أتوم إيغويان المخرج الذي أحيا في الأذهان مجزرة الأرمن في الأناضول

_81396_ci3

إيغويان مخرج يمتلك سجلا من 16 فيلما روائيا طويلا وعددا آخر من الأفلام القصيرة والتسجيلية، وهو مهموم في معظم أفلامه بفكرة الضحية.

انضم النجم الأميركي جورج كلوني مؤخرا إلى صفوف الأرمن الذين تقدمهم رئيس أساقفة الكنيسة الأرمينية لحضور قداس أقيم أمام النصب التذكاري المقام فوق تل بالعاصمة الأرمينية يريفان، لإحياء ذكرى مرور 101 سنة على “مذابح الأرمن” التي ارتكبها الجيش التركي العثماني.

ألمانيا قررت أخيرا طرح موضوع الاعتراف بمذابح الأرمن وستحيل الموضوع للتصويت أمام بالبرلمان الألماني (البوندستاغ) في الثاني من يونيو.

قبل ذلك، صرّح المخرج السينمائي الأرميني الأصل والكندي الجنسية أتوم إيغويان بأن على كندا أن تعترف بما تعرض له السكان الأصليون، وذلك أثناء حضوره حفلا لإحياء ذكرى الإبادة التركية للأرمن.

والحقيقة أنه لا يوجد أفضل من أتوم إيغويان في مجال السينما من يمكنه الحديث عن “القضية الأرمينية”، فإيغويان المولود في القاهرة عام 1960 لأسرة أرمينية، هاجر معها إلى كندا عندما كان في العاشرة من عمره، هو أفضل من عبر عن قضية الأرمن في السينما الروائية، سواء بشكل مباشر أو مجازي.

يعتبر إيغويان نموذجا للمؤلف السينمائي الحق، فنحن نستطيع أن نلمس في كل أفلامه تعبيره عن رؤية خاصة للعالم، فهو يترك بصمة شخصية ترتبط بتجربته الذاتية وعالمه الخاص، كما يكتب سيناريوهات أفلامه بنفسه حتى تلك المستمدة من أعمال أدبية منشورة.

ويعبر فيلم “التقويم” الذي أخرجه عام 1993 أفضل ما يكون، عمّا نقصده هنا بالقول إن إيغويان مؤلف سينمائي يمتلك عالمه الخاص. يقول إيغويان في تقديمه لهذا الفيلم “لقد أردت العثور على قصة تتعامل مع المستويات الثلاثة للوعي الأرميني: الحس الوطني والإحساس بالمنفى والرغبة في التكيف”. ولذا فإن الرجل الذي يعمل مرشدا سياحيا في الفيلم أشوت أداميان هو أرمني، غير أنه ولد ونشأ في أرمينيا وليس في المهجر، أما المترجمة في الفيلم فهي من الأرمن الذين ولدوا ونشأوا في المنفى، وأخيرا فإن المصور الفوتوغرافي أرمني مندمج تماما في محيط ثقافة بلد آخر. وكل شخصية من الشخصيات الثلاث تغطي جانبا من الجوانب الثلاثة التي تتشكل منها شخصية إيغويان نفسه.

وهم الاندماج

يصور الفيلم كيف يعود مصور فوتوغرافي أرمني الأصل إلى بلد أجداده أرمينيا لكي يلتقط 12 صورة يستخدمها في صنع التقويم السنوي للعام الجديد. وهو يصطحب معه زوجته لكي تترجم له لغة بلده التي لا يعرفها بحكم مولده ونشأته في المهجر، ويستأجر مرشدا سياحيا لمصاحبته في جولته. في النهاية يلتقط المصوّر 12 صورة لكنائس أرمينية وهي الصور التي يحتاجها لإنجاز عمله، لكنه يخسر زوجته التي ترتبط بالمرشد السياحي وتفضل البقاء في أرمينيا.

وبعد عودته إلى كندا بمفرده يجلس المصور يتأمل في التقويم المصوّر ويتذكر الأماكن التي قام صبحة زوجته بزيارتها. وهو يلتقي في موعد محدّد كل شهر بامرأة من الأقليات المختلفة التي تقيم في كندا، يتناول العشاء معها ويمضي الوقت. وعقب العشاء تنهض كل واحدة منهن وتجري مكالمة هاتفية مثيرة جنسيا بلغتها مع شخص على الطرف الآخر، في حين ينهمك هو في كتابة رسالة طويلة إلى زوجته، ويتذكر ما مرّ به من مشاهد أثناء زيارته لأرمينيا من خلال لقطات مصورة بكاميرا الفيديو.

يتصل الرجل بابنته بالتبنّي يسألها ما إذا كانت زوجته قد قامت بزيارتها بصحبة رجل آخر، ويطلب من المرأة التي تزوره في الموعد الشهري أن تكف عن إجراء مكالمتها العابثة الهاتفية وتتكلم معه عن أصولها الأرمينية.

لا يكف الرجل إذن عن التفكير لحظة واحدة في زوجته التي فضلت البقاء “هناك” في الوطن الأصلي، فهي تصبح الوسيلة الدرامية التي تستدرجه إلى الخروج ولو ذهنيا من حالة “المنفى”، والتمرد على الهجرة الثقافية أو “الاندماج” الذي كان يوهم نفسه طوال الوقت بأنه كفيل بحل أزمته. إن أزمته في الحقيقة تتفجر ولا يبدو أنها ستجد حلا سهلا لها. فقد انقلبت حياته رأسا على عقب.

من الناحية الفنية يحقق إيغويان مستوى متقدما على كل المستويات ابتداء من اختياره للشخصيات في هذا الفيلم الذي كتبه بنفسه، فالمصور الذي يقضي قسطا كبيرا من حياته داخل غرفة التحميض المظلمة، يرى العالم من خلال الصور، الذي أوهم نفسه بأنه صار في حياته الجديدة في كندا يمتلك العالم، بينما يشعر في داخله بأنه يفقد نفسه تدريجيا وينعزل وتسيطر عليه فكرة “الوطن” سيطرة تجعله عاجزا عن إقامة علاقات سوية مع الآخرين.

يتلاعب إيغويان هنا بفكرة التقويم التي يستمد منها الفيلم عنوانه، بشكل ساخر. كما يستخدم الوسائل التكنولوجية الحديثة لكي يكثف اغتراب بطله باعتماده الكبير على الرسائل التي يتركها الآخرون له أو يتركها لهم على آلة التقاط رسائل المكالمات الهاتفية، فجهاز الفيديو والتلفزيون يؤكدان عزلة البطل أكثر مما يحققان التواصل، كاميرا الفيديو التي يعتمد عليها في التصوير السياحي في البداية، الكاميرا الفوتوغرافية التي لا تريد أن ترى الناس والحقائق في الوطن الأصلي بل تكتفي بالتقاط مناظر أقرب إلى الأيقونات.

أبعاد النفس

من هذا الفيلم الذي يعد محطة مهمة في مسيرة إيغويان الفنية، ينتقل بعد ذلك إلى فيلمه الأكثر شهرة في العالم وهو فيلم “إكزوتيكا” (1994). هذا الفيلم الذي قد يرى البعض أنه أقرب ما يكون إلى الأفلام الجنسية الإباحية، هو في الحقيقة يتعامل مع البعد السيكولوجي من خلال الإيروتيكية، ولا يقصد الإثارة لمجرد الإثارة. إنه يكشف من خلال مناظره الصادمة عن المأساة الكامنة في أعماق هذه الشخصيات والأسى الذي يسيطر على مشاعرها. وهو بهذا المعنى، فيلم عن المشاعر والحزن والصدمة والتراجيديا الإنسانية.

إن الملهى الليلي “إكزوتيكا”، وهو محور الأحداث في الفيلم، معادل للعالم الذي يراه إيغويان، وهو محيط لعلاقات وسلوكيات فقدت براءتها وأغرق أصحابها فيها كلما ازداد شعورهم بفقدان الشعور بالأمان. لقد أصبح التركز الأساسي لاهتمام الجميع يتمحور حول فكرة المتعة واللذة والإثارة، ولكنها اللذة التي لا ترتوي أبدا، بل تجعل صاحبها يلهث وراءها أكثر فأكثر.

والمرأة التي يدور الصراع في الفيلم حولها هي راقصة تتعرى يوميا في الملهي تدعى “كريستينا” وهي رمز للشقاء والراحة في آن واحد، فهي تقوم بعملها كما لو كانت تمارس نوعا من العلاج النفسي للزبائن، أو أن هذا على الأقل الشعور الذي يجعل الزبائن يترددون على المكان، فهم يتصارعون حول كريستينا ويصبحون جزءا عضويا من دائرة المكان وصاحبته التي تديره بمهارة احترافية غير أنها في الوقت نفسه، تمارس من خلاله سيطرتها الأمومية على الرجال.

إيغويان لا يدين الشخصيات التي يقدمها كما يحدث في الدراما الأرسطية، بل يتعاطف معها ويرثي لحالها ويفهم نقاط ضعفها، من خلال أسلوب يمتلئ بالمتعة البصرية.

أما فيلم “الآخرة الحلوة” الذي أخرجه إيغويان عام 1997 ففيه يعبّر عن شعوره الشخصي بالأسي والألم الذي يتماثل معه في كل أفلامه بحكم عوامل نشأته وتراثه الشخصي وتركيبته الأرمينية.

الفيلم مقتبس من رواية تدور حول حادث حافلة تقل تلاميذ مدارس تودي بحياة أربعة عشر طفلا وتصيب عددا آخر، وكيف يتصدى محام للبحث في هذه القضية التي يوكّله بها أسر الضحايا، وكيف يصبح عليه أن يواجه مشكلته الخاصة التي تتمثل في إدمان ابنته الصغيرة المخدرات.

من هذه الكارثة الإنسانية يصنع إيغويان عملا يعبّر من خلال لغة السينما البليغة عن الخوف الكامن في داخلنا جميعا من فقدان من نحبّ، والخوف من أن نصبح ذات يوم عاجزين عن إنقاذ أبنائنا، الذين نتصور أنهم سعداء بنا وبأنفسهم ولا نريد أن نقترب منهم لنتعرف على حقيقة شعورهم بالوحدة والغربة في مجتمع لا يكف فيه الجميع عن الحديث عمّا تحققه أجهزة الاتصال الحديثة من تواصل بين البشر.

فيلم داخل الفيلم

ولأن إيغويان كان دائما مهموما بما تحمله الذاكرة الجماعية للأرمن في المنفى، فقد حسم أمره بعد سنوات من التردد وأقدم على إخراج فيلم “أرارات” 2002، الذي يتناول موضوع المذابح الجماعية التي وقعت للأرمن على أيدي الجيش التركي العثماني عام 1915، وهي أحداث موثّقة وثابتة تاريخيا ولا مجال هنا للتشكيك فيها، وإن كانت التقديرات في أرقام الضحايا تتراوح من 600 ألف إلى مليون ونصف مليون شخص.

و”أرارات” هو اسم الجبل الشهير في شرق الأناضول الذي وقعت قربه المذابح وأصبح رمزا له دلالته في الثقافة الأرمينية المعاصرة. وكان إيغويان قد أشار إشارات عابرة في أفلامه إلى هذا الحدث كما فعل في “الآخرة الحلوة” و”رحلة فيليشيا” وحتي “إكزوتيكا” الذي يسرد فيه بعض أسماء الذين قتلوا في المذبحة.

غير أنه قام في الحقيقة بخلق بناء فني لفيلمه، يجعله يلتفّ قليلا حول الموضوع حتى يبتعد عن التسجيلية المباشرة، ويصنع فيلما عن الآثار النفسية المدمرة التي تسبب فيها التشويه التاريخي والإنكار المتواصل لما وقع حتى بين عدد كبير من الأرمن المهاجرين أنفسهم.

إنه يستخدم تقنية “الفيلم داخل الفيلم” ويواجهنا ببطله المخرج الشهير الأرمني الأصل إدوارد سارويان (يقوم بالدور الممثل الشهير شارل أزنافور) الذي يخرج فيلما روائيا تاريخيا عن المذبحة يستند إلى مذكرات كتبها طبيب أرمني يدعى كلارنس أوشر، أو يومياته عن الحصار الذي فرضه الأتراك حول مدينة فال.

يستعين المخرج بـ”أني” وهي كاتبة السيرة الشخصية للرسام الأرمني الشهير أرشيل غوركي (الذي نراه في الفيلم من خلال مشاهد الفلاش باك) والذي كان يعيش في مدينة فال وهو بعد طفل صغير.

تشرح “أني” للمخرج لوحة من لوحات الرسام تصوّره واقفا مع والدته. لكن العلاقة المحورية في الفيلم تدور بين أني وابنها “رافي” البالغ من العمر 18 عاما والذي يعمل سائقا ضمن فريق الفيلم الذي يتم تصويره في كندا. ونعرف أن والده قتل عندما كان يحاول اغتيال دبلوماسي تركي.

ورغم وعي الشاب بحقيقة تراثه وتاريخه من خلال الصور والأغاني التي يحتفظ بها ويستمع إليها، إلا أنه لا يزال غير قادر على التماثل مع الماضي. يحقق رجال الجمارك مع رافي الذي عاد لتوه من رحلة إلى تركيا زار خلالها الموقع القديم للأرمن في الشرق، وقد أتى معه بعلبة لشريط سينمائي يقول إنه صوره لكي يستعين به المخرج في فيلمه هذا، لكنه يرفض أن يقوم رجال الجمارك بفتح العلبة، ويخضع بالتالي للتحقيق، فيروي على المحققين ما حدث في الماضي من خلال الروايات الشفوية الممتدة من جيل إلى جيل.

ويحاول أتوم إيغويان من خلال شكل الفيلم من داخل الفيلم أن يعيد تجسيد حصار مدينة فال وما انتهى إليه، لكن هذا التداخل شديد التعقيد بين الشخصيات (من الماضي والحاضر) يجعل الفيلم رغم جمال مناظره وأداء ممثله، يدخل دائرة مغلقة في النصف الثاني منه.

عذاب الماضي

أخرج إيغويان 16 فيلما روائيا طويلا وعددا آخر من الأفلام القصيرة والتسجيلية ومسلسلات التلفزيون. وهو مهموم في معظم أفلامه بفكرة الضحية، ضحية التاريخ أو الحاضر، وكيف يستعيد المرء توازنه فقط عندما يتمكن من مواجهة هذا الماضي بشجاعة.

وفي عام 2014 عرض بمسابقة مهرجان كان السينمائي فيلم “الأسيرة” الذي يتميّز بأسلوب يكتسي بالغموض، وبالكشف التدريجي عن تفاصيل الحبكة، وهو يصور اختفاء طفلة في العاشرة من عمرها من سيارة تركها فيها والدها لخمس دقائق فقط لكي نكتشف بعد مرور سبع سنوات أنّها رهينة لدى عصابة تستغل الأطفال جنسيا، وأن زعيم تلك العصابة يمتلك من وسائل التكنولوجيا وأجهزة الكومبيوتر والكاميرات، ما يمكنه من مراقبة الفتاة وأفراد أسرتها أيضا.

ويكشف إيغويان في هذا الفيلم مجددا عن الخوف الكامن داخل الإنسان من تعرّض من يحبهم، أي أطفاله، للخطر ممّا يتسبب في مأساة تعاني منها الأسرة. وهو هاجس يطارد إيغويان منذ فيلم “الآخرة الحلوة”.

عاد إيغويان في فيلمه الأحدث “تذكر” (2015) إلى موضوع يرتبط بالماضي أيضا وما وقع فيه من مآس تركت أثرها على البشرية كلها، فهو يعالج من زاوية خاصة موضوع الهولوكوست ويدور حول فكرة الانتقام اليهودي من الجلادين النازيين الذين مارسوا القتل الجماعي في الماضي في معسكر أوشفتز.

إلا أنه يكشف في النهاية أن بطل الفيلم وهو رجل تجاوز الثمانين من عمره، وهو الذي يبحث عمّن قتل والديه في أوشفتز، ليس في الحقيقة سوى المجرم النازي نفسه. ولا شك أن اهتمام إيغويان بـ”الهولوكوست” ينبع أيضا من سيطرة فكرة “الإبادة الجماعية” على عقله الباطن بسبب ما وقع لأبناء جلدته.

أمير العمري

ناقد سينمائي من مصر

صحيفة العرب

Share This