يرغِن غُتشلِخ: أياد كثيرة وراء الإبادة الأرمنية

Jurgen-Gottshlieh-Book 

يرغِن غُتشلِخ: مساعدة في جريمة إبادة شعب – دور ألمانيا في إبادة الأرمن، 2015.

القارئ يعرف تماماً مقادير العواطف والمحظورات المرتبطة بالحديث في هذا الموضوع، ما قد يعقد من فهم كيفية حديثنا هنا، وكيفية استخدامنا للمصطلحات والتعبيرات والأوصاف والأحداث ذات الصلة. لذا بداية أود تأكيد أني أستخدم المفردات وصفياً وليس للحكم التاريخي أو السياسي، ولا أدين أي طرف أو أبرئه، ولا أتهم أي جهة أو أصرف النظر عنها، وإنما أنقل ما يرد في المؤلف. لكنني في الوقت نفسه، أؤكد أني لا أقبل أي إملاء يمنع البحث في أي موضوع كان، وأجد أن منع مناقشة المحرقة وموضوع الكارثة الإنسانية التي حلت بالأرمن إبان الحرب العالمية الأولى أمر خطير للغاية وسابقة، إن لم تواجه بخطاب علمي، ستفسح في المجال أمام وضع الغرب جداول ممنوعات بحثية إضافية.

لقد اخترت عرض هذا المؤلف، المخصص في موضوع إشكالي، لإبلاغ القارئ باللغة العربية مدى تعقد المادة وارتباطها بمختلف جوانب الحرب العالمية الأولى، وما سبقها من حروب بين العثمانيين من جهة والدول الأوروبية من جهة أخرى.

أي شخص يحترم العلم والبحث العلمي لا يمكنه الرضوخ لابتزاز السياسيين أياً كانوا. ومن هنا من غير الصحيح فصل الحديث في هذا المؤلف عن قرار البندستاغ الألماني عد مأساة الأرمن جريمة بحق الإنسانية. فمن حق أي كان السؤال عن سبب اختيار الحكومة الألمانية هذا الوقت تحديداً لتمرير هكذا قرار. لقد اختير هذا التاريخ بعناية كي يستفز الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إلى أقصى حد، ربما ما يفسح في المجال أمام فكرة تقبل إسقاطه ولو بالقوة، ما يعكس البعد السياسي الجيواستراتيجي للمعضلة. ردّ الرئيس التركي جاء في اتجاه مخالف لما توقعه رجال السياسة في الغرب، على ما نظن، إذ اعتذر للرئيس الروسي عن إسقاط الطائرة الحربية الروسية في الأجواء السورية وقبِل بقية شروط موسكو للصلح. أما إعادة توثيق علاقاته مع دولة العدو الصهيوني، فأيضاً مسألة جيواستراتيجية تهدف إلى كسب اللوبي الصهيوني الأميركي أو تحييده في الصراعات القائمة في المنطقة.

هذا كله يظهر ــ في ظننا ــ البعد السياسي للمأساة الأرمنية، أو سمها ما شئت، وهو تحديداً ما يقرر حدود أي بحث في المسألة، وهذا ينطبق على هذا المؤلف أيضاً. فمن غير الممكن التعامل مع أي كتابات ألمانية عن موضوع بهذه الحساسية، ولا بد من أن نجد ثغرات هنا وهناك تجبر البحث على السير في درب محدد مسبقاً. احترام العلم لا يعني إطلاقاً عدم التعاطف مع الضحايا وحقوقهم وفي مقدمها عدهم شهداء على ما عانوه؛ فهذا تحديداً معنى الشهيد الأصلي.

الكاتب، وهو صحافي مؤسس لصحيفة يسار اليمين (!) واسمها «تاغِستسايتُنغ» TagesZeitung – TAZ، تناول الموضوع اعتماداً على ما توافر له من وثائق في الأرشيفين العثماني في اسطنبول والأرشيف الألماني العائد إلى فترة الحرب العالمية الأولى. ومن النقاط الإيجابية في هذا المؤلف، الذي يحوي أكثر من سبعين مصوراً، أنه يضع المأساة الأرمنية، وغيرها، في الدولة العثمانية، ضمن إطار الحرب العالمية الأولى ومختلف المعارك الكبرى التي سقط ضحيتها عشرات الآلاف، بل مئات الآلاف من البشر، من عسكريين ومدنيين، وفي مقدمتها معركة مضيق الدردنيل التي سقط فيها نحو مئة ألف جندي من طرفي الحرب.

النظرة الشاملة للأحداث في تلك المرحلة، تسهم إلى حد كبير في تحديد مسؤولية كل طرف عما جرى، آخذين في الاعتبار حقيقة أن ألمانيا والدولة العثمانية كانتا متحالفتين في تلك الحرب.

يتناول الكاتب بالبحث دور كل شخصية ألمانية عسكرية ومدنية في المأساة الأرمنية، لكن ضمن إطار ذلك التحالف العسكري، ومنها يُهانس لبسيُس، وباول غراف فُلف مترنيخ تسور غرخت، وآرمين فيغنر، ومكس-إرفِن فُن شُيبنر-رشتر، وفالتر هولشتين وفالتر رسلر وغيرهم.

رتّب المؤلِّف عمله على نحو جعل كل فصل يشبه عرضاً لسيرة كل حدث أو شخص ارتبط اسمه بالأحداث ذات العلاقة، ما يعني إمكانية إعادة ترتيبه على أي نحو آخر. لكن هذا الترتيب، وإن يسهِّل على القارئ التنقل بحرية داخل المؤلف، فله سلبيات منها قطع رواية ما بسبب حصر الحديث فيها بشخص محدد أو بحادثة معينة.

نقطة أخرى مهمة في المؤلف تناوله مسألة محاولة المصالحة بين الطرفين التركي والأرمني التي جرت في الماضي وأدت إلى إبرام اتفاق بينهما، برعاية أميركية وروسية، على تشكيل لجنة تقصي تاريخي، قامت الحكومة الإرمنية بالتوقيع عليها، لكنها لم تعمل على تنفيذها بسبب معارضة شديدة من الجاليات الأرمنية في الخارج.الرعاية الدولية والتدخل الأذري في الاتفاق بسبب النزاع في منطقة ناغورني قره باخ، يظهران على نحو جلي الأبعاد السياسية المحلية والإقليمية للمسألة.

عمل تفصيلي مهم، يلقي الضوء على أحد جوانب صراع اللصوص العسكري المسماة الحرب العالمية الأولى، جانب بقي مهملاً قصداً لفترة طويلة.

مع ذلك، فالأبحاث العلمية في الموضوع لا بد من أن تستمر خصوصاً مع الكشف عن المزيد من الوثائق ذات العلاقة، بعيداً من الحساسيات والعواطف، المفهومة طبعاً، لكن غير المفيدة للوصول إلى إجابات مقنعة عن كثير من الأسئلة.

Jügen Gottschlich, Beihilfe zum Völkermord: deutschands rolle bei der vernichtung der armenier. Ch. Links Verlag, Berlin 2015. 314 Seiten.

زياد منى

صحيفة الأخبار اللبنانية

Share This