العثمانيون الجدد – الحصاد المر

12814397_972182789525211_8776240052212779174_n

جاك جوزيف أوسي

يبدو أن سقوط الحلم التركي في الشرق هو أسوأ ما حصده العثمانيون الجدد من نتائج عكسية لمغامرتهم السورية. وذلك لأسباب التالية: أولاً، سقوط حلم «المنطقة الآمنة» الذي هو، ككل أحلام «العثمانية الجديدة»، حلم استبدادي عدواني توسعي غير واقعي وغير منطقي. وثانياً، لأنه حلم تجاوز العصر والتاريخ والواقع السياسي المعاصر، ولن يحصد حزب «العدالة والتنمية» من إصراره على إحيائه إلّا الخيبة. أمّا ثالثا والأهم، فلأنه دفع أنقرة نحو الاستثمار في إرهاب العصابات «السلفية الجهادية»، التي لم تعد وحشيتها تقتصر على منطقة «الشرق الأوسط» وشمال إفريقيا، بل تخطتها إلى دول العالم بأسره، خصوصاً الدول «الغربية» التي استثمرت بقيادة أمريكية، ولاتزال، لمصلحة آنية، في هذه العصابات، لتجني فرنسا، مثلاً، ما جنته الولايات المتحدة، حين انقلبت عليها تنظيم «القاعدة» في تفجيرات 11 سبتمبر/أيلول 2001. لكن أنقرة، من فرط إيديولوجية حزبها الحاكم فيها، لم تتعلم من دروس «القاعدة» و«طالبان» مع الولايات المتحدة والباكستان. وأكثر، إذ بعيداً عن أحلام حزب «العدالة والتنمية» الإيديولوجية المنفصلة عن الواقع، فإن ثمة، في الرد الروسي القاسي، على حادث إسقاط قاذفتها، وفي اكتفاء واشنطن وحلف الناتو بالتضامن البروتوكولي مع تركيا، ما يحمل على الاعتقاد بأن رهان أنقرة على حماية حلف الناتو كان رهاناً في غير محله، بسبب الوضعية الدولية متحركة، وأنحراف القطبية الأمريكية الأحادية من مركز القرار الدولي إلى الأطراف، لأن العالم بدأ يسير نحو نظام ستكون سمته النهائية تعدد الأقطاب، وإن كانت واشنطن ستبقى الأقوى بينهم في المدى المنظور، لكنها، في الأحوال كافة، لم تعد شرطي العالم الذي يأمر فيطاع.

لكن السؤال: هل يتعظ العثمانيون الجدد في تركيا الدرس، ويكف عن سياسته الاستبدادية، داخلياً، والعدوانية تجاه جواره العربي، والعسكرية تجاه المسألة الكردية، وعما تقتضيه هذه السياسة من استخدام لعصابات «الجهادية السلفية» بمسمياتها كافة؟!

إن الصراع قد بدأت بوادره تظهر في تركيا نفسها، الأمر الذي جعل العثمانيين الجدد يحاولون عقد صفقة بين العمامة الإسلامية والخوذة الأتاتوركية، فالاثنان، تاريخياً، يُتقنان ثقافة الإقناع. الأولى تحت عباءة الأيديولوجيا، والثانية فوق متن الدبابة. هذه الصفقة إن تمت فإنها ستُدخل المنطقة في دوامة من الدم، لأن زعيم العثمانيين الجدد وفي سبيل الفوز في معركة تعديل الدستور لن يتورع عن إشعال النيران في تركيا والمنطقة، فحلمه في الخلافة يتحقق بمسابح الدراويش وحراب الجنود. إلا إذا قرر أسياد رقعة الشطرنج العظمى إعادت هذه المجموعة إلى هضاب الأنضول حيث سيقضون وقتهم في قراءة أشعار جلال الدين الرومي وممارسة رقصة الدراويش المولوية بدلاً من السماح لهم بإعادة الحياة إلى جثة الإمبراطورية الميتة.

هل قرأ أردوغان قصة سنمار والنعمان بن المنذر؟

يُحكى أن النعمان بن المنذر، الذي حكم الحيرة بالعراق بين عامي (582 – 609)، كلّف سنمار، وهو مهندس رومي، ببناء قصر مهيب، يتباهى به بين نظرائه، فكان له ما أراد، وظهر قصر الخورنق إلى الوجود.

صعد الملك النعمان بن المنذر مع سنمار إلى سطح القصر بعد اكتمال بنائه، وهناك جرى الحديث التالي بين الرجلين. سأل النعمان: هل هناك قصر مثل الخورنق؟ وهل يوجد من يستطيع بناء مثيل له؟ وكانت الإجابة بالطبع لا. وحين استلم سنمار زمام الحديث باح لمليكه بسر، متفاخراً بأن القصر فريدٌ من نوعه أساسه يرتكز على حجر إذا انتزع انهار البناء كله. ولما أقر سنمار بأنه الوحيد الذي يعلم موضع الحجر، دفع به النعمان من سطح القصر، فسقط صريعاً وحمل السر معه.

أرادت الأسطورة هذه أن تعطي درسا في الفضيلة فخلدت سنمار وضربت به مثلاً عمن يجازي الإحسان بالسيئة، ومضى التاريخ بها ينقلها من جيل لآخر، كما في كل الأساطير المشابهة.

وفيما بقيت الأسطورة ثابتة على حالها تتغلغل في مسامات الطبيعة البشرية حتى صار في كل بنيان حجر يحمل سر سنمار. لكن تطور العلوم التكنولوجية والإنسانية جعلت من هذا السر أمراً يسهل كشفه بقليل من التأمل والتدبير، الأمر الذي لم يستطع أن يدركه كثيرين من سكان الشرق الأوسط الذي وصل تضخم حب الذات عندهم لدرجة اعتقادهم أن الكون يدور من حولهم.

يمكن القول إن لعنة سنمار ما فتئت تلاحقنا منذ عصور، وهي قد تجلت بوضوح في عصرنا الراهن وأصبح لكل دويلة لنا ملك أو زعيم أو قائد، وجميعهم بمثابة “حجر سنمار” إذا انتزع سقط البنيان وتهاوى مثل قطع الدومينو. ويبدو أن مخطط الشرق الأوسط الجديد يلحظ نزع جميع هذه الأحجار من مكانه وخصوصاً من يعتقد نفسه “حجر سنمار” في لعبة الأمم، كعصابة العثمانيين الجدد التي جائت إلى الحكم نتيجة دعم خارجي لتنفيذ أوامر محددة إلا أن اللحظة السورية جعلتهم يتمردون على أسيادهم لاعتقادهم أنه قد يعيدون مجدهم الضائع. لأن القديم قد انهار، أو تفكّك، أو تذرّر، لكن الجديد لم يولد بعد، وهم أرادوا أن يكونوا بديلاً عنه، لاعتبرهم أن ما حدث هو ربيعهم الذي سيزهر ويثمر فواكه طازجة ستكون من نصيبهم، إلا أن حيث الفوضى استشرت في بلادهم وعمّ العنف وتفشى الإرهاب في مدنهم، بل إن دولتهم الوطنية أصبحت عرضة للتمزّق والتآكل والتفتت، ولن يمر زمن طويل حتى يتم العبث بوحدتها وهيبتها ومرجعيتها.

[email protected]

Share This