العقدة الأرمنية تصيب إردوغان بالهوس السياسي

56e282f2c36188c1068b4580 

أخيرا، لم يجد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان متنفسا لسياساته أو ساحة لأفكاره الغريبة والمثيرة للتساؤلات إلا العاصمة الأوكرانية كييف.

إردوغان اتخذ قراره بزيارة أوكرانيا بعد ثلاثة أسابيع من زيارة قام بها رئيس وزرائه أحمد داود أوغلو والتقى فيها نظيره الأوكراني أرسيني ياتسينيوك وعددا من مسؤولي سلطات كييف. ومن الواضح أن داود أوغلو كان يقوم بالتحضير لزيارة إردوغان ليلتقي مع نظيره الأوكراني بيترو بوروشينكو ليربت كل منهما على كتف الآخر ويواسيه سياسيا وإنسانيا.

بوروشينكو يواصل البكاء والعويل بسبب “الاحتلال الروسي” لأراضي أوكرانيا. وفي الوقت نفسه يدعو بوروشينكو حلف الناتو والولايات المتحدة وكل الدول الممكنة للمجيء إلى أوكرانيا من أجل حمايتها، لأن حماية أوكرانيا هي حماية أوروبا. وكما يبتز إردوغان أوروبا بالمهاجرين غير الشرعيين، فإن بوروشينكو يبتز العالم كله بذلك “الاستعمار الروسي” الجبار الذي ينهب خيرات أوكرانيا وسيحتل أوروبا قريبا. ومع ذلك فكييف ترفض إلى الآن تسديد الديون المستحقة عليها إلى روسيا، وتحاول وضع كل العراقيل الممكنة ليس فقط أمام الغاز الروسي إلى أوروبا عبر أراضيها، بل وأيضا أمام وحدة أراضي أوكرانيا ووحدة شعبها.

قبل ذلك بثلاثة أسابيع فقط، أظهرت زيارة رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو إلى كييف العصبية والتوتر الشديدين اللذين أصابا الساسة الأتراك. فقد اتسمت هذه الزيارة بالعصبية والتوتر وعدم اللباقة السياسية أو الدبلوماسية. فداود أوغلو اتهم روسيا مباشرة بأنها تتصرف في سوريا كمنظمة إرهابية. بل وتوعدها برد قوي في حال إذا ما واصلت، حسب رأيه، التصرف كمنظمة إرهابية يرغم المدنيين على الفرار. وذهب إلى أن روسيا وتنظيم داعش في سوريا ارتكبا العديد من الجرائم ضد الإنسانية. وارتفع مستوى “الخيال” السياسي والعسكري لدى المسؤول التركي إلى أنه رأى أن النية الحقيقة لروسيا في سوريا هي “قتل أكبر عدد من المدنيين ودعم النظام السوري ومواصلة الحرب”. ولم ينس رئيس الوزراء الإسلامي المحافظ توجيه أصابع الاتهام إلى دور موسكو “الفظيع”، فاتهمها باستخدام أكراد سوريا.

لقد التقى الرئيسان التركي والأوكراني ليغني كل على ليلاه. فإردوغان قال إن “تركيا لم تعترف بانضمام شبه جزيرة القرم إلى روسيا، ولا تعتزم عمل ذلك في المستقبل.. وروسيا انتهكت القانون الدولي في هذه المسألة”. أما بوروشينكو فقد دعا إلى إشراك تركيا في صيغة المفاوضات الدولية حول مسألة القرم، بما في ذلك صيغة “جنيف +” التي تشمل أوكرانيا وروسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

لقد مارس الرئيسان التركي والأوكراني مع بعضهما البعض أعلى حالات الغزل السياسي. ولكن ما ثمن هذا الغزل؟ هل تستطيع أوكرانيا إعاقة روسيا في البحر الأسود؟ وهل تستطيع سلطات كييف أن تدعم سلطات أنقرة في مشروع ما ضد روسيا؟ وهل يمكن أن تدفع أنقرة كييف إلى ارتكاب مغامرات أو حماقات سياسية وعسكرية إضافية، سواء ضد الشعب الأوكراني أو ضد الجارة روسيا؟

سياسات أردوغان تتسم بقدر كبير من التوتر والتطرف اللذين يقاربان “الهوس السياسي”. فهو يحرق كل الجسور وكأنه يمسك بكل الأوراق السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية الرابحة. ويعطي انطباعا بأنه قادر على إدارة كل الملفات الداخلية والإقليمية والدولية. ويقوم بابتزاز أوروبا والولايات المتحدة، مستغلا خلافاتهما مع روسيا حول قضايا مبدئية، على رأسها أمن روسيا والأمن الأوروبي ومكافحة الإرهاب.

تحدثنا في مقالات سابقة حول إمكانية أن تغامر أنقرة الإردوغانية في شبه جزيرة القرم الروسية باستخدام فلول التتار التابعين لسلطات كييف والذين يصبون الزيت على النار لإشعال أزمات دينية وعرقية في شبه الجزيرة. وهم في الوقت نفسه لا يتلقون الدعم من سلطات كييف، بل من السفارة الأمريكية وبعض سفارات الاتحاد الأوروبي هناك. إن إردوغان هنا يحاول تعميق الخلافات بين موسكو وكييف، ويسعى لخلق طرف إضافي معاد لروسيا في حوض البحر الأسود. وهو أيضا لا يتورع عن استخدام أساليب سياسية صبيانية، أو في أحسن الأحوال كلاسيكية وعتيقة للغاية، من قبيل “عدو عدوي، صديقي”، وهو مبدأ صبياني في السياسة الكبرى ولا يلبي مصالح أي طرف.

من الواضح أيضا أن “العقدة الأرمينية” قد أصابت إردوغان في الصميم. فهو الوحيد من ضمن زعماء تركيا الحديثة الذي يتعامل مع المذابح الأرمينية بحساسية شديدة، ويحدد سياساته من هذه الدولة أو تلك على أساس موقفها من تلك الجريمة الإنسانية البشعة ضد شعب بالكامل. وبالتالي، فهو يعادي دول وسياسات وزعماء يرون غير ما يراه بشأن إبادة الأرمن على يد “الخلافة” العثمانية، هذا طبعا إلى جانب البلغار واليونانيين والسريان والإيزيديين. ويبدو أن التاريخ لا يمكنه أن ينسى تلك السنوات التي أجبرت فيها تلك “الخلافة” الآلاف من هؤلاء على تغيير دياناتهم وعقائدهم في سوريا والعراق وغيرهما.

إن إردوغان يظهر تعصبا شديدا للمشروع الديني على أمل استعادة أمجاد “الخلافة” القديمة التي كانت تسيطر على الشرق الأوسط باسم الدين والعرق. وهو الآن يلعب بكل الأوراق الممكنة لتنفيذ هذا المشروع الذي يرتبط بدرجات مختلفة مع التنظيمات المتطرفة والمنظمات الإرهابية في الشرق الأوسط وخارجه. وبالتالي، فالمساس بـ “أمجاد” تلك الخلافة في أرمينيا وبلغاريا واليونان والعديد من الدول العربية وأنهار الدماء التي أريقت، يغضب إردوغان ويقلل من شأن مشروعه وقيمته. هكذا تشكل “العقدة الأرمينية” أساس العديد من توجهات إردوغان وسياساته وعلاقاته أيضا. وهو ما يراه الكثيرون ليس فقط من الأتراك، بل من مختلف شعوب العالم، مخالفا للأعراف السياسية والإنسانية، وطموحات غير مبررة وتضر بمصالح تركيا نفسها.

أشرف الصباغ

روسيا اليوم

Share This