توثيق اللغات القديمة بدأ مع المخبر النوعي في المعهد العالي للغات.. الآرامية مهددة بالاندثار..والأرمنية الأكثر توثيقاً

مخبر

“التوثيق ذاكرة الشعوب” وهو المحور الأساسي للاستمرار والوجود وبما أن المجتمع السوري يشكّل بأطيافه المتنوعة لوحة موزاييك تجمع بين أقوام عدة (العربي والسرياني والآشوري والشركسي والكردي)، تتداخل وتتقاطع بثقافاتها إلى حدّ ما، عمل كل جزء من أطياف المجتمع السوري على استمرار وجوده وهويته المتمثلة بلغته الحامل الأساسي لتاريخه والحافظ تراثه الشعبي، فوُجِدت محاولات فردية للحفاظ على اللغة الأم تتفاوت من لغة إلى أخرى، لكن الخطوة الهامة جاءت مع افتتاح جامعة دمشق في المعهد العالي للغات أول مخبر توثيقي لجمع اللغات وتوثيقها، وحفظ الإرث الثقافي والهوية من الضياع، لاسيما أن قرابة 3600 لغة ستؤول إلى الزوال في نهاية القرن الحالي وفق إحصاءات اليونسكو.

بدأ المخبر بعمليات الجمع والتوثيق والأرشفة لإعداد قاعدة بيانات لكل لغة، تكون مرجعاً لأي باحث في مجال اللغة والتراث منطلقين من العمل باللغة الآرامية، كونها تعرضت لخطر كبير يهدد وجودها جراء ما قام به الإرهابيون من عمليات تخريب وتهجير لمعلولا وسكانها، تلتها اللغة الكردية التي تملك إرثاً فنياً كبيراً، ثم اللغة الأرمنية التي تعدّ أكثر اللغات توثيقاً لاهتمام اللغويين والباحثين والمسؤولين الأرمن بذلك، وفي الخطوة القادمة سيتابع المخبر عملية التوثيق للغتين السريانية والشركسية، ومن المتوقع أن تتوسع الدائرة وتضم المزيد من اللغات، لكن الأمر اللافت طموح القائمين على العمل بإشراف عميد المعهد د.ميساء سيوفي للوصول إلى ترجمة جميع الوثائق إلى اللغة العربية تمهيداً لترجمتها لاحقاً إلى اللغة الإنكليزية بحيث تحفظ كل وثيقة وتؤرشف بثلاث لغات.

الوعي الجمعي

وفي زيارة للمخبر توقفنا مع رؤساء الشعب الذين حدثونا عن مراحل هذا العمل التوثيقي النوعي الذي يتم لأول مرة في سورية.. والبداية كانت مع د.علي اللحام رئيس قسم اللغات المختلفة ومدير مخبر توثيق اللغات الذي  حدثنا عن أهمية المخبر التوثيقي وأهمية زيادة الوعي الجمعي باستخدام هذه اللغات في جميع المجالات الممكنة، وتوثيق اللغات المهددة بالانقراض وحفظها من خلال تفعيل الأنشطة والندوات، وجمع المعلومات المطلوبة من وثائق وأرشفتها لتأسيس قاعدة بيانات ضخمة، ويتم ذلك بجمع أكبر قدر ممكن من فروع التراث اللامادي من الطقوس والقصص المحكية والتراث الغنائي والتراث الشعبي والترانيم الكنسية، من هنا تبدأ المرحلة الأولى، وفي المرحلة الثانية يتم جمع قواعد اللغة، وجعل تلك المعلومات متاحة للباحثين والمهتمين باللغات، وأضاف د. اللحام: إن طموحنا يرتقي إلى تحويل المخبر إلى مركز بحثي يستقطب باحثين من مختلف الدول في مجال اللغات القديمة، إضافة إلى السعي لتفعيل اللغات ضمن المجتمعات الخاصة بها كونها الناقل الثقافي الأهم، فتم الانطلاق مبدئياً باللغات الثلاث الآرامية والكردية والأرمنية التي تشكل جزءاً هاماً من أطياف المجتمع السوري، وتم التركيز بالدرجة الأولى على اللغة الآرامية لأنها من اللغات المهددة بالاندثار، لاسيما أن الفئة العمرية للناطقين بها من كبار السنّ، وأن كثيراً من سكان معلولا لا يعرفون كتابتها.

جامعة دمشق والمجتمع

وتابع د. اللحام: لقد حصلنا على تطبيق حاسوبي لكتابة اللغة الآرامية وهو برنامج غير متوافر قام بتصميمه وتطويره السيد غطاس حنين، وهو من طلاب المعهد القدامى، وقام السادة نقولا بركيل بتخطيط الحرف، ووسيم حداد بمسح ومعالجة الصور، وتعاقدت جامعة دمشق مع الطالب الجامعي باسل وهبة من أهالي معلولا للبدء بطباعة الوثائق المخطوطة باليد، ليتم حفظها وتوثيقها كوثائق مطبوعة، وسيتم تحميل جميع المواد السمعية المؤرشفة لكتابتها، وسنتوسع لاحقاً بتوثيق اللغتين السريانية والشركسية، وندعو جميع المهتمين للتعاون مع جامعة دمشق بتقديم المواد والوثائق والتسجيلات التي يمتلكونها لتوثيقها وأرشفتها، وبذلك تحقق جامعة دمشق أحد الأدوار المنوطة بها، من ارتباط وثيق مع المجتمع وخدمته من خلال حفظ تراثه ومكوناته.

التراث الغنائي الكردي

وكما نرى في الأمسيات الموسيقية فإن الشباب لا يتكلمون اللغة الكردية ولا يعرفون حتى الأغاني التراثية، لذلك يسعى المعهد العالي للغات لحفظ وتوثيق اللغة الكردية المكتوبة والمسموعة والمرئية، فالمِخْبَر سيحفظ التراث اللامادي وسيقوم بتوثيق اللغة المحكية والمكتوبة وتعليم اللغة وحفظ القواميس وقواعد اللغة الكردية والأمثال والأغاني، وكما أوضح د. عصمت رمضان تم حتى الآن توثيق جميع أنماط الأغنية الكردية، على سبيل المثال أغاني الحصاد والمواسم والأغاني الملحمية والشعبية، وعلى الصعيد الأدبي تمّ جمع العديد من الأساطير مثل أسطورة “شهماران” أسطورة محكية لفتاة هربت من ظلم البشر نصف جسدها أفعى ورأسها رأس إنسان، ورواية ميموزين التي ترجمها العلامة الراحل د. محمد سعيد رمضان البوطي، ورواية عبدليه زينيه، وملحمة زينكي فوش بائع السلال الذي أغرمت به الأميرة، وأضاف بأنه من الممكن أن تترجم جميع النصوص إلى اللغة العربية.

كتابة الآرامية وترجمتها

وقد ساعد المخبر على كتابة اللغة الآرامية لأنها لغة متوارثة بشكل شفهي، انتقلت من الآباء إلى الأبناء، وهي لغة محكية في ثلاث مدن معلولا- والصرخة وجبعدين. وكما ذكرت سعدة سرحان فالآرامية هي لغة الشرق القديمة التي انتشرت في تركيا وإيران، وتوجد صلات وثيقة بين اللغات كالصلة بين الآرامية والعربية، مثل الاشتقاقات من الفعل الثلاثي، أسماء الإشارة والأسماء الموصولة والمفرد والمثنى والجمع المؤنث بالتسمية، الأسماء التي تدل على أعضاء جسم الإنسان وظواهر الطبيعة والخيل والمطر والشمس، مشتركة بين اللغتين حتى بالنسبة لقاعدة الأعداد، تدل جميعها على التطور اللغوي والتداخل حتى وصلنا إلى العصر الحالي.
وتابعت سرحان: لقد استطاع الآراميون إضافة حركة المدّ الصوتي، وبما أنهم كانوا تجار البر فهذا ساعدهم على نشر لغتهم، فانتشرت في المملكة الفارسية وبقيت المراسلات بها، كما انتشرت أيضا في فلسطين “اللهجة الجليلية”، وحالياً تم توثيق كل القصائد والترجمات الموجودة في الإنجيل والتراتيل الدينية، ونطمح لإتمام الترجمة من الآرامية إلى العربية والإنكليزية.

الأرمنية الأكثر توثيقاً

الأمر الهام الذي توصلنا إليه أن اللغة الأرمنية التي اعتدنا وجودها في النشاطات الموسيقية هي أكثر اللغات توثيقاً وحضوراً، وهي ليست من اللغات المهددة بالاندثار كونها متابعة من قبل لجان متخصصة من قبل اللغويين لتفعيل اللغة الأرمنية وتنشيطها في بلاد الشتات، في حين يتكلم الأرمن في أرمينيا وإيران الأرمنية الشرقية. هذا ما أوضحته د. نورا أريسيان وتابعت حديثها عن التداخل بين اللغتين الأرمنية والعربية ببعض المفردات بينهما، لتصل إلى قرابة 700 مفردة، وأضافت نتالي كركيان بأنه تم جمع مواد من اللغة الأرمنية الشرقية والغربية. وأرمني كرابار – هو الأرمني القديم الموجود في بعض النصوص الكنسية والإنجيل- وأضافت: حالياً نجمع المواد المكتوبة والسمعية، وأقوم بتجميع أجزاء الإنجيل “العهد الجديد والعهد القديم” وبعض الكتب الدينية، والتراتيل وقصائد شعراء، إضافة إلى أغان تراثية وشعبية، وأطلس من عهود مختلفة وأساطير وقصص للكبار وروايات وأغنيات وتراتيل لكوميداس الذي جمع التراث الغنائي والموسيقي الأرمني. ومن الممكن أن نضيف شرحاً موجزاً لبعضها لربط هذه اللغات بالمجتمع حيث يجري العمل على تجميع قواعد البيانات لحفظ هذه اللغة.

دحض ادعاءات الصهاينة

وقد ارتبط مشروع توثيق اللغات مع إدراج سلسلة من ورشات العمل، بدأت “باللغة الآرامية تحديات ووقائع” شارك فيها د. محمد محفل، د. عيد مرعي والباحث جورج رزق الله، مع جملة مداخلات من الحاضرين أوضحت الأخطار التي تتعرض لها اللغة الآرامية اليوم. إذ أوضح د. محفل أهميتها التاريخية بقوله: “الآرامية جبّت ما قبلها” وتمت الكتابة بها في الألف الرابع الميلادي. وتابع حديثه عن تطور نوع الخط المستخدم في كتابتها والمأخوذ من النبطية والتدمرية والحضرية، وقد جمعت ما جاء قبلها من لغات وانتشرت في بلاد الشام وجنوب تركيا ووادي النيل، وأشاد د. محفل بالدور الذي يقوم به المعهد في تدريس ونشر الآرامية وتوثيقها كونها لغة السيد المسيح، واللغة التي يسعى الصهاينة في فلسطين للهيمنة عليها، ولابد من دحض ادعاءاتهم بأنها لغة عبرية، وأنهى حديثه بالتأكيد على أهمية اللغة الآرامية، وكذلك اللغة السريانية في نقل وتطوير التراث القديم، وقربها من اللغة العربية التي برأيه ساعدت على نشوئها، وتأتي في سلم اللغات قبلها مباشرة.

وشائج عميقة

أما د. عيد مرعي فتحدث عن التقارب بين اللغات القديمة والصلات التي جمعتها “الآرامية والعربية والسريانية” وعاد إلى اللغة الأكادية كونها اللغة الأقدم، والتي اعتمدت لغة رسمية ولغة المراسلات، ومع مرور الزمن وظهور الآرامية تراجع حضور اللغة الأكادية، وأكد د.مرعي على التداخل بين اللغات القديمة واللغة العربية من حيث المفردات ووجود وشائج عميقة لا يمحوها الزمن.

آرامية معلولا

أما الباحث جورج رزق الله رئيس شعبة اللغة الآرامية في معلولا، ومؤلف كتاب “المدخل إلى اللغة الآرامية في لهجة معلولا المحلية” المعتمد في تدريس اللغة الآرامية في المعهد العالي للغات فتحدث عن اللغة الآرامية في وضعها الحالي في معلولا، وأوضح بأنه لم يتطرق أحد إلى اللغة السائدة في شوارع معلولا وأزقتها، إذ انحسر عدد المتكلمين بها، إضافة إلى الحرب الشرسة التي تعرضت لها معلولا من قبل الإرهابيين فتهدمت منازلها وأحرقت مكتباتها وهجّر سكانها واستشهد منهم الكثير، وبعيداً عن الحرب شهدت اللغة الآرامية تراجعاً كبيراً نتيجة الهجرة الخارجية والتغريب والزواج من أجنبية، وبسبب التقدم العلمي الكبير الذي قضى على بعض المهن اليدوية والصناعات التقليدية والأنشطة الزراعية مما سبب ضياع الكثير من المفردات التي كانت متداولة، وأشاد رزق الله بالدور الذي يقوم به المعهد لحفظ اللغة الآرامية وترجمة الكتاب المقدس –العهد القديم- إلى آرامية معلولا، وأثنى على الجهود الواضحة للموسيقيين في حفظ التراث اللامادي من خلال تقديم أمسيات دينية وتراثية في الأوبرا.

الإعلام والتراث الآرامي

وعلى هامش الورشة قدمت عدة اقتراحات لإحياء اللغة الآرامية وإشراك الإعلام بأنواعه في نشر اللغة، إضافة إلى توزيع كتيبات مجانية لتعليمها وإقامة دورات تعليمية، كما تمّ اقتراح إضافة حصة تدريسية إلزامية للغة الآرامية لتعليمها في مدارس معلولا، واقترحت د. منيرة فاعور التركيز على نشر التراث اللامادي الآرامي مثل الأغنيات الآرامية في الأماكن العامة والمقاهي في معلولا.

ملده شويكاني

البعث

 

Share This