وشهد حليف من حلفائها.. الأرشيف الألماني يوثق الإبادة الأرمنية على يد الأتراك

2016-636034416244616591-461_resized

ما زال قرار الاعتراف الألماني بالإبادة الأرمنية، يلقى اهتماما بالغا بين صفوف المعنيين بالقضية الأرمنية الذين يرون فى اعتراف الحلفاء بجريمة حليفتهم وثيقة إثبات فى مواجهة الإصرار التركي على الإنكار، فبعد اعتراف البرلمانيين النمساوي والألماني، حلفاء تركيا في الحرب العالمية الأولى، زمن ارتكاب الجريمة، بأن ما اقترفته تركيا فى حق الأرمن هو جريمة إبادة جماعية، يبقى الإنكار التركي لا محل له من الإعراب، خصوصا أن الأرشيف الألماني ذاته خير دليل على حدوث الإبادة.

هذا ما أثبته الدكتور محمد رفعت الإمام، أستاذ التاريخ وعميد كلية الآداب جامعة دمنهور، في سلسة دراسات له عن الإبادة الأرمنية فى الأرشيفات العالمية.

-إلى أى مدى توجد وثائق مهمة فى الأرشيف الألماني توثق لجريمة الإبادة ضد الأرمن؟

عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى فى أول أغسطس 1914، عقدت الدولة العثمانية اتفاقية سرية مع ألمانيا فى 2 أغسطس 1914 اشترط فيها أن يساعد الألمان حزب “الاتحاد والترقي” فى تنفيذ حلم الدولة الطورانية أى تتريك القوقاز وتوحيد العنصر التركي فى الأناضول وإيران وما وراء القوقاز وروسيا وآسيا الوسطي فى دولة تركية، شاملة ذات بنية متجانسة تركز على مفهوم ” القومية الواحدة والشعب الواحد “. وعلى هذا الأساس انضمت الدولة العثمانية إلى ألمانيا والنمسا اعتبارا من نوفمبر 1914، ولذا تعد تقارير الهيئة الدبلوماسية لألمانيا والنمسا فى الدولة العثمانية أدلة دامغة على اقتراف حليفتهما أول “إبادة جنس” جماعية فى القرن العشرين. ولم يقتصر الأمر على التقارير الرسمية وحسب، بل امتد إلى مراسلين صحفيين ورحالة وسائحين وكتاب ألمان أكدوا جميعا ما ورد فى المصادر الرسمية. وأضافوا قصصا إنسانية قلما تهتم بها الدوائر الرسمية.

دعنا نبدأ بالأوراق الرسمية؟

في مراسلات القيادات الألمانية الكبيرة، ثمة إقرارات عن اقتراف حليفتها الدولة العثمانية إبادة بحق الرعايا الأرمن. ففي 12 من سبتمبر 1916، أرسل وزير الخارجية الألماني جون جاجوف، إلى السفير الألماني بالآستانة ميترنيخ، تقريرا جاء فيه ” طريقة معاملة الأرمن المرعبة والشنيعة تستدعي تقديم احتجاج إلى الحكومة التركية وتذكير وتحذير قياداتها بالعواقب الكارثية التي ستتعرض لها الإمبراطورية العثمانية بسبب سياستها المبنية على الإبادة. وفى 25 من سبتمبر 1916، بعث وكيل الخارجية الألمانية زيمرمان، برسالة إلى ميترنيخ، يبلغه بأن الحكومة الألمانية لن تساند “الإجراءات المعادية للأرمن الآن كما كانت تفعل سابقا” ووصف الوكيل هذه الأفعال قائلا: ” لا يمكن تبريرها أو العفو عنها بأى شكل من الأشكال “

وفي 19 مارس 1918 ألقى السكرتير الثاني فى السفارة الألمانية بالآستانة “فون ديم بوزخة ” خطابا أمام البرلمان الألماني جاء فيه ” أن تطبيق وتنفيذ تلك المعايير فى الترحيل تشير بجلاء إلى وجود خطة لإبادة السكان الأرمن “. وفى 3 يونيو 1918، أرسل وزير الخارجية الألماني فون كوهلمان، تقريرا إلى سفارة بلاده بالآستانة والأركان العامة للجيش الألماني، ومما جاء فى هذا التقرير: ” ويستمر الأتراك فى عمليات إبادة الأرمن فى القوقاز، وهم يتجاهلون العهود التى قطعوها على أنفسهم ويتخذون موقفا سلبيا تجاه كل ما يحدث هناك “.

وثمة اعترافات وشهادات مثيرة سجلها القادة الألمان فى مذكراتهم وذكرياتهم. ففى كتاب ” ذكرياتي عن الحرب الكونية الأولى ” للجنرال إريك لودندورف، كتب ما يلي: “نفذ الأتراك باستمرار سياسة سيئة تجاه سكان إمبراطوريتهم. وقد اتبعوا سياسة أخذ كل شىء وعدم تقديم أى شىء..”

وقد قدمت تقارير السفراء الألمان بالآستانة أدلة قاطعة على المخطط الإبادي ضد الأرمن فى الدولة العثمانية. ففي تقارير  يونيو ويوليو 1915، أكد السفير فانجنهايم “حقيقة الإبادة التي تنفذ تحت قناع التهجير ” وكذا لم تتم عمليات تهجير الأرمن القسرية لدواع عسكرية، وأبيد جميع سكان مدينة ديار بكر الأرمن عن طريق التهجير إلى الموصل. ونقل السفير إلى خارجية بلاده تصريحات طلعت بك وزير الداخلية وقوامها أن الحكومة التركية سوف تستغل فرصة اندلاع الحرب لتنظيف تركيا من أعدائها فى الداخل أى جميع المسيحيين. وبذلك سوف تتمكن من منع تدخل القوى الأوروبية فى شئونها الداخلية مستقبلا، وأكد السفير أن الطريقة التى تقوم بها الحكومة التركية لإعادة إسكان المهاجرين تؤكد” أنها تهدف بعزم على محو العرق الأرمينى فى تركيا “.

وفى 16 مارس 1916 كتب ” ميترنيخ” لخارجية بلاده مبينا أن السلطات العثمانية أوشكت على إنجاز المراحل النهائية لإبادة بقية المهاجرين، وأكد أن الأتراك يبذلون قصارى جهدهم للانتهاء من ” إبادة الأرمن ” قبل الشروع فى هدنة.

بعيدا عن المكاتبات الرسمية…ما الوثائق الأخرى التى تؤرخ للإبادة؟

هناك شهادات الأطباء العسكريين الألمان العاملين فى الجيش العثمانى، ومنها ما كتبه الرائد الطبيب سخاخت فى 16 نوفمبر 1915، قائلا ” لا تطاوعنى الكلمات ولا أجد الصيغة المناسبة التقريبية لتوضيح حقيقة وحجم هذه التعاسة الإنسانية لأنها فى الواقع مشاهد لا يمكن وصفها أبدا ” وفى كتابه “الصاعقة مقاتلون ألمان فى الأراضي المقدسة ” وصف الميجور جنرال الطبيب ستيوبر ما أسماه “إبادة الصناعيين الأرمن “بسبب حقد الأتراك المتراكم ضدهم، ولذلك أطلق الأتراك العنان ومارسوا الأعمال البربرية نحوهم التى أدت إلى مذابح جماعية. وأشار بالتفصيل الدقيق إلى ذبح مئات عديدة من الرجال خارج المدينة واختفاء النساء والأطفال والحريم.

وفى مؤلف “التاريخ الأخلاقى للحرب العالمية الأولى ” وصف الدكتور الألماني أندرياس جاسبار عمليات اغتصاب الفتيات والنساء الأرمينيات بشكل جماعى فى صحاري ما بين النهرين على مقربة من معسكر الجنود والضباط قائلا ” كانت تسمع أصوات جهنمية فى تلك الليالي الحالكة. لم يتمكن الجنود والضباط الألمان من النوم بسبب آلام وزعيق النساء والفتيات اللواتي كن يغتصبن. وفى الصباح التالي كنت شاهدا على مشهد فظيع مرعب، إذ رأيت رقاب جميع الضحايا وقد قطعت بالسيف.

كذلك هناك التقارير الصحفية، ومنها ما كتبه فون تيزكا الذي أماط اللثام عن الدور المحور لـ” الجتا” وهم المجرمون الذين أخلت الآستانة سبيلهم من السجون وجندتهم بمثابة “فرق قتل “.

كما ذكر سائح ألمانى زار الدولة العثمانية 1915، وقائع فظيعة ومنها ما ذكره عن الجثث الأرمينية التى كانت تطفو ضد تيار نهر الفرات وكل خمس أو ثمان منها مربوطة بأذرع بعضها وجثث أخرى كل اثنتين منها مربوطتان بظهريهما.

وهل هناك فى الأرشيف الألمانى إحصاء دقيق لعدد الأرمن الذين ابيدوا خلال الحرب العالمية الأولى؟

تعد مسألة تحديد العدد الحقيقي لضحايا الإبادة أمرا صعبا للغاية فى ظل ضبابية المصادر العثمانية وتضارب تصريحات القيادات الاتحادية وتناقضها ولتحديد حجم الخسائر البشرية الأرمينية لم يكن أمام الموظفين الرسميين والخبراء الألمان من خيار سوى الاهتماد على تقييماتهم التى توصولا إليها عن طريق تقارير وصلت إليهم وإحصاءات قاموا بإعدادها. وقد جاءت أدق الإحصاءات من قبل السفير الألمانى بالآستانة “ميترنيخ” حيث جاء الإحصاء مبنيا على دراسة جماعية واسعة بناء على تكليف من وزير الخارجية الألمانى زيمرمان شريطة الحفاظ على مبدأ سياسة ألمانيا عدم التدخل فى الشئون الداخلية التركية خصوصا عند مناقشة هذا التقرير فى البرلمان الألماني.

وقد ذكر السفير الألمانى فى التقرير أن ” عدد الأرمن فى تركيا قبل الحرب العالمية الأولى كان مليونى نسمة ” وأردف بالقول ” إن أعدادا كبيرة منهم قد اعتنقت الإسلام لتنجو من المذابح “، وحسب تحليلاته ” لم يكن هذا بدافع نجاة الأرمن من الموت أو بدافع التعصب الدينى للأتراك، إذ كانت غاية الأتراك من هذا القضاء على الشعور القومى للأرمن الذي يعد عامل وجود ديمومة أى شعب “.

بالإضافة إلى هذا التقرير توجد شهادات متفرقة حول عدد من أبيدوا فى المذابح،.وفى تقرير هوفمان قنصل ألمانيا فى الإسكندرية المؤرخ يوم 18 نوفمبر 1915 والذي قدر عدد الأرمن فى تركيا بمليونى نسمة، وأشار إلى أن أغلبيتهم صناع وعمال مهرة ومزارعون وفلاحون فى الولايات الشرقية. وفى 20 ديسمبر قدر قنصل ألمانيا فى حلب عدد الأرمن فى الدولة العثمانية بمليونين ونصف المليون نسمة.

وبخلاف الأعداد التى قدمتها القنوات الدبلوماسية الألمانية، ثمة أعداد طرحتها مصادر ألمانية أخرى، فقد ذكر الدكتور الألمانى جاسبار أنه قد سقط فى تلك المذابح الجماعية نحو 1.2 مليون ضحية.

كما قدر هوجا جدورثي، الشهير بميوله للأتراك ولمساعيه المستمرة لتوثيق العلاقات التركية ـ الألمانية عدد الأرمن بمليون ونصف المليون نسمة فى الولايات الأرمينية التى شهدت “عمليات المذابح”. وفى كتاب “أرمينيا وألمانيا ” للدكتور كارل روس، دراسة إحصائية عن سكان تركيا العثمانية جاء فيها أن عدد الأرمن يتراوح بين 2 – 2.5 مليون نسمة. والمعروف أن مؤلف الكتاب كان نقيبا فى الجيش العثمانى زمن الحرب العالمية الأولى.

وفيما يتعلق بعدم مصداقية الأعداد التى قدمها الأتراك الاتحاديون إلى حلفائهم الألمان بشأن الضحايا الأرمن، كتب ريختر القنصل الألماني فى أرضروم تقريرا يوم 5 أغسطس 1915 عن قوافل الأرمن المهجرين من هذه الولاية. وفى هذا الصدد يقول:” إنه من أصل قافلة تألفت من 500 مهجر خرجت من أرضروم فى اتجاه خربوط والرها يوم 16 يونيو 1915، اعترفت الحكومة العثمانية بمقتل 14 رجلا فقط.بينما أكدت مصادري على قتل جميع أفراد القافلة. وبناء على هذا انتقد القنصل الألماني الرقم الإجمالى لضحايا الأرمن فى أرضروم الذي أعلنته الآستانة وهو من 3-4 آلاف فقط، هذا يؤكد أن العدد أكبر من أربعة أضعاف هذا العدد.

سهير عبد الحميد

الأهرام العربي

Share This