الأرمنية بياتريس اوهانيسيان.. أول عازفة بيانو في العراق

images

“لم أسمع تلك الكلمات التي تحدثني وتغريني عن ضمان مستقبلي في اميركا، بل كنت أنصت الى صوت داخلي من الروح يناديني ويدعوني للعودة الى بلدي العراق، لخدمة الثقافة الموسيقية الرفيعة فيه” بهذه الكلمات البسيطة عبرت عن مشاعرها الحقيقية لحظة تخرجها من احد المعاهد الاميركية في العام 1959، ومحاولة العديد من الاهل والاصدقاء والعاشقين لفنها وموهبتها باغرائها في البقاء بأميركا لضمان المستقبل والنجاح، ولكن تلك العراقية قد حسمت امرها في العودة الى بلدها لكونها تشعر بأنه الأولى من كل بقاع الكون في توظيف موهبتها، انها عازفة البيانو العراقية بياتريس اوهانيسيان  تلك الأرمنية التي اختارت هذا التميز من بين فتيات جيلها لتبحر في عالم غريب كل الغرابة عن اهتمامات النساء في زمن تقييد الحريات وانعدام دور المرأة فيه.

بدايات الموهبة

ولدت هذه العلامة المميزة في مهد لعائلة ارمنية بغدادية الجذور والسكن، وكانت ولادتها في محلة (المربعة) الواقعة خلف سينما الزوراء تحديدا في العام 1927،وكانت اولى خطواتها التعليمية في مدرسة الراهبات الكائنة في محلة(رأس القرية) بشارع الرشيد ، وفيها التي كانت الاولى  من بين مدارس العراق، في رفد التلاميذ بالمعرفة والتطور، الانطلاقة الاولى لفنانتا بياتريس أوهانيسيان في عالم الموسيقى، حيث وجدت ضالتها لتعلم الموسيقى بدراسة العزف على البيانو، وترتل وتنشد ضمن جوقة الإنشاد للمدرسة، ويبين المؤرخ حنا بطرس في دراسة عنها ان بياتريس منذ طفولتها وجدت نفسها بين تلميذات مدرسة الراهبات، وكأن ثمة (صوتا) يدندن في دواخلها أنَها لن تكون غير موسيقية محترفة، وإزدادت دندنات هذا الصوت كل لحظة تعيشها ليصل الأمر بها، ومنذ صغرها، إلى نوعٍ من الهوَس والعشق كما يصفه بطرس، مبينا  ان العائلة مكونة من الوالدين، إضافة إلى بياتريس، وهي بكر العائلة، يأتي شقيقها آرشان وشقيقتها الصغرى سيتا ايضا تعزف على البيانو، والثلاثة يمارسون الموسيقى عزفاً، حيث كان البيانو يتصدر صالة الجلوس، وكان الشقيق يعزف على آلة الكمان.

الكنيسة وتأثيرها في التأسيس

يقول بطرس انها كانت  تذهب كل يوم أحد إلى كنيستها الأرمنية ببغداد (التي كانت قرب كنيسة أم الأحزان الكلدانية – حالياً في مكان السوق العربي) لتنعِش نفسها بالألحان الكنسية التي كانت تؤديها مجموعة إنشاد (كورال – متعدد الأصوات)،ونتيجة ديمومتها لتلك الزيارات اخذت تطيل في مجلسها داخل الكنيسة وبالقرب من جماعة الإنشاد، وتردد بصوتها الرقيق كل ما كان يرتَل أثناء القداس، ليتطور الأمر لديها، فأخذت تعزف في الكنيسة على آلة الأرغن الهوائي قطعاً موسيقية وتراتيل في بيتها، وتستمع بشغف الموسيقى الكلاسيكية من أعمال كبار المؤلفين الموسيقيين الأوروبيين أمثال: شوبان، باخ، موزارت، بتهوفن؛ لكن أعمال البيانو (من السوناتا والكونشيرتو) أخذت تجذبها وتشد انتباهها بشكل متميز بحسب قول بطرس، موضحا ان بياتريس ذكرت في مقابلة لها مع تلفزيون #بغداد في السبعينيات، كيفية دخولها معترك دراسة الموسيقى في معهد الفنون الجميلة ببغداد،عندما قدم والدها في العام 1937 طلب انتساب ابنته بياتريس للتسجيل في (المعهد الموسيقي العراقي) التابع إلى وزارة المعارف، تلميذةً في فرع البيانو، أيام كان المعهد في بداياته في منطقة المربعة.

النجاح والعودة للوطن

كانت شروط القبول في المعهد تقضي بأن يكون الطالب حائزاً على شهادة الدراسة الابتدائية، وأن يقل عمره عن 13 سنة، هنا تقول بياتريس:  دخلتُ إلى المقابلة أمام لجنة المعهد المكونة من الأستاذين الشريف محيي الدين حيدر، مدير المعهد، وحنا بطرس معاون المدير، الذي قدمني كما تقول هي واصفاً إياي بـ «شوبان الموهبة المبكرة»، لكن اللجنة وجدت عائقاً أمامي لقبولي في المعهد بسبب صغر السن، ولكن وبتدخل من بطرس، تم قبولها، لتبدأ الدراسة  على يد الأستاذ الروماني جوليان هرتز، وحصلت على دبلوم المعهد بامتياز العام1944، بعد تخرجها من معهد الفنون الجميلة أكملت دراستها في الأكاديمية الملكية في لندن ، ونالت شهادة التخرج وجائزة فردريك وسترليك،وحصلت فيما بعد على منحة فولبرايت لمواصلة دراستها في الولايات المتحدة الأميركية، في مدرسة «جوليارد» في نيويورك وهي من المدارس العريقة لتحصل على شهادة اخرى بامتياز، ورغم اغراء البقاء في اميركا لكنها رفضت كما ذكرنا في بداية الموضوع، وعادت إلى العراق فيما بعد لتصبح رئيسة قسم البيانو في معهد الفنون الجميلة، حيث تخرج على يدها الكثيرون من الطلاب الذين أصبحوا فيما بعد من العازفين المعروفين.

نجاحات وجوائز 

كانت بياتريس أحد العناصر الرئيسة في السمفونية العراقية وقدمت مع زملائها عروضاً فنية جميلة في بلدان عديدة، وكانت تقيم الحفلات بصورة مستمرة في مقرها ببغداد، وكانت العازفة المنفردة المنتظمة في حفلات «كونشيرتو البيانو» مع الفرقة، وهي أول عازفة بيانو منفردة في العراق، وأول مؤلفة للموسيقى الكلاسيكية، ولها العديد من المقطوعات الجميلة ومن أجملها «مقطوعة الفجر»، حصدت العديد من الجوائز العالمية والعربية والمحلية،
العام 1996 هاجرت العراق متوجهة إلى اميركا، مع شقيقتها سيتا، لتصبح فيما بعد عازفة البيانو مع أوركسترا مينيابولس السمفونية الشهيرة، لترحل عنا بصمت ايقونة العراق الموسيقية في الولايات المتحدة في تموز 2008 وهي تبلغ من العمر واحداً وثمانين عاما .

يوسف المحمداوي

الصباح

Share This