طفل أرمني في القفر

children

وبعد أن قطعنا مسافة غير قليلة من الطريق رأينا طفلاً لا يتجاوز الرابعة من عمره أبيض اللون بعينين زرقاوين وشعر ذهبي تلوح عليه آثار الترف والدلال واقفاً بالشمس لا يتحرك ولا يتكلم فأمر الضابط الحوذي أن يوقف العجلة ونزل وحده وسأله فلم يجبه على سؤاله ولم ينبس ببنت شفة فقال، لو أخذنا هذا الطفل معنا لديار بكر لأخذته منا الحكومة وكان نصيبه كنصيب أبناء جنسه القتل فالأوفق أن نتركه لعل الله أن يحنن عليه أحد الأكراد فيأخذه ويربيه. فلم يقدر أحد منا أن يكلمه بشيء وركب العجلة وسرنا وتركنا هذا الطفل كما رأيناه لا يتكلم ولا يبكي ولا يتحرك ابداً. ومن يعلم ابن أي مثر أو ابن أي من أعيان الأرمن وأشرافها كان لا يرى الشمس أصبح يتيماً بعد قتل أبويه وأقاربه وملّ الذين كانوا متكلفين بحمله وضجروا منه اذ أن كل امرأة كانت عاجزة عن حمل نفسها تتركه في أرض الله في قفر بعيد عن المدن والقرى.

فيا سبحان الله إن الإنسان الذي يشفق على الحيوان فيؤلف جمعيات الرفق بالحيوان أصبح لا يشفق على ابناء جنسه وخصوصاً على الأطفال الذين لا يقدرون يبثون شكواهم وهم على الكلام بقادرين، فيتركهم تحت حرارة الشمس ظمأى هلكى من الجوع معرضة حياتهم للوحوش.

وبعد أن تركنا ذلك الطفل وقلوبنا على جمر الغضب وقد أخذ الكدر والحزن منا كل مأخذ. وصلنا قبيل المغرب لخان يبعد عن ديار بكر بضع ساعات فبتنا فيه و في الصباح سرنا بين أشلاء القتلى فما كنا نرى إلا رجلاً ملقى على الأرض مضروباً برصاصة تحت ثديه أو امرأة خرق الرصاص سرتها وخرج من ظهرها، وطفلاً نائماً نومته الأبدية بجانب أمه وشابة في ريعان عمرها واضعة يدها بين فخذيها خجلاً وهكذا كان طريقنا إلى أن جئنا لقناة ماء يقال لها »قره يوكار« بقرب من ديار بكر. وهناك وجدنا أن أنواع القتل والوحشية تبدلت.

رأينا أجساداًأ

 أحرقت حتى غدت رماداً فسبحان علاّم الغيوب كم من عروس لم تهنأ بعرسها وكم من شاب في زهرة شبابه وكم من شابة في ربيع شبابها اختارت لها رفيقا يرافقها بحياتها تشاطره الأسى ويشاطرها احرقوا في ذلك المحل المشؤوم.

وكنا ظننا أنا لا نرى من أجساد القتلى قرب جدران المدينة فخاب ظننا اذ أننا بقينا نسير بين الأجساد إلى أن دخلنا باب سور مدينة ديار بكر السوداء و قد دفنت جميع جثث الأرمن التي بجوانب الطرق بأمر من الحكومة بعد أن كتبت جرائد أوروبا عن هذه الجثث الملقاة في الطرق حسبما علمته من بعض الأوروبيين الذين عادوا من أرمينيا بعد المذابح.

وعند وصولنا لديار بكر سلمنا الضابط لحكومة ديار بكر والقينا في السجن. وبقيت في سجن ديار بكر اثنين وعشرين يوماً وقفت اثناءها على الحركة بتمامها، اذ قص علي أحد المسجونين هناك وهو مسلم من أهالي ديار بكر قصة ما جرى للأرمن في ديار بكر فسألته ما سبب وقعة الأرمن؟

ترى لماذا فعلت الحكومة بهم هكذا؟ فهل فعل الأرمن أمراً أوجب تلفهم جميعاً؟ فقال أما فعله الأرمن فإنهم و خصوصاً الشبان منهم، منذ إعلان الحرب بدأوا يعبأون بأوامر الحكومة، وأكثرهم فرّ من الجندية وشكلوا توابير (توابير السطوح). وبدأت هذه التوابير تأخذ دراهم من أغنياء الأرمن ليشتروا بها سلاحاً وكانوا لا يسلمون حالهم للحكومة لترسلهم لتوابيرهم حتى أن وجهاء الأرمن وزعماءهم اجتمعوا وذهبوا إلى دائرة الحكومة وطلبوا منها أن تؤدبهم لأنهم ليسوا راضين بالأعمال التي يفعلونها.

فقلت له هل قتل الأرمن أحداً من مأموري الحكومة أو من الأكراد أو من الأتراك في ديار بكر؟ فأجاب كلا لم يقتلوا أحد بل أنه بعد مجيء الوالي رشيد بك وقائد الدرك رشدي بك ببضعة أيام وجاء عند بعض الأرمن أسلحة ممنوعة ووجد بالكنيسة أيضاً من هذه الأسلحة، جلب بعض زعماء الأرمن وزجهم في السجن فجاء الرؤساء الروحيون وراجعوا الحكومة وطلبوا اخلاء سبيل الزعماء فلم تجبهم الحكومة لطلبهم بل أنها أرسلت الرؤساء الروحيين إلى السجن أيضاً فبلغ عدد الوجهاء الذين ادخلوا السجن نحو السبعمائة وجيه. وفي أحد الأيام جاء قائد الدرك وبلغهم أنه صدرت الإرادة السامية بنفيهم إلى الموصل ليقيموا فيها إلى أن تضع الحرب أوزارها. فصفقوا بأيديهم استحسانا وكل منهم أخذ ما يلزمه من الدراهم والثياب والفرش وذهبوا ليركبوا الكلك (أخشاب توضع على قرب منفوخة يستعملها سكان تلك البلاد ويسافرون على ظهرها في نهر الفرات والدجلة). ولم يصل منهم أحد إلى الموصل ثم استمرت الحكومة على إرسال الأرمن واتلافهم كل عائلة بعائلتها رجالاً ونساء واطفالاً وأول من أرسل من ديار بكر عائلة قزازيان وطرينجيان وميناسيان وكشيشيان وهذه العائلات هي أغنى عائلات الأرمن في ديار بكر وقد أرسل مع السبعمائة شخص أحد المطارنة وهو »ماندرياس« على ما أتذكر، وهو مطران الأرمن الكاثوليك، وكان شيخاً جليلاً عالماً عمره نحو الثمانين سنة فلم يحترموا لحيته البيضاء فاغرقوه في الدّجلة.

وكان وكيل مطران الأرمن في ديار بكر »مغرديج« مسجوناً مع السبعمائة شخص، فلما رأى ما حلّ بقومه لم يتحمل الذل وعار السجن فكبّ على جسده نفطاً وأحرق نفسه. وقد حدثني أحد المسلمين وكان مسجوناً لأنه كتب لهذا المطران مكتوباً قبل الوقعة بثلاث سنوات أن »مغرديج« كان عالماً شجاعاً جريئاً مقداماً لا يهاب الموت ولا يقبل الضيم والذل، يحب أمته محبة عجيبة.

وقد هجم بعض الأكراد المسجونين على الأرمن وقتلوا منهم شخصين أو ثلاثة في وسط السجن وذلك طمعاً بأموالهم وثيابهم، ولم تجر العدالة بحقهم معاملة ما. ولم تبق الحكومة الأرمن في ديار بكر إلا مقداراً قليلاً جداً وهؤلاء هم الذين يحسنون صنع الأحذية وغيرها للجيش، وقد بقي تسعة عشر شخصاً رأيتهم في الحبس وتحادثت واياهم مراراً عديدة وهؤلاء من فدائيي الأرمن على ما تزعم الحكومة.

وآخر من أرسل من عائلات ديار بكر عائلة دونيجيان. فقد ارسلت في شهر تشرين الثاني سنة 1915 تقريباً وكان يحميها بعض وجوه ديار بكر، أما طمعاً بمالها أو بجمال بعض نسائها.

*مقطتف من كتاب “المذابح في أرمينيا” للمؤلف فائز الغصين، (حلب، 1991) (6).

ورد في كتاب “شهود عيان عن الإبادة الأرمنية في الإمبراطورية العثمانية (مجموعة وثائق) بمناسبة ذكرى مرور مئة سنة على الإبادة الأرمنية (1915-2015)”، إعداد وإشراف ودراسة: البروفيسور الدكتور آرشاك بولاديان، دمشق-2014، حيث ينفرد موقع “أزتاك العربي للشؤون الأرمنية” بنشر مقتطفات منه.

Share This