الأرمن.. حكايات وتاريخ

download
اتذكر ايام سكننا جوار الكمب الذي سمي في البدء (كمب الكيلاني نسبة لمرقد الشيخ عبد القادر الكيلاني «قدس» لاستفادة المهاجرين الارمن من قطعة الارض العائدة لوقف الشيخ الكيلاني، ثم سمي كمب الأرمن لتزايد المهاجرين في المكان) من جهة الشرق في الحي الذي ازيل لامتدادات الخط السريع، والذي كانت تخترقه سكة قطار كركوك – بغداد، الذاهبة والمغادرة من كراج النهضة، حيث تقع المحطة الكبرى.

القطار يجتاز الصرائف (في موقع السيد حمد الله حاليا) عبر جسر لأن الأرض طينية.. نلعب في هذا الحي الجميل والنظيف والمسالم.. نشعر بالامان في ازقته؛ لأن الشرائح التي تقطنه طيبة، لا تنطوي على شر او أذى، بل لعبنا احيانا، مصدر ازعاج لهم مثل (كرة القدم) و(العصابات) اللتين تستوجبان ركضا طويلا وتخفيا وصوتا عاليا
استندت تسمية «كمب الارمن» لاسم السكان الحقيقيين فيه، فهم النازحون، من تركيا، الى الدول المجاورة: العراق وايران وسوريا والبعض إتجه الى لبنان.. متخذين العراق موطنا لهم، وعاشوا في الموصل حيث استقبلتهم العشائر العربية بترحاب. وكذلك جراء الحرب العالمية الاولى اذ اتجهت عوائلهم الى العراق في محافظة (لواء او متصرفية) ديالى ثم تحولت غالبيتها الى الموصل واختارت العوائل الاخرى التوجه الى بغداد مع اخرين من شمال العراق العام 1920.
بحسب احصاء كنيسة مريم العذراء الكلدانية، تراوح عددهم بين (600 الى 800) في بادئ الامر، فاحتوتهم الساحة التي تقع بجوار مقبرة الغزالي، التي تنضوي ضمن المساحة العائدة لمرقد الشيخ عبد القادر الكيلاني، واغلبهم من الفقراء ومتوسطي الحال ومن مختلف الطوائف المسيحية (الاثوريين.. النساطرة.. الكلدان.. الكاثوليك.. الروم الارثوذكس) ولكنهم اشتهروا بتسمية (الأرمن) وتزايدت العوائل على مدى السنين.

بدأ تدرج الهجرة حتى وصلوا قلب العاصمة بغداد، وسكنوا في منطقة تسمى ارض «الجوربجي» او محلة «الجوربجي» وكانت مملوكة في العشرينيات لشخص من اصول تركية.. محصورة بين السدة الشرقية وساحة الطيران وبين مقبرة الغزالي وشارع الشيخ عمر.

إستأجروا الاراضي من «الجوربجي» وهي زراعية.. تسقى من بئر وناعور كبير، يعود لبيت الجوربجي، ثم تغير اسم المنطقة بعد ذلك الى كمب الكيلاني، وبنوا دورهم من الطين والحصران والاخشاب.

في الاربعينيات جاء مهاجرون من ارمينيا للسكن في المنطقة ومن هنا سميت «كمب الارمن» وتزايدت العوائل على مدى السنين.

في البدء وزعت هيئة العتبة الطاهرة، خيما بين اللاجئين؛ ليسكنوا فيها، وعقب سنوات قررت منحهم قطعا ملكأ وكلفت الجوربجي، بالاشراف على التوزيع والتنظيم والبناء.

مطلع الخمسينيات بنوا بيوتا على مساحات (80 او100م) بناء وفق خريطة موحدة اي بناء موحد، او هو قام ببيعها نتيجة اوضاع اقتصادية في تلك المرحلة فرضت عليه ان يبيعها قطعا سكنية لتصبح احدى مناطق بغداد القائمة.
تميز رجال وابناء هذه الطوائف بتنوع المهن.. ميكانيك وتصليح سيارات وحدادة وطلاء وسمكرة الاجزاء المكملة للسيارات والمعدات وغيرها، وبرعوا بالتجارة، حتى اصبحوا يتحكمون بالاقتصاد والتجارة في بغداد، خاصة النحاس وتجارة السيارات وفي مواد البناء وبالادوات اليدوية والعدد والمستلزمات البنائية والتأسيسات الصحية والكهربائية والعجلات الهوائية والبخارية وتصليح السيارات والصناعات الميكانيكية وغيرها.

يقال انهم كانوا وراء خصوصية شارع الشيخ عمر الحالية، فضلا عن إشغالهم المطاعم والمأكولات الشعبية والصناعات الغذائية، اذ ان اغلبهم تحدر من الموصل، وكذلك الآلات الموسيقية والتصوير الفوتوغرافي، وبرز منهم  فنانون موهوبون بالمجالات الفنية كافة.

شكل وجوده صورة تكاملية للجزء الشرقي الجنوبي من مدينة بغداد، حيث تداخل مع محلات (فضوة عرب والكفاح وباب الشيخ والصرائف والباب الشرقي والبتاويين والكولات وبني سعيد) واصبح ضمن الفسيفساء البغدادي المتنوع والخليط من اهل الجنوب والبغداديين والكرد الفيلية والتركمان «والوافدين من عدد من البلدان الاسلامية.. باكستان وافغانستان».
لكنه تميز عليها بعمارته الحديثة وبيوته ذات البناء الحضري وخريطته المختلفة، والاعتناء بطرقاته من حيث التبليط وكذلك الانارة الكهربائية والنظافة، حتى رحنا نتجول في افرعه مبهورين، حين نذهب الى حديقة غازي (حديقة الامة بعد ثورة 14 تموز 1958) لنلعب على نجيلها الساحر ونزعج سرب البط في بحيرتها البديعة ونقف اجلالا للنصب والتماثيل الخالدة لكبار فناني العراق، التي احاطت الحديقة الرائعة.. جواد سليم وفائق حسن ومحمد غني حكمت.

عبد الكناني

الصباح

Share This