زاﭬين هاديشيان… النَّحات اللبناني الأرمني الملهم يزرع الجمال في الروابي والمتاحف

zavenn

كلُّ مَن ينطلق من بيروت إلى بلدة بكفيا يلفته على إحدى روابيها نُصبٌ  يسمو إلى العلاء، يمثّل في جوهره شهادة الأرمن الذين أُبيدوا سنة 1915 بيد العثمانيين. ولا يعرف أحد  القاصدين من زوّار بكفيا، أنّ مَن أقام هذا النُّصب الأثري الضخم هو النَّحات اللبناني المبدع زافين هاديشيان.

الصراع  الجميل

فضاءات الإبداع لا حدود لها، فهي تنتشل الفنان من واقعه وتلقي به إلى  عالم يتنازع  فيه الخيال مع الحقيقة، وبعدما ينتهي الصراع، يكون العمل قد تكوَّن وأصبح بادياً للعيان.

عاش زافين هاديشيان منذ فتوّته هذا الصراع الجميل، وانصرف كليّاً إلى ميدان النَّحت فمنحه كامل موهبته، ولهفة روحه، وعُمق ثقافته، ومتانة جُمَلِهِ  النَّحتية، ومعظم حياته.

وفي كتابه «زافين» نشهد رسومَه ومنحوتاته في بدايات مشواره الإبداعيّ الذي  لن ينتهي، وتكتب أناملُه خاتمة له، فهو سيجعل نُصُبَه الرُّخاميّة والنُّحاسيّة  والحجريّة وحتى الورقيّة تنطق بالحضور والإشعاع، وتنصهر بالألم والفنّ والانخطاف، وتحلّق منتصرَة على الوجع والواقع المُرّ المستحيل.

البدايات
أنعم الله على زافين بموهبة الفنّ منذ حداثته، فالتحق في السابعة عشرة من عمره بالأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة ببيروت، وتخرّج عام 1952 ليسافر بعدها إلى فرنسا ويتخصَّص في نحت الأجساد والوجوه والأنصبة على مدى السنوات الست، نال خلالها جوائز تقديريّة فرنسيّة ولبنانيّة، ومنحاً دراسيّة تقديراً لمواهبه المتعدّدة.
انصرف زافين إلى الرَّسم والتّصوير الفوتوعرافي أيضاً، وحاز فيهما إعجاب المُتخصّصين والنُّقاد، وما لبث أن أصبح أول أستاذ جامعيّ للنحت في لبنان، فوضع برنامجاً جديداً لتعليم الهندسة المعمارية، وتخرّج تحت إشرافه الكثير من اللامعين في مضمار الهندسة المعمارية والفنون الجميلة.

نُصُب الإبادة

يتصدّر نُصب الإبادة الأرمنيّة قائمة تعرض إنجازات الفنان زافين هاديشيان. فقد تطلّبت إقامته مجهوداً شاقّاً لمجموعة من المهندسين والعمال، الذين تعاونوا على ترسيخه فوق إحدى الروابي.

يبلغ علوّ النُّصب 13 متراً وهو من معدن النُّحاس الخالص، تمّ تدشينه في الذكرى الخمسينية للإبادة الأرمنيّة.
تشقّ يدا النُّصب أجواء الفضاء تعبيراً عن تطلُّع الأرمني نحو المستقبل، وتشهد ركيزته للماضي الذي عاناه أسلافه. لكن رغبة زافين لم تنطوِ على هذا الهدف وحسْب، بل تعدّت  ليغدوَ النُّصب تحيّة وفاءٍ جميلة إلى وطنه لبنان.
أعمال أُخرى

تنوّعت أعمال زاﭬين بأحجامها وموضوعاتها، وانتشرت في البيوتات والمتاحف والساحات، نستعرض في ما يأتي بعضاً منها:

(سينيك الفيلسوف): تتأمّلُ قسمات وجه هذا التمثال النُّصفيّ فتكتشف فوراً بأنَّه لأحد عظماء الإغريق، وخطوط النور التي تتألّق بين خصلات شعره وبقية التكاوين، جعلته نموذجاً فريداً في حقل نحت الوجوه.
(وجه أرام): ينطق هذا الوجه بكل ما يحمله الصدر من أحاسيس ومكنونات متضاربة. ففيه يقترن الألم بالتصميم على مجابهة الحياة، ويمتزج الإجهاد والتعب بالرغبة في تحقيق الهدف، وتسمو الرفعة في النظرات على الإذلال والإذعان، ويبرز الجمال الصارخ في كلِّ تفصيلٍ ليدلّ على الإباء والعنفوان.

(زوجان في بكاء): ما خلف هذه الفكرة؟ وما الذي أبكى الرُّخام وجعل  الزوجين ينطويان على نفسيهما بحنان غير معهود؟!
في هذا العمل المعروض راهناً في متحف يريـﭬان، نلمس بوضوح قُدرة النَّحات على جعل الجماد يذوب عطفاً وحنيناً ورِقّة.
(إحياءً لرودان): قطعة من الرُّخام الكريستالي جعلتها أصابع النَّحات تنساب صعوداً في انسجام لامتناهٍ، إحياءً لعبقريَّة النَّحات الفرنسي رودان صاحب تمثال “المُفكّر”.

(تمثال جبران خليل جبران): في إحدى ساحات بيروت المطلّة على شاطئ المتوسّط، ينتصب تمثال جبران النصفي على قاعدة مرتفعة وسط حديقة خضراء.

لم يعمل زاﭬين على الوجه من خلال صورة تُعرِّف عن جبران، بل ولج إلى سراديب روحه وخفايا أعماقِه، تعرِّف إليه من خلال شِعره ونثره، ومزج الملامحَ بمشاعره الذاتيّة الدفينة، فظهرت كلماته النَّحتيّة الفنّية في عَينَي جبران العميقتين الحالمتين.

(عشتروت تخطف أدونيس): مَن يستطيع منح الحجر جناحين ليحلِّق بهما سوى فنان ملهم وهبه الله ما لا نحلم به نحن؟
اقتبس زاﭬين فكرة خطف عشتروت أدونيس من الميتولوجيا الفينيقيَّة، وجسّدها في عمل احتفاليّ رائع، يوحي للرائي بأنَّ الإلهة عشتروت تلتصق بأدونيس وتطير به إلى الأعالي في وحدة متكاملة.

النهج المعتمد

يرتكز نهج زافين التشكيلي بحسب الناقد الفنّي جوزف طراب على جدلية «الحاجب والمحجوب» التي يعتمدها النَّحات في أعماله، فهو عندما يعمل على الجسد البشري، يجعله جسداً «محجوباً ومستوراً»، فالعُري بنظره «يفرِّق ويبدِّد ويُبعثر، بينما الحجاب يَستر ويصهر ويوحِّد».

في إنجازات زاﭬين تتواصل الأشكال والخطوط والأبعاد لتتلاقى في وحدة متكاملة، تخلق الدهشة للمتأمِّل فتستسلم مشاعرُه للمنحوتة التي تنطلق به إلى آفاقٍ عذراء لم يلج إليها سابقاً.

سليمى شاهين

الجريدة

Share This