الجبل العميق: الجرح الأرمني غير القابل للاندمال!

Image processed by CodeCarvings Piczard ### FREE Community Edition ### on 2016-06-19 08:41:11Z |  | Lÿÿÿÿ

 

للمرة الأولى أقرأ كتاباً غير أدبي بهذا الشغف والفضول، “الجبل العميق” عمل كما وصفه مترجمه للعربية الشاعر ميسرة صلاح  الدين “تحفة فنية” ليس فقط لأنه يحتوي علي مادة صحفية استقصائية مكتوبة ببراعة بل لأن كاتبته الصحفية التركية الشهيرة “أجي تملكران” وضعت لمستها الأدبية والإنسانية ليخرج عملها أنيقا وشيقا.
الكتاب مقسم إلي ثلاثة أجزاء قوامه حوارات وشهادات أجرتها الكاتبة مع أطراف عديدة لتتوغل في الروح الأرمنية التي مازالت تعاني من آثارالمذبحة  التي قام بها العثمانيون وبسببها صار الشتات والحزن من نصيب الشعب الأرميني. حيث بدأت رحلتها بالسفر لأرمنيا، فرنسا، إيطاليا وأمريكا. قابلت خلالها مواطنين أرمن من كافة المستويات الثقافية والاجتماعية.
“إنني لن أتلاعب بالكلمات، ولن أحرفَ الحقيقة. سأسردها كما هي. إن المذبحة التي تنتحبين عليها ماهي إلا نقطةُ البدايةِ في تاريخ بلادي حيث أصبح القتل الجماعي أمرًا اعتياديًّا. نعم يا أختي، لقد كان ذلك في صيف 1915 عندما بدأت بذور الموت المخبأة تنبت، وبدأ أجدادُك وجداتك في الهجرة خارج الوطن وتفرقوا في البلاد. لقد حمل قومُك قتلاهم علي الأكتاف لمسافات طويلة قبل أن يستقروا في أراضٍ بعيدة، ويصبح الألمُ هو العمودَ الذي يرفع سقفَ منازلكم والذي تلتصقون به، وأصبح همُّ آبائك هو الحفاظَ علي هذا الجُرحِ الذي حرص الآخرون علي طمسه، وكلما حاولوا طمسَهُ أكثر كلما التصقتم به أكثر. لقد كان خوفُ قومي من فقد بلادهم هو السبب في حدوث حالة فقدانِ ذاكرةٍ اختياري. هذا هو ما قيل لنا نحن أيضاً.”

درست الكاتبة في مدرسة اسمها ” التاسع من سبتمبر الابتدائية” كما يقام احتفال سنوي في مثل هذا اليوم يعلمون فيه الأطفال جملة ” تم صب الخائن في البحر”، في إشارة للمذبحة التركية ضد الأرمن. هناك إشارات عديدة في الكتاب علي زرع أفكار في نفوس الأطفال جعلت روح الكراهية تكبر رغم السنوات التي مرت علي تلك الحادثة. بين شعور بالفخر لدي الأتراك  وإحساس بالقهر لدي الأرمن.. يعيش أطفال بلدتين متجاورتين. “جميعنا، كل أطفال العالم ،نتلقن منذ صغرنا قصةً تُعَرِّفُنَا إلي أي نوع من أنواع الحزن ننتمي.”

استلهمت الكاتبة من التراث الشعبي الأرميني بعض الأفكار، مثل سبب اعتبار الرمان فاكهة مميزة، “الرمان له دلالة مهمة جدًا بالنسبة للأرمن، فهم يلقون ثمارَ الرمان تحت أقدام العروس كرمز للخصوبة، ويعتقدون أن عددَ البذور التي تسقط خارج الثمرة يمثل عددَ الأطفال الذين ستنجبهم”. فنجدها تحاول الوصول لبعد إنساني فطري” لماذا يمثل الرمان كل هذه الأهمية للأرمن؟ ربما لأنهم انفرطوا حول العالم كحبوب الرمان، ربما لأن بقاءَهم علي قيد الحياة يعتمد علي الخصوبة والتكاثر اللذين تمثلهما هذه الفاكهة الأسطورية؟”
ومثلما ارتبط الرمان في ثقافة الأرمن فإن ارتباطهم بجبل “أرارات” ليس له حدود، فهم ينظرون له من بعيد وينشدون العودة. يعتقد الأرمن أن الأتراك سرقوا أرضهم مثل مدينة “القسطنطينية” التي سماها الأتراك “إستانبول” وجبل “آرارات” الذي يمثل عمق وجدانهم ووجودهم وشعورهم بالوطن والأرض. لذلك فبحسب الكتاب يكره الأرمن كل من يطلق علي “قسطنطينيتهم” “إستانبول”.

لم تستوقفني بعض الآراء السياسية التي جمعتها الكاتبة بقدر شهادة الشاعرة “سيلفيا جابودكيان” ذات الأربعة والثمانين عاما التي حكت عن علاقتها بالشاعر التركي ناظم حكمت “كنت معتادة علي المزاح مع ناظم كلما التقينا قائلة فلتعيدوا لنا “أرضنا” فكان يبتسم ويجيب “بعد الثورة !!”. وعن مدي أهمية جبل أرارات قالت أقدم شاعرات أرمينيا  “أرارات.. أرارات هو جبل لا نستطيع الوصول إليه وكلما ابتعد أكثر رأيناه أجمل. إن قلوبنا تحترق تحت أقدامه” توقفت عن النظر في الكأس أو عبر النافذة وعادت تواجهني بعينيها قائلة “أيتها الشابة،إن أرارات بالنسبة لك هو مجرد مرتفع عن الأرض؛ ولكنه بالنسبة لنا مسألة عمق.”

من خلال شهادات الأرمن علي اختلاف أعمارهم وطبقاتهم فهم ينشدون الاعتراف بالمذبحة الجماعية التي قام بها الأتراك في حق آبائهم وأجدادهم بهدف التطهير العرقي، فالاعتراف سيشفي الجرح ويذهب الحزن عن الشعب الأرمني.
اختتمت “أجي تملكران” كتابها “الجبل العميق مستخدمة جملة قالها صديقها الصحفي “هرانت دينك” الذي اغتيل بسب اهتمامه بالحوار بين تركيا وأرمنيا وكان مقتله السبب الأساسي الذي دفعها للتفكير في هذا الكتاب “لقد كان هرانت علي حق؛ يستطيع الوطن أن يتخلي عنك ولكنك لاتستطيع أن تتخلي عن الوطن. أنت ملتزم بحب وطنك مهما أثقل قلبك بالجراح.”

صدر كتاب ” الجبل العميق” عام 2010 وعلي الرغم من كونه يناقش قضية حساسة بالنسبة للمجتمع التركي إلا انه لاقي رواجا كبيرا، وتمت ترجمته لعدة لغات منها الإنجليزية وأخيرا صدرت النسخة العربية عن دار صفصافة للنشر والتوزيع بترجمة بديعة للشاعر ميسرة صلاح الدين.

نسرين البخشونجي

الحوادث

Share This