نتائج حملة بوغا في مناطق أرمينيا

arabic-emirates-in-pakradounian-armenia

اختفى الجحافيون عن المسرح السياسي لبعض الوقت بسبب هذه الأحداث وإنكساراتهم المستمرة في المعارك وسيادة البقراتونيين المنتصرين على المسرح السياسي ـ العسكري. ظهرت في ثلاثينات وأربعينات القرن 9 م أثناء تولي الخليفة المعتصم الحكم 833-842م والواثق من بعده 842-847م تحديداً أحوال مماثلة في أرمينيا كتلك التي سادت في الفترة الأولى للحكم العربي في القرن 7 م عندما خضعت البلاد رسمياً للخلافة العربية ودفعت لها الخراج السنوي. ورغم ذلك ظلت السلطة الفعلية بيد الأمراء الأرمن. وكانت 3 عائلات من الأمراء الأرمن تحكم البلاد وهي البقرادونية والأردزرونية والسيونية. حكم بقراد بقرادوني، الابن البكر لآشوت مساكير، مقاطعة تارون وكان بطريق بطارقة “أمير أمراء أرمينيا” في الوقت ذاته. وكان الابن الثاني قائداً للجيش وحاكم شيراك بينما حكم آشوت أردزروني مقاطعة باسفرجان.

استفادت أرمينيا كثيراً بسبب ثورة بابك. رغم تمكّن أفشين، قائد جيوش الخليفة المعتصم، تصفية بابك عام 837م إلا أن هذا الانتصار العسكري تمّ التوصل إليه عن طريق تضحيات كبيرة جداً. لذلك لم تكن الخلافة في وضعية متينة كي تباشر في حلّ نزاعات أخرى ولم يحاول المعتصم الضعيف ولا الواثق من بعده دعم مركز الخلافة في المقاطعات.

تبوأ المتوكل عرش الخلافة في منتصف القرن 9 م. لجأ الخليفة الجديد إلى أقسى الوسائل شدةً ووحشية لتمتين وحدة الخلافة. وكانت الحركات الثقافية والعلمية، التي ازدهرت بشكل متسارع على كامل مساحة الخلافة وعمّت إنجازات الفلسفة اليونانية ومآثرها عن طريق الترجمات، هدف اضطهاد هذا الخليفة الذي كان يرى فيها تهديداً للإسلام والخلافة. لذلك ظهرت في عهده اضطهادات المسيحيين واليهود بشكل خاص. وكانت هناك بعض المضايقات لهذه الفئات أيضاً في الفترة الأموية خلا فترة الخليفة الأموي عمر 715-717م. إلا أننا يجب أن نؤكد هنا أيضاً أن الخلافة العربية لم تتبنّ مع ذلك سياسة اضطهادات عامة مدروسة. أرسل الخليفة بعد ذلك حاكماً جديداً إلى أرمينيا يدعى أبو سعيد (Abuset عند المؤرخين الأرمن) لجمع الجزية.

بالمقابل أرسل أمير الأمراء بقراد بقرادوني رسولاً لمقابلة الحاكم الجديد محملاً بهدايا قيمة. وكان أمير الأمراء قد أمر رسوله بتقديم الخراج لأبو سعيد وعدم السماح لجباته بالتنقل من مقاطعة إلى أخرى. وكان لجوء الأمير الأرمني إلى هذه الطريقة يهدف على ما يبدو إلى حماية الاستقلال الداخلي للبلاد والاعتراض السافر على التدخل في شؤونها الداخلية. لذلك شعر أبو سعيد بخطورة الموقف وقرر عدم الزحف على دبيل وبردعة والانسحاب من أرمينيا بعد أن حمل معه رسائل شكوى من عرب أرمينيا ضد الأمراء الأرمن.

أوكل أبو سعيد مهمة إخماد الثورة في المقاطعتين الثائرتين تارون وباسفرجان إلى رجلين من أتباعه هما موسى بن زرارة، أمير أرزن، والأعلى بن أحمد الأزدي قبل تقهقره من أرمينيا.

لا نعلم متى استوطنت عائلة الزُراريين في أغجنيك أو حول طبيعة علاقاتها مع الحكام الشيبانيين في هذه المنطقة. فمن المحتمل أنها، كالشيبانيين، كانت من قبيلة بكر. إلا أن موسى بن زرارة، الذي كان متزوجاً من شقيقة الأمير الأرمني بقْرات بقْراتوني، هو الشخصية الأولى المعروفة لدينا. يقدم المؤرخ توماس أردزروني بعض المعلومات حول عودة أبو سعيد قائلاً: “ذهب القائد الكبير أبو سعيد Abuset إلى البلاط وأسند مهمة جمع الخراج الملكي إلى شخص يدعى موسى بن زوراهاي الذي بعد فترة حكم مدينة أرزن من أعمال مقاطعة أغجنيك قرب حدود تارون”.

مع ذلك لم نعثر على معلومات كافية لدى المؤرخين حول هوية موسى بن زرارة.

كان موسى سياسياً ناجحاً لذلك عُين خلفاً لحاكم أرمينيا. جاء على لسان توماس أردزروني حول ذلك: “كان موسى المراقب العام في أرمينيا وعمل على تأمين جمع الجزية”.

عندما نتذكر أن بقْرات بقْراتوني كان قد أرسل الجزية لأبو سعيد فإن المسألة تتجلى أكثر فأكثر لأن هذا الأخير أوكل موسى في مهمة محاربة الأمراء الأرمن وخاصة بقْرات بذريعة زيادة مبلغ الجزية. لذلك من الطبيعي أن تسوء العلاقات بينهما وخاصة أن موسى دخل إلى باسفرجان عبر آذربيجان. ويُعرف موسى لدى المؤرخين العرب باسم العلاء بن أحمد الأزدي الصوافي.

أثارت نشاطات العلاء بن محمد في باسفرجان الأمير آشوت أردزروني الذي، بعد تأكده من عدم جدوى محادثات السلام، هاجم قوات علاء ودمرها فالتجأ هذا الأخير مع بعض رجاله إلى مقاطعة بيركري لدى قبيلة Uthmanids العربية.

سجّل توماس أردزروني تفصيلات هذا الانتصار العسكري مؤكداً أيضاً على أنه كان بداية ثورة عامة. وعندما علم آشوت بحرج موقف بقْرات هرع إلى تارون حيث تمركز رجال موسى في سهل موش. دحرت جيوش آشو وبقْرات قوات موسى الذي هرب إلى باغيش. وبسبب مناشدة شقيقة بقْرات (أي زوجة موسى) توقفا عن مطاردته. وأمر هذان الأميران الأرمنيان بعد ذلك بقتل العرب المتواطئين مع موسى.

وصل أبو سعيد إلى أرمينيا على رأس جيش جديد في هذه الفترة بالذات لكنه توفي على الدرب. لذلك عينت قيادة الجيش العربي ابنه يوسف قائداً. اتجه يوسف إلى باسفرجان أولاً عبر بحيرة Urmia لملاقاة آشوت أردزروني الذي كان أحد القياديين الرئيسيين في الثورة.

أفلح آشوت في استمالة يوسف للكفّ عن الهجوم بإرسال الهدايا له عن طريق والدته الأرمنية السيدة Hripsimé. مشى يوسف بعد ذلك إلى تارون وقبض على بقْراد غدراً وأرسله إلى سامراء مما أدى إلى هجوم السكان عليه وقتله.

أثار قتل يوسف الخليفة المتوكل إلى أقصى حد بعد انكسارات موسى بن زرارة والأعلى الأزدي فأرسل القائد بوغا إلى أرمينيا بعد استعدادات كبيرة. جذبت الثورة الأرمنية اهتمام المؤرخين العرب الخاص. هناك مصادر عديدة تشير إلى هذه الأحداث. وبناء على شهادات المؤرخين العرب والأرمن أوصلت حملة بوغا البلاد إلى حال وهن شديد بعد القضاء على الثورة. وعلينا التأكيد هنا خاصة على أن الأمراء الأرمن كانوا قد حصلوا على قسط معين من الاستقلال الذاتي بعد هزيمة الجحافيين وانتصارات البقراتونيين. إلا أن حملة بوغا مكّنت العرب من استرداد هيمنتهم على البلاد من جديد.  ويصف توماس أردزروني، الذي عاصر هذه الأحداث التاريخية، حملة بوغا قائلاً: “دلّ المسلمون، القاطنون في مناطق أرمينيا المختلفة، بوغا على الدروب السرية المؤدية إلى قلب المقاطعات الأرمنية”.

ربما يشير هذا المؤرخ الأرمني إلى الجحافيين الذين كان قد ضعُف شأنهم كثيراً في هذا الوقت. ويؤكد الطبري أنه قبل وصول بوغا نصح سوادة بن عبد الحميد الجحافي، الذي كان لا يزال حياً يرزق، يوسف بالانسحاب من أرمينيا لأنه كان على علم بمخططات الأمراء الأرمن ضده.

نشطت القوات العربية في هذه الفترة فاجتاحت أرمينيا مع الكتائب المتمركزة في البلاد. وكان الهدف من تحركاتها، كما جاء لدى أردزروني، تشجيع الخليفة لقائد الجيش يوسف مؤكداً: “سأمنحك هذه البلاد لتكون وراثية في سلالتك”.

وهنا بدأت تظهر بكل جلاء سياسة العباسيين الجديدة للهيمنة التامة على أرمينيا لأن سلطة الحاكم العربي في أرمينيا لم تكن وراثية في حقبة الأمويين.

لم يشذّ العباسيون عن هذه القاعدة في بادئ الأمر لكنهم لجؤوا إلى بعض الاستثناءات تجاه بعض الأمراء الشيبانيين والسُلّميين.

غادر بوغا أرمينيا سنة 855م بعد أسر الأمراء الأرمن القياديين فأصبح الظرف مواتياً أمام المستوطنين العرب لاستغلال الوضع المستجد على أكمل وجه وخاصة أن هؤلاء كانوا قد ساعدوا بوغا بجميع الإمكانات المتاحة فوسعوا بالتالي رقعة أراضيهم بشكل تدريجي.

وكانت قبيلة Uthmanids العربية قد استوطنت قرب الزاوية الشمالية ـ الشرقية من بحيرة Van من المحتمل في فترة الهجرات الجماعية الكبيرة التي جرت في حقبة هارون الرشيد. استولت هذه القبيلة على مدينة Perkri التي كانت من أملاك الأمراء الكنونيين الأرمن. منحهم إنكسار أمير باسفرجان فرصة مناسبة لتوسيع مساحة أملاكهم حتى قلعة Amiwk الواقعة شمالي البحيرة ووصلوا حتى Varag.

من النتائج الهامة لحملة بوغا أيضاً تعزيز الأمراء العرب لهيمنتهم على أرمينيا مما أدى إلى توسيع Uthmanids والشيبانيين والسلّميين مساحات أملاكهم. اعتقل بوغا موسى بن زرارة، صاحب أرزن، لأنه كان قد انضم إلى الأرمن بسبب عدائه ليوسف.

وبذلك انتقل قسم من أملاك موسى إلى الشيبانيين الذين كانوا قد وسّعوا أملاكهم كثيراً ووصلوا حتى شواطئ البحيرة قرب تطوان. واللافت للنظر أيضاً في هذه الفترة هو هيمنة السلميين على أباهونيك. واستناداً إلى أقوال توماس أردزروني انضم بعض المهاجرين العرب إلى حملة بوغا ويصف الوضع في منطقة باسفرجان قائلاً: “بدأ هؤلاء العرب بالانتشار في البلاد بغطرسة كبيرة بعد وصولهم مع عائلاتهم وشرعوا في تقسيم الأراضي فيما بينهم عن طريق القرعة ورسموا الخطوط الحدودية وسكنوا في القلاع بدون وجل”.

لا يشير هذا المؤرخ الأرمني إلى هجرة جديدة، بل إلى توسّع أملاك القبائل المستوطنة سابقاً كقبيلة سُلَيم التي استغلت الأوضاع المضطربة فبسطت هيمنتها على منازكرت.

ظهر مغامر جحافي آخر هو جحاف بن سوادة في وسط هذه الظروف المواتية. ولا نعلم متى توفي سوادة أو أين كان وماذا كان يفعل هذا الجحافي الشاب حتى هذا اتاريخ. ظهر على كل حال في فترة كانت البلاد مقحمة في خضم فوضى سياسية وكان يبدو أنه سيفلح في الوصول إلى الأهداف التي فشل أسلافه في تحقيقها فاصطدم بدوره مع البقراتونيين وكانت العاقبة اختفاء الجحافيين عن المسرح السياسي إلى الأبد. جاء هذا الجحافي الشاب في حقبة كان آشوت ابن وخليفة القائد سمبات، الذي أُسِر من قبل بوغا، يعيد إحياء مركز البقراتونيين المهزوز في الحياة السياسية الأرمنية تدريجياً بمساعدة شقيقه موسى. يؤكد على ذلك المؤرخ الأرمني أصوغيك قائلاً : “وصل جحاف بن سوادة إلى أرمينيا في عام 312هـ=863م”.

أي بعد أن قُلّد منصب أمير أمراء أرمينيا. أيجب أن نستنتج من أقوال هذا المؤرخ الأرمني أن جحافاً وصل إلى أرمينيا من خارج حدودها؟ ومن المحتمل جداً أنه بعد هزيمة الجحافيين التجأ الباقون إلى مناطق مجاورة كآذربيجان وأغجنيك. وصل الجحاف على رأس جيش كبير وأكره الأمير- القائد الأرمني عباس للهجوم على حشود الجحاف بجيش قوامه 40,000 من المقاتلين. تقدم الجحاف كثيراً في بادئ الأمر حتى وصل إلى مقاطعة أرشارونيك حيث التحم الجيشان وقضى الأمير عباس على جيش الجحااف إلى درجة فراره من ساحة المعركة برفقة 26 من أعوانه فقط. أشار الطبري إلى هذه المعركة قائلاً: “بقي لدى الجحاف 26 رجلاً فهرب يلفه الخزي والعار”. ويذكر الطبري أيضاً أن جحافاً بن سوادة كان في هذه الفترة من عام 865م قائد الجيوش العربية في مدينة Melitene.

وهكذا اختفى الجحافيون عن المسرح السياسي- العسكري إلى الأبد بسبب فشلهم في إقامة إمارة دائمة لهم بعد جهود طالت مدة نصف قرن. ومع ذلك كانت لهم الأسبقية في تمهيد الدرب أمام بناء إمارات عربية جديدة وخاصة لأنسبائهم القيسيين.

*ينفرد موقع “أزتاك العربي للشؤون الأرمنية” بنشر كتاب “الإمارات العربية في أرمينيا البقرادونية” للمؤلف المستشرق الدكتور البروفيسور آرام تير-غيفونديان، (الطبعة الثانية المنقحة)، ترجمه عن الإنكليزية: الدكتور ألكسندر كشيشيان، عضو اتحاد الكتاب العرب، رئيس تحرير “كتاب العاديات السنوي للآثار”، صدر الكتاب عن مؤسسة المهندس فاروجان سلاطيان، حلب 2013، وسيتم نشر فصول الكتاب تباعاً (6).

Share This