الأرمـن فى مصر

2011-634509112237567934-756

عبر مكتبه بالدور الثانى بأخبار اليوم في الستينيات فألمحه واقفاً ينظر شذرًا للمرآة، محركاً عضلات وجهه ليحصل علي التعبير المناسب الذى سرعان ما ينقله بريشته لأوراق في يده، ومع المرور الملتزم بالتوقف علي مبعدة من بابه المفتوح لمراقبة العبقرى لحظة تصيده إلهامه، تصيدت بدورى تعبيرًا للانسجام علي وجهه لاختراق صومعته لإبداء إعجابي برسومه الكاريكاتيرية العبقرية.. وغدونا أصدقاء.. الفنان الكسندر صاروخان أحد أضلع مربع الخلق الفنى بدار أخبار اليوم، إلي جانب كل من الفنانين المشاهير عبدالمنعم رخا ومنير كنعان وحسين بيكار.. المربع الذهبى الراسخ بلمعانه الذى قامت عليه دعائم نهضة إمرة وإمارة على ومصطفى أمين صاحبى الدار وموجهى دفةالصحافة والفن بها.. صاروخان القادم إلى مصر ضمن آلاف الأرمن حيث الملاذ الآمن والمساواة في الفرص ليصبح مصرياً وطنياً غيورًا مرموقاً في جميع الأوساط الصحفية والسياسية والفنية لرسومه اللمَّاحة وأسلوبه الفذ المتميز في فن الكاريكاتير..

صاروخان المخترع لشخصية المصرى أفندى بالمسبحة والطربوش الحاصل على الجنسية المصرية من عبدالناصر شخصياً.. الأستاذ الوديع الودود الظريف الرقيق الذى استعان بمقوماته الشخصية لرسم انفعالات الشخصيات التى يرسمها. صاحب القيمة والقامة يهبط مرة إلي مكتبى المتواضع بالدور الأول ليعهد لىّ بتخطيط هيئة الحصان الواثب الذى سيمتطيه الزعيم في نكتة الصفحة الأولى بالغد، زاعماً أننى أرسم الخيل أفضل منه، فرسمته بيد الخجل مع خالص الامتنان لأن صاروخان قد أتاح لى أن أعيش لحظات أذاقتنى حلاوة تواضع الأستذة.. ومضيت في رحلة العمر أحمل بداخلى اعتذارا لملك الكاريكاتير الذى لم أستمع لنصيحته الغالية بالتفرغ كُليّة للرسم الصحفى مع هجر الكتابة، فقد كان رأيه بأن هناك عشرات الصحفيات لكن هناك رسامة واحدة.. وارتأيتها لنفسي مسيرة عسيرة أحمل فيها القلم والفرشاة معاً، أهجع لأحضان أى منهما إذا ما خاصمنى الآخر علي أمل لعودة الوفاق..

وأبدًا لم يكن صاروخان الأرمني الوحيد الذي أثرى الحياة الفنية والأدبية والسياسية في مصر، فتواجد الأرمن على ضفاف النيل يعود لأكثر من ألف عام أضاءت خلالها نجوم وأعلام ونوابغ وقادة في جميع المجالات منها على سبيل المثال وليس الحصر في العصر الحديث عالم المصريات «أرباج مخيطاريان» المشارك في اكتشاف مقبرة «نخبت رع» بمدينة «الكاب» الأثرية الواقعة على بُعد 70 كيلومترا شمال أسوان، وإليه يعود اكتشاف خرطوش الملك خوفو بمنطقة الأهرامات، وهو لوح مكتوب بالحبر الأحمر، وقد تولى أرباج مسئولية مكتبة المعهد الفرنسي للآثار الشرقية عام 1942 وشارك بقوة لإنقاذ آثار النوبة، وكُتب عنه في موسوعة «مقابر المتاحف» بأنه أقوى رجل مصريات في العالم، وقد فارق أرباج الحياة فى عام 2004 بعدما ترك بصمة وعلامة بارزة فى علم مصر القديمة والمعاصرة والفن الإسلامى…

وهناك الفنان الأرمني الأشهر «أشود زوريان» الفائز بجائزة صالون القاهرة عن لوحته «نهر النيل» وقدرها 1000 جنيه فى عام 1955، وكانت الملكة فريدة إحدى تلميذاته النجيبات، حيث انطلقت بعدها لتقيم معارضها الخاصة فى باريس والقاهرة، وهناك في عالم التشكيل الفنان الأرمنى «بوزانت جوجامانيان» عاشق الريف المصرى الذى أقام أول معرض له عام 1944 عندما كانت الجالية الأرمنية في مصر حوالى خمسة وثلاثون ألفاً.. والفنان التشكيلي «مارديروس ساريان» الأرمنى الذى قدم إلى مصر فى عام 1911 ليعبّر عن حضارتها القديمة والحياة اليومية في إطار شاعرى من خلال لوحات أشهرها عالمياً لوحتا «الأقنعة المصرية والفلاحة»..

وعالمة ترميم الآثار الإسلامية المهندسة «نايرى هامبيكيان» الأرمنية الأصل التى قامت بترميم أبواب القاهرة الإسلامية الثلاثة (باب الفتوح وباب النصر وباب زويلة).. والموسيقار فؤاد الظاهري الذي اشتق اسم شهرته من حى الظاهر مسقط رأسه فاسمه الحقيقى «فؤاد جرابيد بانوسيان 1916 ــ 1988» الذي قام بعمل الموسيقي التصويرية لأكثر من 270 فيلما مصريا على رأسها «الوسادة الخالية، «رد قلبى»، و«الزوجة الثانية»، ويعد من أوائل الموسيقيين الذين استعملوا الآلات الشرقية بجوار الغربية فى كتابه «الموسيقى التصويرية»، حيث ظهر العود والقانون والناى مع الأوركسترا السيمفونى كمثال في فيلمى «صراع في الوادى» و«خان الخليلى»، وكان من أبرز مؤلفات الظاهرى الإذاعية موسيقاه التي قدمت لبرنامج «أحسن القصص» من سِور القرآن الكريم، وموسيقى «الأرض الثائرة» أول قصيدة سيمفونية بعد ثورة 23 يوليو. وكان هناك المنتج الموسيقى «ميشيان» الأرمنى أحد علامات التسجيل الموسيقى المصرى، حيث قام بتسجيل خمس أغان لسيد درويش منها «الحبيب للـهجر مايل، وزنجى دنجى، وعشقت حسنك، وفي شرع مين، ويا فؤادى ليه بتعشق»، وبعض الأغنيات بصوت زكى مراد منها: زورونى كل سنة مرة، وعلى إيه كده!!..
وفي عالم الكاميرا تألقت عدسة «أرشاك كراجوزيان» الأرمنى مصوّر الخاصة الملكية، حيث كان صديقاً لصيقاً بالملك فاروق يشاركه قهوة الصباح، وكان ضمن الوفد المرافق للأميرة فوزية عند عودتها من إيران بعد طلاقها من الشاه محمد رضا بهلوى، وسجلت عدسته مظاهر الاحتفال بأول اجتماع لجامعة الدول العربية، ومن المصورين الأرمن الذين اشتهروا في مصر خلال الخمسينيات والستينيات «ألبان آرام» حيث كانت إحدى مظاهر المباهاة بين أفراد الطبقة الراقية الجلوس أمام «ألبان» ليلتقط له صورة شخصية..

ومن أشهر فنانات الشاشة من الأصل الأرمنى فيروز وشقيقتها نيللى، و«نينوشكا مانوج كوباليان» الشهيرة بالاسم المحبب للمصريين «لبلبة»، و«فرتانوس جاربيس سليم» الشهيرة باسم «أنوشكا» التى ظهرت فى البداية فتاة إعلانات من مجموعة طارق نور وبعدها شقت طريق الغناء لتفوز بالجائزة الأولى بمهرجان الأغنية الفرانكفونية فى فرنسا، وكان لها عدة جولات سينمائية وتليفزيونية منها للمخرج صلاح أبوسيف فى فيلم «السيدة كاف» وبطولة المسلسل «قانون المراغى» أمام النجم خالد الصاوى، و«سيدة الأمم المتحدة» أمام عادل إمام فى «فرقة ناجى عطااللـه».. والكاتب الأديب الصديق الأرمني ابن البلد توماس جورجيسيان المغرم بموسيقى الأرمني العالمى آرام خاتشادوريان وعاشق جبران وصديق جميع أدباء وشعراء وفنانى مصر من رحل منهم ومَن بَقىَّ على قيد الحياة، وصاحب عمود الخواطر البراقة فى ملحق الجمعة الأسبوعي للأهرام..

وإذا ما كان سعد زغلول فى القرن التاسع عشر قد أصدر عفوًا فى 18يناير 1924 لأيتام الأرمن اللاجئين إلى مصر من قسوة المذابح التى أقيمت لهم في الأناضول من عرض أنفسهم للشرطة لتقديم بياناتهم الشخصية كنوع من تقنين الهجرة، بل إنه سمح للمطرانية الأرمنية بدعوة أيتام آخرين إلى مصر بلغوا 806 يتيمات و300 يتيم، فربما كان ذلك نوعاً من الاعتراف التاريخى بجميل أحد الأرمن الذى كان علي يديه خلاص مصر من إحدى مِحنها الجارفة في القرن الحادى عشر الميلادى وهو الوزير بدرالجمالي الذي استدعاه الخليفة المستنصر بالله لإصلاح أمور مصر، وكان قد كاتبه سرًا يقول له «فإن كنتُ مأكولا فكن أنت آكلي» وذلك بعد تولي الجمالي إمارة دمشق مرتين وبعدها إمارة عكا، وقد قبلَّ الجمالي المهمة بعدما أملى شروطه التي أجيب إليها وأهمها: «لا أدخل القاهرة ما لم يقبض على بلد كوس قائد الأتراك» ، فقام الخليفة بالقبض عليه، ليأتي الجمالى في يناير 1074 علي رأس مائة مركب محملة بالجنود الأرمن ليغدو لقبه «أمير الجيوش» نسبة إلى جبل الجيوشى، فأكرم الخليفة وفادته وأطلق يده فى إصلاح أمور البلاد، حيث يسجل التاريخ في أمر توليته على لسان الخليفة الفاطمي قوله: «وقد قلدك أمير المؤمنين جميع جوامع تدبيره، وأناط بك النظر فى كل ما وراء سريره، فباشر إذن ما قلّدك أمير المؤمنين من ذلك مُدبرًا للبلاد ومُصلحاً للفساد ومُدمرًا أهل العناد».. وسرعان ما أصبحت هناك حارة خاصة بالأرمن عرفت بالحارة الحسينية، وكانت تضم ما يقرب من سبعة آلاف أرمنى.. وكانت مصر وقتها في حالة من الضنك الشديد، حيث انهارت القوة الشرائية للعملة، وارتفعت أسعار المواد الغذائية، حتى أن حارة كاملة بالفسطاط بيعت بطبق خبز، كل رغيف منه بمنزل فعرفت لذلك بحارة الطبق ــ كما جاء فى كتاب المقريزى «إغاثة الأمة بكشف الغمة 297 ــ 300» وحول ما أصاب مكتبة القصر الفاطمى التى كانت مجلداتها تزيد علي مائة ألف يذكر المقريزى أن الكتب الجليلة المقدار، المعدومة النظير فى سائر الأمصار قد اتخذ عبيدهم وإماؤهم من جلودها نعالا وأحذية ثم أحرقوا أوراقها زعماً منهم أنها تحوى كـلام المشارقة الذى يخالف مذهبهم.. وكان المستنصر قد حوصر في قصره ونُهبت جواهره وتُحفه. وفي هذا يقول المؤرخ ابن ظافر: «أُخرج من خزائن المستنصرثمانون ألف قطعة بلور صغارا وكبارا، وسبعون ألف قطعة من الديباج القديم وأحد عشر ألف درع وعشرون ألف سيف».

ويذكر ابن الأثير أن المستنصر «لقى شدائد وأهوالا وانفتقت عليه الفتوق بديار مصر أُخرجت منها أمواله وذخائره إلى أن بقىَّ لا يملك غير سجادته التى يجلس عليها وساءت حالته إلى درجة أنه كان يستعير من صاحب ديوان الإنشاء بغلته ليركبها»، ويذكر القلقشندى بأنه «لم يبق فى مصر دابة تمشى على أربع سوى حمار يركبه الخليفة المستنصر بعد أن كان لديه عشرة آلاف ما بين فرس وجمل ودابة»، وأضاف نقص منسوب النيل على مدى السنوات العجاف المتتالية «1052، 1055، 1064، 1071» مزيدًا من الأزمات الاقتصادية على مصر إلى جانب الفوضى السياسية، حيث تعطلت الأراضى عن الزراعة فازداد الغلاء ليعقبه الوباء الذى عَمَ البلاد «ولم يبق فى مصر إلاّ صُبابة من الناس» وبيع الكلب ليؤكل بخمسة دنانير.!

ويعلق المؤرخ النويرى فى «نهاية الإرب» بأن الغلاء الذى أصاب مصر لم يكن عن نقص النيل وإنما كان لاختلاف الكلمة وحروب الأجناد وسيطرة رجال الأعمال!! أى أن الكوارث التى نزلت بمصر وقتها لم تكن ترجع إلى أسباب طبيعية لا يد للإنسان فيها بقدر ما كانت تعود إلى عجز النظام القائم حينها عن إيجاد حل للتناقضات بين القوى الإنتاجية وزيادة الإنتاج.

قدم بدر الجمالي الأرمني الأصل إلى مصر ليخرج بها من محنتها التى استمرت سبع سنوات عجاف، ليمكث حكمه فيها إحدى وعشرين سنة وشهرًا جامعاً ما بين السيف والقلم، رافعاً الضرائب عن كاهل المزارعين لمدة ثلاث سنوات ليجنى المحصول فى السنة الرابعة، ويزداد خراج مصر ليصل من بعد ماكان قبل توليه الوزارة 2٫000٫000 دينار إلى 3٫100٫000 دينار فى عام 1090 ويطلق بدر على المزارع المقيم إلى جوار حقله لقب «فلاحا قرارًا» ليظل اللقب ملتصقاً بالفلاح الحريص على أرضه «فلاح قرارى» إلى الآن، وقام بتقسيم مصر إلى أربع ولايات رئيسية: (قوص والشرقية والغربية والإسكندرية، إضافة إلى القاهرة والفسطاط)، وكان والي قوص أقوى الولاة الأربعة، كما شجع أصحاب رءوس الأموال والمستثمرين للحضور إلى مصر فأخذت القوافل ترد من كل مكان، وفى هذا المجال تنبه إلى استثمار رءوس الأموال المصرية المهاجرة فأرسل قاضى القضاة أبا عبداللـه محمد إلى بلاد الشام للاتصال بأصحاب الأموال من المصريين وحثهم على استثمار أموالهم فى وطنهم، ونجحت مهمة الرجل في إقناع الذين فروا بأموالهم من مصر أثناء الشدة المستنصرية بالعودة إلى دولتهم مع أموالهم حيث منحهم الجمالى الأمان والثقة وخفف عنهم القيود والعراقيل والمخاوف فازدهرت الأسواق وتحسنت الأحوال المعيشية، ويذكر ابن ميسر فى هذا المجال فى كتابه «أخبار مصر» أنه «لم يعرف أحد صودر فى زمانه ولا قسّط له دين»، ويحق على الأرمن فى مصر قولا قاله عنهم المفكر أحمد أمين: «توجد منهم طائفة في مصر اشتهرت بجودة الصنعة وإتقانها، والمهارة فى التجارة، وعدم المبالاة فى الغربة، لذلك نجحت حيث لم ينجح غيرها وكسبت من الأموال ما تضخمت به ثرواتها»… ومن رفعة شأن بدر الدين الجمالى أن خلع عليه الخليفة المستنصر لقب «الوزير الأجلّ أمير الجيوش» فكان الخليفة إذا ما قام بتوقيع مظلمة يرفعها بخطه «إلى وزيرنا السيد الأجلّ أمير الجيوش أمتعنا اللـه ببقائه ليتقدم (بنجاز) ذلك إن شاء اللـه تعالى»، وفى ذلك إشارة إلى انتقال السلطة الفعلية في مصر إليه حيث أضاف إلى ألقابه فى عام 1077 «كامل قضاة المسلمين، وهادى المؤمنين، وناصر الإمام» وأضاف إليه المصريون بدورهم لقب «الوزير العادل» بما أحدثه من تغييرات جذرية فى المواريث، حيث كانت الدولة الفاطمية تُلزم رعاياها باتباع الفقه الشيعى فى الميراث، وبقدومه أصبحت القاعدة هى «أن كل من مات يعمل فى ميراثه على حكم مذهبه»..

وكان الجمالي عند قدومه إلى مصر قد وجد الحاجة مُلحّة لتحصين القاهرة وتقوية دفاعاتها فابتكر طريقة عملية هدفها إعادة بناء ما تهدم خلال الشدّة الفاطمية فأمر بالنداء ثلاثة أيام بأن كل من له دار خربة أو أرض فضاء فعليه أن يُعمرها أو يؤجرها لمن يعمرها، ومن تأخر عن ذلك فلا حق له فيها، وقام بإعادة القاهرة مدينة مغلقة بعدما قام بتجديد الكثير من المشاهد والمساجد والحصون وأقام أبواب زويلة والنصر والفتوح وما يتصل بها من أسوار بعدما تداعى السور الدفاعى الذى أقامه جوهر الصقلى حول القاهرة فى عام 969، حيث لم يعمر أكثر من ثمانين عاما، إلى جانب الفوضى الاقتصادية والسياسية التى أسهمت فى امتداد المساكن العشوائية خارج أسوار القاهرة..

ويقول عالم الآثار الإسلامية حسن عبدالوهاب إن الجمالي المغرم بفن العمارة قد قام بربط باب الفتوح بباب النصر عبر طرق وسراديب، وأنه فى هندسته لباب زويلة لم يجعل له «باشورة» أى مجرد منعطف لإعاقة دخول المهاجمين بأعداد كبيرة مرة واحدة، بل عمل في الباب زلاّقة من حجارة الصوان، حتى إذا هجَمَ العدو انزلقت قوائم الخيل على الصوان لملامسته فألقت بركابها إلى الأرض، وبقيت الزلاّقة إلى أيام السلطان الكامل الأيوبى عندما زلق به فرسه، فأمر بأن يخفف من حجارتها إلى جانب تخشينها.. وعندما توفي بدر الجمالى عام 1904 دُفن في قبة أعدها لنفسه خارج باب النصر غلب عليها اسم «الشيخ يونس».. وقد سمى المقطم «جبل الجيوشى» لأنه شيد عليه مشهدا يزعم الناس «أن سيدى الجيوشى مدفون فيه”.

وكان بدر الجمالي قد قام ببناء جامع الجيوشى فى الجهة الجنوبية الشرقية من القلعة عام 1085 وهو الجامع ذو المئذنة الفريدة التي تتكون من برج مربع، والجامع العتيق بإسنا، وتجديد جامع العطارين بالإسكندرية، وقد سار الأنجال على هدى الجمالى الكبير فقام الأفضل الجمالى ببناء جامع الفيلة المطل على بركة الحبش، وفى عودته من قتال الفرنج منتصرًا فى عام 1097 من بيت المقدس مرّ بعسقلان، حيث عمَّرَ المشهد الحسينى بها بعدما أخرج رأس الحسين المبجّل وعطره وحُمل فى سفط إلى أجلّ دار بها، وعمّر المشهد، ولمّا اكتمل حمل الأفضل الرأس على صدره وسعى به ماشياً إلى أن ردّه إلى مقره، ثم نُقل إلي مصر سنة 1153 زمن وزارة الصالح طلائع بن زريك الذى بادرَ إلي بناء مشهد الحسين بها.. وكان دور الأكمل بن الأفضل فى هذا المجال بناء مشهد السيدة سكينة ابنة الإمام زين العابدين بن الإمام الحسين فى عام 1130، وقد أعطى بدر الجمالى فى حياته دفعاً للنهضة العلمية فى مصر وسَارَ ابنه الأفضل على منهاجه حتى يذكر أنه قد وجد لديه بعد مقتله مكتبة بها خمسمائة ألف كتاب، وفى المجال العلمى شيَّدَ الأفضل مرصدًا، ولنزهة القوم أنشأ بستاناً سمّاه الروضة فى جزيرة عرفت بعدها باسم «جزيرة الروضة»، ومما يذكر عن الثراء الذى بلغه الجماليون من الأصل الأرمنى فى مصر ما قيل عما خلفه بدر الجمالى من ثروة تقدر بمائة ألف غلام، ومن الجوهر والياقوت أربعة صناديق، وتفوق الأفضل على أبيه لشغفه بالمظاهر وولعه باتخاذ الجوارى حتى بلغ عددهم ــ لدى ابن ميسر ــ ثمانمائة جارية منهن خمسون مخطية لكل واحدة منهن حجرة خاصة بها، وروى عن الأفضل أنه كان له مائة بدلة معلقة على أوتاد من ذهب، على كل بدلة منها حزام من لونها، وورد أنه قد ترك بعد وفاته تسعين ألف ثوب عنابى من الديباج، وثلاثة خزائن ملأى بالثياب الدبيقية من صنع دمياط وتنيس، والتى يصل ثمن القميص الدبيقى منها إلى عشرة آلاف دينار، ووجد من بين ذخائره دكة من العاج والأبنوس محلاة بالفضّة عليها قطعة من العنبر مثمنة الشكل فى أعلاها تمثال طائر من الذهب أرجله من المرجان ومنقاره من الزمرد وعيناه من الياقوت الخ.. وقد يقودنا تحليل مظاهر الثراء لدى الجماليين إلى محصّلة سنوات تقارب الستين عاماً قضوها يشغلون المراكز الرفيعة فى الدولة الفاطمية لنصل إلى المقارنة بين ما كان عليه الوضع فى مصر قبل قدومهم وبين انتعاش الوضع الاقتصادى والاجتماعى بعد استقرارهم فيها، الذى أدى بدوره إلى ازدهار أوضاع البلاد وتهيئة الظروف المواتية لأسباب الثراء..

والآن وقد مرت مائة عام على مذبحة الأرمن عندما أرادت الدولة العثمانية أن تعوّض فشلها وانكسارها وتراجع قوتها، ووضعها كرجل أوروبا المريض، بارتكاب واحدة من أفظع الجرائم فى التاريخ الإنسانى المعاصر، حيث وقفت كل من لندن وموسكو لم تحركا ساكناً أو تبذلا جهدا حقيقيا لمنع حدوث المجازر أو الحد منها، هذا بينما كان أقوى صوت رافض للسلوك العثمانى المروع يخرج من مصر من قلب أزهرها الشريف على لسان شيخه الجليل سليم البشرى الذى أصدر فتوى بحرمة الإبادة والتحذير من اقترافها على نحو ما نشرته جريدة المؤيد يوم 28 ابريل 1909 نقلا عن الشيخ البشرى: «اطلعنا فى الصحف المحلية على أخبار محزنة وإشاعات سيئة عن مسلمى بعض ولايات الأناضول من الممالك العثمانية، وهى أن بعضهم يعتدون على بعض المسيحيين فيقتلونهم بغياً وعدوانا، فكدنا لا نصدق ما وقع إلينا من هذه الشائعات، ورجونا أن تكون باطلة، لأن الإسلام ينهى عن كل عدوان ويحرّم البغى وسفك الدماء، والإضرار بالناس كافة، المسلم والمسيحى واليهودى فى ذلك سواء…» ومنذ نهاية الحرب العالمية الأولى والأرمن يحاولون جمع الوثائق والأدلة لإثبات الخطة العثمانية الشيطانية لإبادة شعبهم وسلب أراضيهم وممتلكاتهم ثم طرد من تبقى منهم بعيدا فى الشتات للغرق فى جوف البحر الأسود، ومن بقى حياً يواجه ظروفا لا يتحملها بشر بلا زاد ولا ماء تحت وطأة التعذيب والدفن الجماعي في بطن الصحراء، ولم يشفع للأرمن إخلاصهم فى خدمة الإمبراطورية العثمانية، وقد حققوا في مجال الاعتراف بمأساتهم كثيرا من التقدم، ففى عام 1974 اعترفت اللجنة الفرعية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة بأن «مذابح الأرمن كانت أول عملية إبادة في القرن العشرين»، ومن يومها تنضم دولا جديدة لتعترف رسميا بالإبادة التى تعرض لها الأرمن ولتربح القضية الأرمنية داعمين جدد آخرهم الأسبوع الماضى ألمانيا من بعد أمريكا وانجلترا وفرنسا، حيث الجرح لم يزل فائرًا، ولم تزل بحور الدموع تسيل على جدران التاريخ، ولم تزل رائحة الدماء تهب مع الذكريات، ولم يزل صوت الأنين يعشش فى أضغاث الكوابيس الموروثة أباً عن جد، بما يثبت أن الدم أقوى من السيف، وأن الضحية أقوى من الجلاد.. وأنه لا فرق بين مجزرة ومجزرة، وبين مأساة وطن سليب وآخر سقط عبر المفاوضات والشجب، والأمر يتساوى بين مجازر العثمانيين للأرمن ومجازر التتار والصليبيين القدماء والجدد ضد العرب والمسلمين، وبين ما جرى في شرق الأناضول ومجزرة دير ياسين، وجرائم النازية وإبادة الهنود الحمر، واستئصال مسلمى البوسنة والهرسك، وتدمير إسرائيل لغزة على رءوس أهلها، والقنبلة النووية على هيروشيما وناجازاكى..

وإذا ما أردنا فتح ملفات الاعتذارات والتعويضات تعالوا نحاسب الأمريكان على ما اقترفوه ونهبوه وقتلوه وجففوه فى العراق.. تعالوا نحاسب فرنسا على المليون شهيد فى الجزائر.. تعالوا نحاسب إيطاليا على ما اقترفت يداها فى ليبيا ومقتل الآلاف على يد موسولينى.. تعالوا نحاسب إسرائيل على ما نهبته في سيناء والذى قدرته اللجنة الوطنية التى أمر بتكوينها الرئيس الأسبق حسنى مبارك بمبلغ 500 مليار دولار رُفع بها تقرير للأمم المتحدة لينام فى الأدراج.. وها هو أوباما يرفض الاعتذار مفضلا التعاطف فقط أثناء زيارته لهيروشيما وناجازاكى.. وأبدًا لن تنسى مصر لأردوغان الواقع الآن في حيص بيص بين توالى اعترافات الدول الكبرى بمذبحة الأرمن وبين دوى العمليات الإرهابية اليومية فى بلاده، حيث يهرش رأسه بالكف التى كان يرفعها بعلامة رابعة.. الناقصة.. أصبعا!!

سناء البيسي

الأهرام

Share This