مدينة كارين الأرمنية

قاليقلا - Copy

كانت كارين الأرمنية ( قاليقلا بالعربية وثيودوسيوبوليس باليونانية-المترجم) مدينة ذات أهمية استثنائية للخلافة العربية لكونها قاعدة عسكرية متقدمة.

جرى صراع بيزنطي-عربي استمر قرناً تقريباً على بعض الجبهات في آسيا الصغرى وكيليكيا وسواها من المناطق. والأهم من ذلك أن آسيا الصغرى كانت مقسًمة إلى قسمين: الحدود الدفاعية السورية والجزيرة أو مناطق ما بين النهرين العليا.

كانت المنطقة الثالثة، المحاذية لحدود الجزيرة وتحديداً مناطق أرمينيا الغربية إلى جانب كاماخ وخربوط (حصن زياد)، أهم نقاطها. وكانت أرمينيا العليا ومقاطعاتها في أرمينيا الرابعة قد تشكلت في القرن 10م.

لم تتبدّل الحدود بين الدولتين بشكل جذري حتى عام 867م، أي تاريخ صعود العائلة الأرمنية المقدونية على عرش بيزنطة (تبوأت هذه العائلة الأرمنية عرش الإمبراطورية البيزنطية مدة 190 سنة بدون انقطاع، راجع موسوعة “قصة الحضارة” لويل ديورانت-المترجم). كان العرب هم المبادرون في الضغط على البيزنطيين بشن هجمات غير متقطّعة على مناطق آسيا الصغرى . فقام  باسيل الأول 867-886م بحملة ناجحة على جبهة الجزيرة وسوريا ودفع الحدود جنوباً وبدأ بدوره يسبب صعوبات للعرب. ظلت الحدود على الجبهة الأرمنية مع ذلك بدون تغيير يذكر حتى منتصف القرن 10م لأن إحياء استقلال أرمينيا في حقبة آشوت الأول كان قد تمّت تسويته بدعم البيزنطيين وتقهقر القوات العربية الواضح في فترة الهيمنة العربية على أرمينيا. ولم تكن هناك مثلاً مناطق محصنة معينة تحت اسم الثغور كما كانت الحال في الجزيرة وسوريا.

كان الحاكم العربي قد وحّد المقاطعات الغربية لـ “أرمينيا العليا” و”أرمينيا الرابعة” إلى جانب تاروبيران ضمن وحدة إدارية تسمى “أرمينيا الرابعة” حيث استوطنت قبائل عربية وشادت حصناً وعزلت أرمينيا عن بيزنطة. وكانت هذه المقاطعات في فترة آشوت الأول، خلا مدينة قاليقلا التي كانت قاعدة الدفاع عن الإسلام (ثغراً)، تشكل المملكة الأرمنية. وكانت هذه المدينة تدخل نظرياً في المملكة الأرمنية في حقبة آشوت الأول وسمبات الأول رغم أن حكامها العرب كانوا يتصرفون باستقلالية في معظم الأحيان. ليست لدينا معلومات وافية سوى عن اثنين من هؤلاء الحكام العرب وهما ذكري وبِشر.

كانت معظم العمليات العسكرية العربية-البيزنطية في فترة آشوت الأول وسمبات الأول تجري على أرض سوريا وبلاد ما بين النهرين لأنه، بعد  قيام المملكة الأرمنية، خُلقت منطقة محايدة تفصل بين القوتين العظميين. لم تتوقف العمليات العسكرية مع ذلك في هذه الحقبة لأن بيزنطة كانت قد قررت الهجوم على الخلافة الضعيفة من جميع الجهات التي كانت لا تزال تحمي نفسها بمساعدة تحصينات منطقة قاليقلا.

استمر العرب بدورهم في إرسال قوات عسكرية إضافية إلى هذه القاعدة كما رأينا سابقاً في رواية المؤرخ الأرمني توماس أردزروني.

تبدّلت الأحوال جذرياً بعد وفاة سمبات الأول عندما انسلخت مقاطعات عديدة في أرمينيا الغربية عن مملكة البقراتونيين وتحولت مرة أخرى إلى مسرح للعمليات الحربية بين العدوين القديمين. جذبت مدينة قاليقلا، ابتداء من هذه الفترة وحتى الاستيلاء عليها من قبل بيزنطة، انتباه الخلفاء الخاص بسبب الهجمات البيزنطية بقيادة يوهانّيس كوركواس على ممتلكاتها التي امتدت حتى مدينة دبيل والتي قاموا باحتلالها سنة 922م . وصل محمد بن نصر إلى قاليقلا من الموصل لتسلّم قيادة الجيش في هذا الوقت تقريباً.

يقدم المؤرخ البيزنطي قسطنطين وصفاً عاماً آخر حول أحداث قاليقلا والمنطقة المحيطة بها في فصل صغير من كتابه De administrando تحت عنوان “الإيبيريون”. واستناداً إلى أقواله حوّل العرب جميع كنائس مقاطعة باسين إلى قلاع في الفترة المبكّرة من حكم الإمبراطور ليو الرابع 882-912م لتحصين دفاعات مدينة كارين- قاليقلا. وكانت النتيجة أن أرسل الإمبراطور البيزنطي جيشاً لهدم هذه التحصينات واجتياح منطقة باسين. قام كاتاكولون ماجيستروس بحملة مدمّرة أخرى على المناطق المجاورة لقاليقلا. وكما نعلم قام كوركواس وشقيقه ثيوفيلوس بحملات مماثلة أيضاً.

من الشيق أن نعلم أن بقراتونيي إيبيريا، الذين كانوا يحكمون Dayk المجاورة، رفضوا بشكل مطلق التعاون مع الحملات العسكرية البيزنطية ضد عرب قاليقلا وAwnik وأنيكون ومنازكرت.

وكان المؤرخ البيزنطي قسطنطين يشكو من هؤلاء ويلعن ” مكرهم ”  لأن الإمبراطورية البيزنطية كانت تفترض أن الإيبيريين سيسلمون لهم مدينةKetzeon  بشكل مؤقت لأنها كانت مركزاً حيوياً في حربهم ضد قاليقلا.

بناء على أقوال المؤرخ البيزنطي كانت 3 مدن في مقاطعتي كارين وباسين تدخل تحت هيمنة العرب وهي كارين وأونيك وماستادون. ويؤكد المؤرخ-الإمبراطور قسطنطين أن الإيبيريين كانوا قد عاهدوه على تقديم العون له في حربه ضد العرب شريطة السماح لهم بالهيمنة على هذه المدن بعد الانتصار في الحرب ومدّ نفوذهم بعيداً حتى ضفاف نهر آراكس. إلا أنه رفض ذلك وأكد على دعم حكمهم في منطقة تايك فقط.

شيد البيزنطيون مدينة في هذه الفترة على الجهة المقابلة لقاليقلا يسميها العرب “حفجيج” لمحاربة القوات العربية. يروي ابن الأثير هذه الأحداث عند ذكره لحملات سيف الدولة عام 940م على أرمينيا مؤكداً على حقيقة تدمير البيزنطيين لهذه المدينة بعد سماعهم باقتراب الأمير الحمداني.

لجأت الإمبراطورية بعد ذلك إلى وسائل حاسمة لإزالة هذه القلاع العربية بإتباع سياسة “الأرض المحروقة”. فدمّر البيزنطيون جميع المدن التي استولوا عليها من العرب تدميراً كاملاً. وبعد دخول مدينة Melitene مثلاً أسر البيزنطيون أميرها أبو حفص وهجّروا جميع سكانها. وكان قَدَر مدينة كارين والقلاع العربية الأخرى مشابهاً. لقد أحدث القائدان جون أرابونيتيس وثيوفيلوس دماراً هائلاً بحرق جميع القرى حول أونيك. وللاستفادة من هذه الفرصة تسلل الإيبيريون إلى هذه القرى وحاولوا الاستيلاء على أونيك. ولكن أمير هذه المدينة أعلن عن خضوعه للبيزنطيين وقدم ابنه رهينة لهم عند شعوره بوضعه اليائس.

حاول القائد البيزنطي كوركواس في هذه الفترة وفي عام 949م تحديداً إعادة احتلال قاليقلا. وعندما استحال عليه ذلك إحتل مدينة ماستادون، وهي إحدى المدن التابعة لأمير قاليقلا، وسلًمها للحاكم Petronas Boilas. وهناك قائد بيزنطي آخر من أصل أرمني يدعى Pancratios (بقْرات) حارب مدينة كارين وطلب من حاكمها تقديم ماستادون له. وعندما أفلح في مسعاه قدم المدينة للعرب. استولى البيزنطيون في النهاية سنة 949م على كارين ودمروها مع المناطق المجاورة لها. واحتل الإيبيريون بدورهم مدينة ماستادون ولم تعارض بيزنطة ذلك.

يقدم لنا المؤرخ الأرمني Asoghik المعاصر وصفاً مقتضباً شيقاً حول احتلال مدينة كارين- قاليقلا قائلاً: “أرسل الإمبراطورـ المؤرخ قسطنطين في عام 398هـ=949م القائد Johannes Tzimiskes، الأرمني الأصل، لمحاربة قاليقلا. وبعد دحره للقوات العربية وهدم أسوار المدينة استولى عليها. وكان يوهانّيس هذا قائداً شجاعاً في 25 من عمره فقط وأحد أفراد عائلة كوركواس الشهيرة وحفيد ثيوفيلوس واشترك في معارك عديدة مع جده وأصبح امبراطور بيزنطة في وقت لاحق”.

يؤكد المؤرخ العربي المسيحي من القرن 11م يحيى بن سعيد من مدينة أنطاكيا على احتلال البيزنطيين لقاليقلا في شهر ربيع الأول عام 338هـ=آب-أيلول سنة 939م ثم انسحبوا عنها بعد تدمير تحصيناتها”.

يروي المؤرخ البيزنطي قسطنطين أن ثيوفيلوس عُين حاكماً على مدينة كارين بعد احتلالها وأصبح هذا الفتح سابقة كي تتوسع بيزنطة شرقاً مما أدى إلى بروز أخطر العواقب على مستقبل أرمينيا البقرادونية.

*ينفرد موقع “أزتاك العربي للشؤون الأرمنية” بنشر كتاب “الإمارات العربية في أرمينيا البقرادونية” للمؤلف المستشرق الدكتور البروفيسور آرام تير-غيفونديان، (الطبعة الثانية المنقحة)، ترجمه عن الإنكليزية: الدكتور ألكسندر كشيشيان، عضو اتحاد الكتاب العرب، رئيس تحرير “كتاب العاديات السنوي للآثار”، صدر الكتاب عن مؤسسة المهندس فاروجان سلاطيان، حلب 2013، وسيتم نشر فصول الكتاب تباعاً (15).

Share This