها السياسية بكلٍ من البيزنطيين والمسلمين (33-457 ھ/653-1064م)” للمؤلف د. عبد الرحمن محمد العبدُ الغني عام 1989 في الكويت، وعرض الكتاب أحمد محمد عبد القوي شعير على موقع “آسيا الوسطى” حيث كتب:

الكتاب الذي نحن بصدد عرضه سبر أغوار فترة زمنية مهمة من الفترات التاريخية، التي شكلت محوراً مهماً من محاور التاريخ، وهو كتاب “أرمينيا وعلاقاتها السياسية بكلٍ من البيزنطيين والمسلمين (33-457 ھ/653-1064م)”، للدكتور عبد الرحمن محمد العبد الغني، مدرس تاريخ العصور الوسطى، كلية الآداب- جامعة الكويت، وتكمن أهمية هذه الدراسة في تناول علاقة ثلاث قوى سياسية صنعت تاريخ هذه الفترة الزمنية، القوة الأولى، وهي أرمينيا، التي كانت بمثابة مرآة حساسة، انعكست على سطحها ردود أفعال سياسات الكيانات السياسية المختلفة المحيطة بها، ولاسيما البيزنطيين والمسلمين.

والدراسة التي بين أيدينا تقع في خمسة فصول يسبقها مقدمة، ويلحقها خاتمة، وتتناول في الفصل الأول أهمية الموقع الجغرافي والاستراتيجي لأرمينيا، إذ إنها كانت المرآة العاكسة للأحداث المحيطة بها في جارتيها الإمبرطورية البيزنطية والدولة الإسلامية على أرضها، مما جعلها تلعب دورًا استراتيجيًا مهمًا عبر عصور التاريخ في العلاقات بين الشرق والغرب، فكثيرًا ما تصارعت القوتان المحيطتان بأرمينيا من أجل السيطرة عليها.

وقد بين الكاتب الدور الأساسي الذي لعبه موقع أرمينيا وطبيعتها الجبلية في صنع تاريخها، وتكوين شخصيتها، وكذلك بلورة أنظمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بمنأى عن أيٍّ من الكيانات السياسية المجاورة للأرمن، ولم يربط الأرمن بالشعوب المجاورة لهم إلا مصلحتهم الذاتية، فقد كانت سياستهم تتأرجح بين الولاء والعداء، والترغيب والترهيب لكل من الإمبرطورية البيزنطية والدولة الإسلامية، ورغم أن الديانة المسيحية جمعت بين الأرمن والبيزنطيين، فإن الخلاف المذهبي فرقهم، وجعلهم يتساوون في نظرهم مع المسلمين، ومجمل ما أوضحه الكاتب في هذا الفصل يظهر الدور الكبير الذي لعبه الموقع الجغرافي لأرمينيا في صنع سياستها الخارجية مع جارتيها عبر العصور.

وأوضح الباحث في الفصل الأول من الدراسة طبيعة العلاقات بين الدولة الأموية وأرمينيا (33-132 ھ / 653-750م)، والتي أرجع بدايتها إلى معركة القادسية 16ھ /636م، ومعركة نهاوند 21 ھ /641م، إذ شارك الأرمن ضمن الجيوش الفارسية، وعقد عدة مقارنات وموازنات تاريخية بين مختلف المصادر والأصول، بهدف استجلاء الحقيقة التاريخية في عرضٍ منطقي ومتسلسلٍ بعيدًا عن التضارب والتناقض، لتوضيح طبيعة العلاقات الأموية الأرمينية خاصةً، والعلاقات الإسلامية الأرمينية عامة، وأوضح أيضًا أن عام 30 ھ /650م هو العام الذي حدثت فيه الغزوة الثالثة لأرمينيا، والتي سبقتها غزوتان في عام 640/642م، على أثرهما عقد الأرمن اتفاقية في عام 33 ھ/ 653م، خضعوا بموجبها للخلافة الإسلامية، وحصلوا على الكثير من الامتيازات والإعفاءات، ولقد كان الخلاف المذهبي بين الكنيستين البيزنطية والأرمينية السبب في جعل الخليفة الأموي، معاوية بن أبي سفيان (40-61ھ)، حريصًا على منح أرمينيا الحكم الذاتي في ظل السيادة الإسلامية، ورغم ذلك قامت عدة ثورات أرمينية ضد الخلافة العباسية، وقد ساندت بيزنطة تلك الثورات، انتقامًا من المسلمين.

ومنذ النصف الثاني من القرن السابع الميلادي، كانت أرمينيا ميدانًا للصراع بين المسلمين والبيزنطيين، وبتعاقب الخلفاء الأمويين تنوعت السياسات تجاه الأرمن، وبنهاية الخلافة الأموية سادت الاضطرابات معظم أجزاء أرمينيا، كما سادت باقي أنحاء الخلافة الإسلامية حينئذٍ، في ظل قوة وانتشار الدعوة العباسية، وسقوط دمشق في أيدى العباسيين 132ھ، وانتقال الخلافة إلى بغداد.

وفي الفصلين الثاني والثالث من الدراسة، تناول الكاتب طبيعة العلاقات بين العباسيين والأرمن، فرغم انتقال الخلافة الإسلامية إلى بغداد، لم تقل أهمية أرمينيا بتولي العباسيين مقاليد الحكم والسياسة، فقد أراد هؤلاء استخدام الشدة والقوة لفرض نفوذهم في أرمينيا، وحققوا هدفهم، وذلك بعد أن غزت جيوشهم معظم المدن الأرمينية، مما كان له أكبر الأثر في نشوب العديد من الثورات الأرمينية ضد العباسيين، منها ثورة 155 ھ /770م، بزعامة ارتفازد دميكونيان، وقد تصدي الولاة العباسيون، مثل يزيد السلمي، والحسن الطائي لهذه الثورات، وخاضوا غمار معركتين كبيرتين هما: أرجيش 15 إبريل 159ھ/775م، وبجريفاند 25 إبريل من العام نفسه، ونتج عن ذلك خضوع معظم أرمينيا للعباسيين، واختفاء نفوذ عددٍ من الأسر الأرمينية، وظهور عدد من الأسر الأخرى مثل أسرة بقراط.

ورغم ذلك كله، أظهر الكاتب ما تمتع به الأرمن في ظل الخلافة العباسية من تسامحٍ ديني، في ظل سياسة الدولة الإسلامية تجاه أهل الذمة، وحمايتها لهم وهو ما لم يتمتعوا به في ظل الحكم البيزنطي، بل وحافظ الأرمن على نظامهم الإقطاعي، ومذهبهم الديني أهم دعامتين أساسيتين لهم.

وبشكلٍ تفصيلي، تعرض الكاتب لثورة بابك الخرمي (201-222ھ /816-837م) على الدولة العباسية، والتي بدأت بعيدًا عن الأقاليم الأرمينية، وما لبثت أن امتدت إلي داخلها، نتج عنها إقدام بيزنطة على ضرب بعض الثغور الإسلامية على يد ثيوفيلوس، الإمبراطور البيزنطي (829-842م)، ورصد المؤلف التمردات المختلفة على الخلافة العباسية، في ظل ضعفها، وظهور عددٍ من الدويلات المستقلة عنها، ومن ثم أصبحت السيادة العباسية على أرمينيا اسمية، وتُوج أشوط الخامس– أشوط الكبير– ملكاً على أرمينيا، ومن هنا نجد أن مقاليد القوة في هذه المنظقة تحولت إلى منعطف جديد، إذ ضعف العباسيون وظهرت الملكية الأرمينية، وضُخت دماءٌ جديدةٌ في الإمبرطورية البيزنطية مكنتها من السيطرة على معظم الثغور الإسلامية، فكان من الطبيعي لمصلحة الأرمن كسب البيزنطيين القوة الأقوى وقتئذٍ.

وعالج الكاتب في الفصل الرابع قضيةً مهمة، وهي انحسار النفوذ العباسي، ومد النفوذ البيزنطي نحو الشرق (272-342 ھ  /885-935م)، فقد غرقت الخلافة العباسية في بحور الاضمحلال، وزادت الإمبراطورية البيزنطية قوةً، وحدث أن استقلت عدة دويلات عن الدولة العباسية، مثل إمارة الحمدانيين في الجزيرة، والبويهيين في فارس، وغيرهما من الدويلات الأخرى في بلاد ما وراء النهر ومصر والشام، واحتدم الصراع بين الجنود الأتراك الذين ثاروا ضد العباسيين، في الوقت الذي دخلت فيها الدولة البيزنطية مرحلة القوة والحيوية، بفضل امتزاجها بدماءٍ جديدة في الكيان الإمبراطوري، أهمهما الأرمن والسلاف.

واستمر الكاتب في توضيح السياسات التوسعية للبيزنطيين تجاه الشرق، وتمثل رد الفعل الأرمني في انتهاز هذه الفرصة للحصول على المزيد من الامتيازات والسلطات من الخليفة العباسي، في الوقت الذي حرص فيه الملك الأرميني سمباد على التحالف مع بيزنطة، فتبادل معها السفارات.

وفي ظل هذه الأحداث، أشار الكاتب إلى بزوغ صراعٍ إسلاميٍ أرميني من نوعٍ جديد، متمثلٍ في العداء بين الإفشين حاكم ولاية أذربيجان المسلم، وسمباد ملك أرمينيا، الذي نتج عن محالفة الأخير للبيزنطيين، بالإضافة إلى طمع الإفشين في مد نفوذه على أرمينيا، واستمر هذا الصراع بينهما، حتى حدث تقارب في النهاية بين يوسف بن أبي الساج، حاكم أذربيجان، والملك الأرميني، أشوط الثاني 305 ھ  /917م. وحرص الكاتب على أن يثير عدة قضايا تخص علاقة كل منهما مع بيزنطة، في ظل ظهور خطر البلغار على بيزنطة، وعلى أية حال، فقد سادت أرمينية حالةٌ من القلق وعدم الارتياح نتيجة التوسع البيزنطي تجاه الشرق، إذ انعكست آثاره سلبًا عليها، وبالتالي لجأت أرمينيا إلى عقد عدة اتفاقيات مع الدولة الحمدانية العربية في إقليم الجزيرة في مطلع القرن العاشر الميلادي، الرابع الهجري، وظلت أرمينيا تراقب ما يحدث حولها بين القوتين، فهو قدرها المحتوم.

وناقش الكاتب في الفصل الخامس والأخير، دور أرمينيا كدولة حاجزة بين البيزنطيين والمسلمين، ولعل قيامها بهذا الدور يُعد من القضايا المهمة في التاريخ الوسيط، فلقد رأت أرمينيا أن تحمي نفسها من خلال أدائها هذا الدور، لتحول دون الاستيلاء الكامل عليها من إحدى القوتين، أو أن تفقد هويتها وسماتها الخاصة. وقد سعت بيزنطة في عهد الإمبراطور البيزنطي قسطنطين التاسع مونوماخوس لضم أرمينيا الكامل لها، بل واضطر الأرمن في نهاية المطاف إلى التنازل عن أملاكهم لبيزنطة، في مقابل تعويضهم بأملاك أخرى، إذ إنهم فضلوا الخضوع والتنازل لبيزنطة عن ممتلكاتهم، بدلاً من وقوعهم تحت السيطرة السلجوقية، فقد ظهر الأتراك السلاجقة كقوةٍ جديدة في المنطقة تحمل لواء الإسلام، والدفاع عنه ضد البيزنطيين، مما أدى إلى الاستيلاء على معظم أرمينية، وتحطيم الجيش البيزنطي في معركة مانزكرت 457ھ / 1071م، الأمر الذي أدى إلى مزيد من الكراهية لبيزنطة من قبل الأرمن. وهنا يمكننا القول: إن الموقع هو الذي يلعب دورًا مهمًا في إحداث التقارب بين الدول، فأرمينيا هي أرمينيا الحديثة، وبيزنطة هي تركيا الحديثة، والصراع ممتدٌ منذ القدم، فهو صراع مكان وهوية قبل أن يكون صراع دول وأشخاص.

لقد نجح الكتاب في أن يكشف طبيعة العلاقات الأرمينية تجاه الدولة الإسلامية والإمبراطورية البيزنطية، موضحًا دور موقعها الجغرافي بين الشرق والغرب وأهميتها الاستراتيجية، التي كانت من أهم الأسباب الدافعة لطمع القوتين المجاورتين لها عبر العصور في أراضيها، فقد حتم عليها هذا الموقع أن تبقى في صراعاتٍ محتدمة للحفاظ على كيانها وسماتها.

كما أنه أوضح أن العلاقات الأرمينية الإسلامية اتسمت في مجملها بالسلمية، فقد تمتعت أرمينيا في ظل فترات الحكم الإسلامي بالحرية الدينية، وحصل شعبها على حقه الكامل في إدارة شؤون البلاد. كما أنها سعت دائماً لتحقيق مصالحها من خلال استغلالها الصراع بين المسلمين والبيزنطيين، ولعبها دور الدولة الحاجزة؛ لتحمي نفسها من الاستيلاء الكامل عليها من إحدى القوتين، وتعد هذه الفترة من أهم الفترات في العلاقات بين الشرق والغرب في العصور الوسطى.

Share This