قرار ألماني … كأنه أرمني

 199121_193890370642597_6115081_n

كيراكوس قيومجيان

الحياة

“ظهر الحق وزهق الباطل”. هذا ما حدث فعلاً لقضية الأرمن أثناء تصويت «البوند ستاغ» (البرلمان) الألماني بغالبية ساحقة لمصلحة اعتبار ما تعرّض له المواطنون الأرمن على أراضي أجدادهم المحتلة منذ 600 سنة من جانب الإمبراطورية العثمانية في نهايات الحرب العالمية الأولى بأنه إبادة جماعية ضد الإنسانية.

ثار النظام التركي على هذا القرار الذي أحدث صدمة لدى الرئيس رجب طيب اردوغان ووزرائه منذ اليوم الأول للمداولات الألمانية قبل أشهر، وأطلقوا التهديد تلو الآخر بتعريض العلاقات التركية الألمانية للخطر وإلحاق أضرار اقتصادية هائلة بها اذا ما أقدمت على ذلك القرار، إلى ان وصل الأمر بتهديدهم لأوروبا بأكملها واحتمال إعادة النظر باتفاقية المهاجرين السوريين التي تم توقيعها أخيراً.

لم تستطع الدولة التركية بجبروتها ولا بملايين الأتراك المقيمين في ألمانيا، ولا الموقع السوبر استراتيجي الذي يمنحهم مزايا وأهمية يومية، (وهو ما قد يكون من سوء حظ العالم الديموقراطي) ان تبدل أو تغير من واقعة الإبادة الأرمنية. كما لم تنفع تهديداتها السابقة والمتعددة لحوالى 22 دولة و40 ولاية أميركية وعشرات البرلمانات المحلية والمدن والمقاطعات المختلفة حول العالم في الحؤول دون اعترافها بالإبادة علناً غير مبالية بالتهديدات التركية التي لم تستطع يوماً وقف رغبة هذه الدول والكيانات باحتضان الحق ونصرته وتنظيف ضمائرها حيال الإنسانية أياً تكن النتائج.
قد يقول بعضهم إن اعتراف ألمانيا بالإبادة له حسابات سياسية أكثر من ايمانها الفعلي بعدالة القضية المنظورة نفسها. وإن ألمانيا وغيرها من الدول اعترفت وخطت هذه الخطوة الجريئة مع معرفتها المسبقة بأنها قد تلعب بالنار، كون تركيا تمسك بكثير من خيوط اللعبة الإقليمية والدولية في المنطقة ولها تأثير في المجريات السياسية والأمنية فيها، وإن هذا القول، لو افترضنا صحته، يصب في مصلحة القضية باعتبار انه لا الدولة الأرمنية، بحجمها الصغير، ولا الشعب الأرمني، بقلة عدده في الشتات، لهما دور مؤثر، سواء من ناحية قوتهم الانتخابية أم على مستوى السياسات او الاقتصادات المتصلة بهذه الدول، ومع ذلك استطاعوا، بفضل نشاطهم غير المحدود، تقديم قضيتهم أمام برلمانات العالم ونيل موافقتها على تسمية الأشياء بأسمائها وليس في شكل محرف مع آخرين وصفوا القضية بمسميات مختلفة وبكونها أحداثاً أليمة حصلت أثناء الحرب، أو نتيجة طبيعية للثورات، إلى آخر التبريرات المصطنعة التي يرددها النظام التركي ومن يدور في فلكه.

يكتسب اعتراف ألمانيا أهمية خاصة، من دون بقية اعتــــرافات 22 دولة أخرى، بسبب كونه صوتاً يحسب على أهل البيت حيث كانت تركيا الحليف الأقرب إلى ألمانـــيا في الحرب العالمية الأولى، وصلاتهما في ما يخص الإستراتيجيات الحربية متبادلة، لذلك يأتي إقرار ألمانيا نفسها وكذلك النمسا الحليف الآخر الذي سبق اعتراف ألمانيا بسنة، كأنه استفتاء وسحب البساط من تحت إقدام تركيا التي لن يكون باستطاعتها من الآن فصــــاعداً الاستمرار بادعاءاتها وتشويه مواقف المؤيدين ولا دعوة المؤرخين إلى النظر في القضية باعتبار أن شهود الإثبات ومن أهل البيت أصبحوا موجودين ولا حاجة لإحضار شهود أخرين للنفي.

يبدو بيان البرلمان الألماني، في صياغته ومضمونه، وكأنه مكتوب بأصابع الشعب الأرمني، من شدة صدقه ومطابقته للواقع وتاريخ هذا الشعب الذي عانى من الظلم على يد العثمانيين الذين أبادوا 1.5 مليون أرمني.

ومن روعة البيان أيضاً أنه تعرض للكثير من المواضيع الإنسانية، فقد شمل أيضاً مناشدات ونصائح عملية للنظام التركي للتصالح مع تاريخه ومواجهته بطريقة حضارية والاقتداء بالكثير من الدول المتحضرة التي كان لها ماض مشابه واعترفت أولاً ثم اعتذرت وقدمت التعويضات المناسبة لأهالي الضحايا، وبهذا أضافت قيمة إنسانية نبيلة أخرى الى خصالها القومية التي تفخر بها جميع الشعوب المتمدنة، وأقربها هي ألمانيا نفسها التي اعترفت في البيان ذاته كحليفة بتقصيرها وعدم مبالاتها بالأحداث التي جرت أمام ناظرها، معتبرة نفسها أن الساكت عن الحق شيطان أخرس، ونصحت بتدريس موضوع الإبادة الأرمنية في المناهج المدرسية لأخذ العبرة وعدم تشجيع التكرار.
لقـــد أنصفــت ألمانيا الأرمن مرتين: في المرة الأولى حيــن برّأت محكمة برلين أحد أبطال الثأر الأرمني الذي اغـتال الرأس المدبر طلعت باشا وزير داخلية حكومة «تركيا الفتاة» المنفي التي دبرت المجازر والهجرة القسرية للشعب الأرمني. ويا لسخرية القدر فقد كانت تبرئته في 2/6/1921. أما المرة الثانية فكانت حين أعلن «البوندستاغ» في 2/6/2016 اعترافه بالإجماع أن الإبادة كانت جماعية ومسبقة التخطيط والتنفيذ.

 

Share This