الجَحّافيون ..وعلاقتهم بأرمينيا

bagratuni-4

إن زواج ابنة أحد أمراء عائلة ماميكونيان من عربي غير مرموق دليل على مستوى ضعف هذه العائلة التي هيمنت على الجو السياسي بقوة في يوم من الأيام. حاول المؤرخ الأرمني Vardan شرح الدواعي قائلاً: “زوّج الأمير ابنته، التي لا يذكر اسمها، من شخص إسماعيلي يدعى جحّاف كي ينال مساعدته”. ومن الصعوبة بمكان مع ذلك تأكيد مدى نفوذ هذا الرجل الذي، حسب هذا المؤرخ، كان يهدف إلى “ضم جميع أراضي زوجته لأملاكه” وخاصة أن النظام الاقطاعي كان وراثياً. وهناك احتمال أن عائلة الجحاف جاءت إلى أرمينيا أثناء فتوحات هارون الرشيد. يؤكد الكاثوليكوس المؤرخ هوفهانّيس المعاصر للجحاف على “أنه من عائلة فارسية.

نعتقد أن جحافاً كان من أصل كردي رغم قلة معلوماتنا حول التاريخ والنشاط الكردي في هذه الحقبة في المقاطعات الجنوبية لأرمينيا بين القرنين 8-9 م.

ظهر الجحافي الأول على المسرح السياسي بعد وفاة الخليفة هارون الرشيد وكان متزوجاً، كما أسلفنا، من إحدى بنات الأمير موشيغ ماميكونيان وحارب بعنف ودون هوادة ممثلي الخلافة كي يستفرد بمنطقته. وكان القرن 9 م بشكل خاص فرصة مناسبة لمشروع كهذا لأن الخلافة كانت تمر في حال صعبة بعد وفاة هارون الرشيد بسبب تنافس ولديه الأمين والمأمون على السلطة.

لم تنعم أرمينيا بالسلام في عهد هارون الرشيد أيضاً. يروي اليعقوبي أن حكام أرمينيا العرب شنّوا حروباً مستمرة ضد أبو مسلم الشعري الذي ظهر في أغبانيا في ذلك الوقت. وقد ذهب أبو مسلم بعيداً جداً عندما هاجم مدينة دبيل واحتلها مدة 4 أشهر عام 794م لكنه تقهقر بعدها.

لم تكن هناك حياة سياسية داخلية خاصة في أرمينيا الكبرى في بداية القرن 9 م بسبب زوال الأمراء الماميكونيانيين وغيرهم من عائلات الأمراء الأرمن عن الساحة لذلك اختلّت موازين الحياة فيها. إلى جانب ذلك لم يكن قَدَر الأمراء البقراتونيين والأردزرونيين والسيونيين معروفاً بأي شكل من الأشكال بسبب ظهور قوى جديدة كالشيبانيين بعد الجحافيين وبذلك أضحى النصف الأول من القرن 9 م حقبة للحرب العامة في أرمينيا فنتج عنها أوضاع جديدة.

كان الأمير Ashod  Msaker بن سمبات بقْراتوني، الذي قُتل في معركة بَكْريواند، مناهضاً للجحّافيين منذ البداية. بعد تجهيز خطة حذرة جيدة تمكن، على النقيض من الجحاف، الوصول إلى نفوذ قوي في حقبة قصيرة بسبب عدم إعلانه حرباً سافرة ضد الخلافة والقوى الأخرى وقام بالاستيلاء على عدد من المقاطعات بطريقة لا تستفزها. مدّ الأمير سلطته في البداية على عائلة ماميكونيان القديمة في تارون ثم اشترى مقاطعتي شيراك وأرشارونيك من الكامساراكانيين المنهارين ونقل مقره من Dariwnk، مركز البقْراتونيين التقليدي، إلى مقاطعة أرشارونيك.

وبسبب حيازته على أراضٍ واسعة في أرمينيا لُقِّب “أمير الأمراء”. اصطدم آشوت مع قوات الجحاف في أرشارونيك وتارون وأفلح في دحره في المعركتين. فستدار الجحاف بعد ذلك إلى أعمال الغزو والنهب والسلب بعد إنكساره أمام الأمير آشوت وفشله في تقوية مركزه في أية مقاطعة أرمنية. مع ذلك تمكن بعد فترة من احتلال العاصمة دبيل بمساعدة ابنه عبد الملك التي كانت قد فقدت أهميتها كعاصمة دائمة للأمير. تأزّم الوضع السياسي في أرمينيا بشكل كبير بسبب احتلال المدينة لأن الجحافيين بدأوا يهددون سلطة الأمير الأرمني فعلياً. وبفضل عدم استقرار الوضع في الخلافة آثر الخليفة المأمون، الذي كان للتو قد تقلّد مقاليد السلطة، الإذعان أمام الأمر الواقع وقتياً وعين عبد الملك حاكماً على أرمينيا.

لم يقدم هذا التعيين حلاً مناسباً للمسألة لأن الجحافيين، الذين وصلوا إلى أعلى المراتب صدفة، لم يتحولوا إلى منافسين للأمراء الأرمن فحسب، بل هددوا الخلافة ذاتها رغم عدم استمرار حكمهم في دبيل سوى بضعة أشهر لأن المأمون عيّن حاكماً جديداً بعد فترة وجيزة وهو طاهر بن محمد السعناني. فثار عبد الملك بسبب هذا التعيين وطوّق مقر الحاكم الجديد في بردعة لكنه إنكسر وأعلن عن خضوعه له بعد الحصول على الأمان. وهذه الحماية، التي مُنحت لعبد الملك، أثارت بالطبع استياء البقْراتونيين الذين لم يتخلصوا من عدوهم الخطر بعدُ. وكان عبد الملك قد أرسل جيشاً قوامه 5,000 رجلاً (ربما كان بعضهم من عرب أرمينيا) قبل إنكساره أمام الحاكم الجديد  لمحاربة الأمير آشوت في تارون. أفلح الأمير في قتل 3,000 رجلاً وحصل على غنائم كثيرة.

لم يكتفِ الأمير الأرمني بذلك، بل أرسل شقيقه شابوه لاجتياح المناطق المحيطة بدبيل. جرت هذه الحملة بعد انسحاب عبد الملك من دبيل. وبما أنه كان لا يزال يملك بعض السلطة في المدينة فقد أرسل عبد الملك جيشاً لمواجهة شابوه لكن تصرفه فجّر ثورة داخلية عارمة في المدينة. ويخبرنا المؤرخ الأرمني فاردان عن ثورة المواطنين ضد عبد الملك وقتله وجرّ جثته حتى بوابة المدينة الرئيسية.

يمكن اعتبار مثل هذا التصرّف تجاه إنسان حصل على الأمان في ظروف سياسية أخرى عصياناً ضد الخلافة وتهديداً لسيادة الحاكم. إلا أن الظروف ذاتها، التي أكرهت الخليفة على التعامل بحذر مع الجحافيين، عزّزت من نجاح النهج الشجاع للبقْراتونيين وأدت هذه الحملات في الحقيقة إلى ظفرهم على أخطر أعدائهم وتحديداً الجحافيين الذين حسب رواية المؤرخ الأرمني: “تمّت إزالتهم واختفوا نهائياً عن الساحة السياسية”.

من الصعوبة بمكان تحديد مقر الجحافيين الرئيسي لكن بعض الباحثين يؤكدون أنه كان في منازكرت.

يُعَدُّ الجحافيون مغامرين بدو حقيقيين ظهروا في كل مقاطعة أو مدينة حيث الظروف كانت مواتية لاغتصاب السلطة كما جرى في تارون وأرشارونيك ودبيل. ومن الشيق أن نذكر أنه بحوزتنا درهمان فضيان يحملان اسم عبد الملك ضُرِبا سنة 196هـ=811-812م و197هـ= 812-813م من المحتمل في منازكرت ذاتها. ذُكر عليهما أيضاً أنهما صُنعا من معدن مناجم باجونايس Bahunis.

هناك دراهم أخرى ضُرِبت من معدن هذه المناجم في العقود الثلاثة الأولى للقرن 9 م. ومن الصعوبة بمكان التأكيد على نشوء جالية عربية في ذلك الوقت في منازكرت لأن وجود منجم حكومي دليل غير كافٍ وخاصة أن توماس أردزروني، الذي يروي في كتابه أحداث تلك الفترة بالذات، يذكر اسم سمبات كأمير لأباهونيك.

تُعدُّ محاولة الجحّافيين احتلال مدينة دبيل ظاهرة لافتة للنظر وخاصة أنها لم تكن المركز الوحيد لحاكم أرمينيا في الربع الآخير من القرن 8 م لأن مدينة بردعة أضحت المقر الرئيسي بعدئذ. وهناك نظريتان مختلفتان حول هذا الانتقال تحتاجان لمزيد من التدقيق المتأني. ويعتقد م. جاميجيان وم.غازاريان أن دبيل بقيت عاصمة أرمينيا حتى فترة نشوء مملكة البقْراتونيين.

بنى هذان المؤرخان الأرمنيان نظريتهما على حقيقة أن مؤرخين أرمن معاصرين يشيرون إلى دبيل بتعبير “العاصمة”. لكن نظرية مضادة نشأت في التأريخ السوفياتي في العقدين الأخيرين.

بناء على هذه النظرية توقفت دبيل نهائياً عن دورها كعاصمة لأرمينيا بعد ثورة 774-775م وتحولت إلى مدينة ثانوية محلية ومقر للحكام الصغار فانتقل مركز الثقل إلى بردعة Partaw. وتحمل هذه النظرية بعض الحقيقة في طياتها لأن دبيل لم تفقد مكانتها كعاصمة كاملةً بعد الثورة، بل أضحت إحدى العواصم إلى جانب مدن أخرى.

كانت مدينة بردعة قد حظيت على بعض الأهمية كقاعدة عسكرية حتى في حقبة الأمويين في حروبهم ضد الخزر وسُمحَ لها بعدئذ بضرب نقود عربية خاصة بها منذ بداية الحكم العباسي.

وصلت أهمية بردعة إلى درجة أنها أضحت أحد أهم مركزين تجاريين في أرمينيا في القرن 9 م . لقد جاء أول ذكر تحول بردعة إلى عاصمة لدى المؤرخ الأرمني غيفوند الذي أكد على أن المدينة كانت مقر الحاكم سليمان سنة 788-790م. هناك إشارة مماثلة جاءت في كتاب “تاريخ أغبانيا” أن الأرمن كانوا يسافرون إلى العاصمة بردعة لإنجاز بعض المعاملات الحكومية.

رغم جميع هذه الحقائق تشير أبحاث المؤرخين الأرمن والعرب أن دبيل لم تفقد مكانتها كمقر من مقرات الحكام العرب في أرمينيا لأنها كانت تضرب النقود العربية الرسمية. ودليلنا على ذلك بعض النماذج الفضية والنحاسية التي وصلتنا حتى من منتصف القرن 10م.

خلا ذلك ذكر الجغرافيون من القرن 10م، وخاصة ابن حوقل، حول وجود قصر الحاكم في دبيل في هذه الفترة وكان يتساوى مع مكانة قصر الحاكم في بردعة في مقاطعة أغبانيا أو قصر أردبيل في آذربيحان.

من الحيوي أن نذكر هنا أنه، عندما أصبحت مدينة بردعة المركز الإداري الرئيسي، وجدت مدينة دبيل نفسها مهملة بعض الشيء ويتهددها المغامرون لاستيطانها. جرت مثل هذه المحاولات من قبل الجحاّف وابنه عبد الملك. وكان احتلال المدينة المحاولة الخطيرة الأولى لضم عاصمة أرمينيا القديمة إلى ممتلكاتهم الإقطاعية لكنها فشلت في نهاية المطاف. وكما رأينا أيضاً فشل مغامر آخر هو أبو مسلم الشعري في امتلاك المدينة رغم احتلالها والاحتفاظ بها مدة 4 أشهر فقط قبل محاولة الجحافيين الاستيلاء عليها.

لم يجلب إنكسار الجحافيين الأول السلام إلى البلاد لأن شرارة ثورة بابك هزّت الخلافة بشكل عميق وتطايرت بسرعة إلى آذربيجان المجاورة وأبقى زعيم هذه الحركة جيوش الخلافة العربية في استنفار دائم.

هذه الثورة، التي اشتعلت في المناطق المتاخمة، كانت لها آثارها المباشرة وغير المباشرة على الحياة السياسية لأرمينيا لأن بابك كان الحليف العسكري للأمراء الأرمن في مقاطعتي سيونيك وأرتساخ ( قره باغ-المترجم) وتحول الآن إلى عدو لهم. وكانت الآثار غير المباشرة كبيرة جداً إلى درجة تحوّل جميع مناطق أرمينيا الكبرى إلى ساحة للحركات السياسية.

ظهر جحّافي آخر في هذه الفترة يسميه اليعقوبي سوادة بن عبد الحميد الجحافي. نلاحظ هنا أن الاسم تحول إلى نَسَب بينما لا يزال عمه يُكَنَّى باسم القبيلة أي عبد الملك بن الجحاف السُلّمي.

كان التحالف بين البقْراتونيين الأرمن وسوّادة ثورة ضد الخلافة العربية نتيجة الفوضى التي ظهرت في البلاد بسبب حركة بابك. تعزّزت مواقع الأمراء الأرمن إلى درجة أنهم كانوا يدفعون الضرائب متى يشاؤون. وصِف البلاذري، المعاصر لتلك الأحداث، الحال بوضوح قائلاً: “استمر الأمراء الأرمن في السيطرة على أراضيهم. وكما كانت العادة حاول كل منهم حماية منطقته. وعند وصول مندوب حكومي رسمي كانوا يلاطفونه ويتملقونه ويقدمون له الخراج ويعربون عن خضوعهم للخلافة إذا وجدوا فيه الطهارة والشدة والقوة والعدة بينما كانوا ينظرون إليه بازدراء إنْ كان ضعيف الشخصية”.

كان الجحاف أول جحافي صاهر عائلة ماميكونيان واقترن سوادة بدوره من أروسياك بقْراتوني. وكما نعلم إصطدم سوادة بالأمير الأرمني  Ashot Msaker وشقيقه شابوه في الفترة الأولى من حياته العملية الذي لم يتحمّل رؤية عدو جديد يرفع رأسه بعد الهزيمة المنكرة للجحاف وابنه.

مع ذلك، وبعد وفاة آشوت، أصبح ابنه سمبات قائد الجيوش وتبنى سياسة جديدة منسجمة مع الأحوال السياسية المستجدة. ومنذ الربع الأول من القرن 9 م كان باستطاعة آشوت دحر الجحاف بإتباع سياسة حذرة تجاه الخلافة العربية إلى درجة استغلال قواتها المسلحة.  وكانت الخلافة منشغلة مع حركة بابك في هذه الفترة لذلك لم تكن في موقف يمكّنها من اتخاذ خطوات حاسمة لتهدئة أرمينيا. وكان أمراء سيونيك الأرمن منجرفين بالمثاليات الثورية في فترة معينة إلا أن الأردزرونيين الأرمن ظلوا على الحياد كما يظهر.

من الشيق أن نذكر أن المؤرخ الأرمني هوفهانّيس دراسخاناكيردتسي لا يشير إلى كيفية وصول هذا العربي إلى السلطة عند ذكره لسوادة، بل يؤكد فقط أنه شخصية مرموقة تبوأ مركزاً مهيمناً في أرمينيا. واستناداً إلى هذا المؤرخ: “وصل هذا الحاكم  إلى أرمينيا بجيش صغير واستولى على دبيل فأصبحت مركز ولايته. إلا أن سوادة خرج لملاقاته. وسوادة هذا، الذي احتل معظم مقاطعات بلادنا بقوة السلاح، حكمها كأنها من أملاكه”.

لانملك أدلة كافية حول المناطق التي كان يحكمها سوادة. وإذا أخذنا بصحة قول المؤرخ فاردان أن سمبات بقْراتوني استلم منه الحكم كقائد للجيوش، فيجب أن نستنتج أن سوادة كان حاكماً عينته الخلافة. وكان هذا الحاكم في بداية مهمته يقود 4,000 عنصراً وأفلح حتى في دحر آشوت مساكير وشقيقه شابوه. ومن المحتمل جداً أن ازدياد عدد جنوده لاحقاً أدى إلى تشجيعه في مغامراته.

من المهم أن نذكر هنا أيضاً أن الشيبانيين لم يغّيروا سياستهم المعتادة في الإخلاص المطلق للخلافة طوال فترة هذه الاضطرابات. لذلك ليس من المستغرب أن يضع الخلفاء ثقتهم الكبيرة فيهم. وكان نظام الحكم العربي في أرمينيا تعاقبياً أي كان الحكام العرب يعيَّنون من مختلف العائلات كي لا تتوطد أواصر النسب بين الحاكم الجديد وسلفه. ومع ذلك كانت هناك بعض الاستثناءات بالنسبة لهذه القاعدة كالشيبانيين الذين حكموا أرمينيا وراثياً حتى نهاية حكم العباسيين . عين الخلفاء 13 شيبانياً خلال قرن واحد فقط ومنهم مَن استلم هذا المنصب مراراً. أصبح الشيباني خالد بن يزيد بن مَزْيَد، المعروف باسم Hawl في المصادر الأرمنية، ممثل الخلافة في فترة الأحداث المعقّدة في النصف الأول من القرن9 م. جرت في عهده “معركة كاواكرت” حيث وقفت قواته وجهاً لوجه أمام الثوار. ومصدرنا حول هذه الحادثة مستخلص من المؤرخ الأرمني دراسخاناكيردتسي الذي يؤكد على أنه بعد وصول الحاكم إلى أرمينيا مباشرة: “أظهر سوادة ازدراءً وعجرفة تجاه الحاكم الجديد Hawl فخرج لملاقاته على رأس جيش كبير”.

وكان هذا الجيش مؤلفاً من الجنود العرب وقوات الأمراء الأرمن بقيادة الأمير سمبات يساعده الأمير ساهاك من سيونيك. وكانت أحوال الخلافة مضطربة إلى درجة أن الحاكم أرسل الكاثوليكوس الأرمني دافيد سفيراً له لثني الثوار عن حماقة اندفاعهم.

لم يتراجع  الثوار عن نيّتهم فأرسل الحاكم العربي 2,000 رجلاً إلى شمال مدينة دبيل على ضفة نهر هرازدان شرقي المقاطعة التي تسمى كاواكرد حيث التقى الجيشان. وكانت عاقبة المعركة كارثية للثوار وتحول انكسارهم إلى هزيمة نكراء. قُتل في المعركة ساهاك سيوني بينما هرب سوادة وسمبات من ساحة المعركة والتجأ الأخير إلى ممتلكاته واتجه سوادة بدوره إلى سيونيك حيث انخرط في أعمال الغزو والنهب. واستناداً إلى كتاب “تاريخ أغبانيا” إستوطن سوادة في قرية شاغات في مقاطعة كغوك ومن هناك أزعج الأمراء السيونيين الأرمن بسبب غزواته المتكررة. وفي النهاية تحالف أحد هؤلاء الأمراء الأرمن المدعو Vasak مع بابك وطردا سوادة من المنطقة.

يذكر المؤرخ الأرمني أن تلك الأحداث جرت سنة 270هـ=821–822م التي لا تبدو معقولة حسب رأينا. يروي اليعقوبي بدوره هذه الأحداث بشكل مختلف. واستناداً إلى أقواله عين الخليفة المأمون عيسى بن محمد حاكماً على أرمينيا وآذربيجان. ورغبة منه في تهدئة الأحوال منح عيسى منصب حاكم أرمينيا للثائر سوادة الذي مع ذلك رفض ذلك ومضى في شنّ غزواته.

لا يمكننا إدراك كنه رفض سوادة لمثل هذا الاقتراح. ويبدو أنه كانت له شكوكه الخاصة حول المسألة برمتها. وبسبب رفضه لهذا المنصب هاجمه عيسى ودحره.

هناك اختلاف كلي في سرد فحوى هذه الأحداث عند المؤرخين اليعقوبي ودراسخاناكيردتسي لأن الحاكم العربي، الذي جاء ذكره لدى هذا المؤرخ الأرمني، كان Hawl، أي خالد بن يزيد، بينما يؤكد اليعقوبي على أنه كان عيسى بن محمد. وأعتقد شخصياً أن هذا التعارض يجب القبول به على أنه مجرد سوء فهم لأن المؤرخ الأرمني روى هذه الأحداث بدقة أكبر على الأرجح وخاصة أن اليعقوبي ذكر بعد ذلك أن خالد بن يزيد، الذي ذهب إلى أرمينيا، منح مدينة خلاط إلى سوادة الذي جاء لملاقاته. ومن المحتمل أن سوادة ثار في مناسبتين: الأولى في فترة حكم عيسى 820-823م ثم في حقبة خالد 829-832م. حصل سوادة على الأمان في المرة الأولى بينما دُحِر قرب كاواكرد في المرة الثانية. ومع ذلك لا تضفي هذه النظرية ضوءاً ساطعاً على المسألة برمتها. إنسحب سوادة بعد هذه الأحداث ولجأ إلى نسيبه في المقاطعات الشمالية ـ الغربية من بحيرة Van حيث بقي حتى وفاته. ويؤكد الطبري على أنه كان لا يزال حياً في فترة حكم يوسف 851-852م.

رغم مساهمة حركة بابك في آذربيجان في نشوب ثورة سوادة في أرمينيا، لم تكن هناك مع ذلك أية علاقة بين الرجلين بل على النقيض من ذلك كان بابك مستعداً لمحاربة سوادة أثناء دعوة أمير سيونيك الأرمني له كما ذكرنا سابقاً. ومن المهم أن نذكر أيضاً أن سوادة تحرك كأسلافه باتجاه دبيل لأنه كان يعتقد أنه، بعد احتلال هذه المدينة فقط، يمكنه إخضاع أرمينيا كاملة إلى سلطته. لذلك لا نعتبر وصوله إلى كاواكرت صدفة للانطلاق منها بسهولة باتجاه دبيل.

لم يكن سوادة وحده السبب في تفجير الثورة في عشرينات القرن 9 م لأن اليعقوبي يعلمنا أن الحاكم خالد، بعد استقباله لسوادة في خلاط، تحرك نحو نخجوان حيث ثار يزيد بن حسن. وعند اقتراب خالد من حدود هذه المقاطعة هرب الثائر شمالاً.

يروي المؤرخ فاردان أيضاً أن “رجلاً من آل الجحاف” يدعى أبو الحارث Abul Herth ظهر في سيونيك في هذه الفترة بجيش قوامه 4,000 رجلاً إلا أن الأمير الأرمني بابكين سيوني دحره وأكرهه على الفرار.

*ينفرد موقع “أزتاك العربي للشؤون الأرمنية” بنشر كتاب “الإمارات العربية في أرمينيا البقرادونية” للمؤلف المستشرق الدكتور البروفيسور آرام تير-غيفونديان، (الطبعة الثانية المنقحة)، ترجمه عن الإنكليزية: الدكتور ألكسندر كشيشيان، عضو اتحاد الكتاب العرب، رئيس تحرير “كتاب العاديات السنوي للآثار”، صدر الكتاب عن مؤسسة المهندس فاروجان سلاطيان، حلب 2013، وسيتم نشر فصول الكتاب تباعاً (5).

Share This