مذابح الأرمن وقصة خيانة أوباما لأتاتورك

يبدو أن الصدام العلني وليس التحالف الوثيق أصبح هو سيد الموقف في العلاقات بين تركيا وأمريكا لدرجة دفعت البعض لإطلاق الرصاصة الأخيرة على مشروع مؤسس الدولة العلمانية مصطفى كمال أتاتورك لسلخ تركيا من محيطها الإسلامي والقذف بها في أحضان الغرب. فتصويت لجنة الشئون الخارجية في مجلس النواب الأمريكي في 4 آذار لصالح مشروع قرار يصف مذابح الأرمن بأنها عمليات إبادة جماعية لم يكن أمرا عفويا وإنما كان مخططا له بعناية بالنظر إلى أن الغرب يهدف من إثارة تلك المسألة بين الفينة والأخرى إلى الضغط على الحكومة التركية لتنفيذ أجندته من ناحية وتزوير التاريخ والافتراء على الإسلام من ناحية أخرى.

وكانت لجنة الشئون الخارجية في مجلس النواب الأمريكي اجتمعت على مدى ثلاثة أيام لمناقشة نص حول مذابح الأرمن بين عامي 1915 و1917، واتخذت قرارا في 4 مارس بتأييد 23 صوتاً في مقابل معارضة 22 يصف مذابح الأرمن في عهد العثمانيين بأنها إبادة جماعية. وعلى الفور، قامت تركيا باستدعاء سفيرها في واشنطن احتجاجا على تلك الخطوة، كما حذر رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان من أن القرار الذي زعم أن الدولة العثمانية ارتكبت أعمالا ترقى إلى مستوى “الإبادة الجماعية” ضد الأرمن خلال الحرب العالمية الأولى سيلحق ضررا بالغا بالعلاقات بين تركيا والولايات المتحدة، مؤكدا أن بلاده اتهمت بجريمة لم تقترفها. وفي السياق ذاته، أعلن الرئيس التركي عبد الله جول أن تركيا أحد أهم حلفاء الولايات المتحدة في حلف الناتو لن تكون مسئولة عن العواقب السلبية التي سيتمخض عنها القرار. ويبقى تصريح وزير الخارجية التركي أحمد داود أوجلو هو الأكثر وضوحا في تحميل إدارة أوباما مسئولية ما حدث، حيث حذر من أن تلك الخطوة تضر بجهود المصالحة التركية مع أرمينيا، قائلا :” يثبت تبني القرار أن الإدارة الأمريكية لم تتدخل في شكل كاف لمنعه ونحن منزعجون للغاية من التصويت”.

ويبدو أن هناك ما يدعم صحة وجهة نظر أوجلو ، فمعروف أن اللجنة ذاتها ناقشت نصا مماثلا قبل عامين لم يتمكن من بلوغ مرحلة التصويت بعد أن ضغطت إدارة الرئيس السابق جورج بوش من أجل وقف التصويت عليه، ولذا يتساءل كثيرون عن السر في تغير الموقف الأمريكي خاصة وأن الأمور كانت تسير في اتجاه حل تلك القضية نهائيا بعد أن وقعت تركيا وأرمينيا في تشرين الأول الماضي اتفاقا تاريخيا لتطبيع العلاقات بينهما بعد قرن من العداء.

مؤامرة اللوبي الصهيوني والإجابة على الأرجح لن تخرج عن الانتقام من أنقرة بسبب مواقفها الشجاعة منذ العدوان الأخير على غزة والتي انتقدت خلالها إسرائيل بشدة، الأمر الذي دفع اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة للتحرك بسرعة لمعاقبتها. هذا بالإضافة إلى أن جذور التوتر في علاقات أنقرة وواشنطن تعود إلى 7 سنوات مضت حينما رفضت تركيا فى عام 2003 انتشار نحو 60 ألفاً من الجنود الأمريكيين على أراضيها للمشاركة فى غزو العراق، مقابل عرض أمريكي بتقديم مساعدات اقتصادية لها تصل لنحو 30 ملياراً من الدولارات.

الرفض السابق للإغراءات الأمريكية ما كان ليحدث لولا وجود حكومة ذات جذور إسلامية على رأس السلطة فى تركيا التى طالما عانت لعقود من الفصل التام بين الدين والدولة تنفيذا لمبادىء مؤسس الجمهورية العلمانية كمال أتاتورك، ولذا سرعان ما اتخذت واشنطن عددا من الخطوات الانتقامية من أبرزها قيام مجلس الشيوخ الأمريكي قبل عامين بإقرار مشروع قرار بشأن تقسيم العراق إلى ثلاثة كيانات شيعية وسنية وكردية، وهو أمر لايهدد فقط وحدة العراق وإنما استقرار تركيا أيضا التى تتخوف بشدة من قيام دولة كردية في العراق وبالتالى تشجيع النزعات الانفصالية لمواطنيها من الأكراد.

وفي 11 أكتوبر 2007، ناقشت لجنة الشئون الخارجية بمجلس النواب الأمريكي مشروع قرار يصف عمليات قتل الأرمن خلال الحرب العالمية الأولى على يد أتراك الامبراطورية العثمانية بأنها إبادة جماعية، وفى الشهور الأخيرة، أثارت حكومة رجب طيب أردوجان استياء واشنطن مجددا عندما أعلنت صراحة رفضها استخدام الأراضى التركية لضرب سوريا أو إيران ، بالإضافة إلى انتقادها اللاذع لإسرائيل والذي ظهر بوضوح في منتدى دافوس عام 2009 . وأمام ما سبق، فإن كثيرين يرجحون أن قرار لجنة الشئون الخارجية في مجلس النواب الأمريكي في 4 مارس حول مذابح الأرمن لن يكون الأخير من نوعه حتى وإن عرقلت إدارة أوباما مؤقتا اقراره في الكونجرس بمجلسيه لحاجتها لمساعدة تركيا في تسهيل الانسحاب من العراق.

قصة مذابح الأرمن اتفاق تاريخي بين تركيا وأرمينيا ولعل إلقاء نظرة على قضية مذابح الأرمن وموقف الغرب منها يدعم صحة الفرضية السابقة، فمعروف أن أرمينيا طالما زعمت أن الجيش العثماني قتل بين عامي 1915 و1917 نحو 1.5 مليون أرميني ودمر مئات القري والبلدات لإجبارهم على الرحيل، مشيرة إلى أن الناجين من عمليات القتل فروا إلي سوريا ولبنان وفلسطين والأردن وبعضهم سافر إلى مصر.

وفيما سعت أرمينيا إلى أن تقر تركيا بأن مقتل الأرمن كان إبادة جماعية، إلا أن الحكومات التركية المتتالية رفضت ذلك واعترفت أنقرة فقط بحدوث فظائع لكنها بررتها بكونها وقعت في سياق الحرب ولم تصدر عن نية مبيتة لإبادة المسيحيين الأرمنيين، مؤكدة أن كثيرا من الأتراك المسلمين لاقوا حتفهم إلى جانب الأرمن المسيحيين إثر اندلاع اقتتال عرقى واسع النطاق أثناء انهيار الإمبراطورية العثمانية. وفى مواجهة دعوات أرمينيا لاعتراف دولى بأن عمليات القتل التي تعرض لها الأرمن ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، فإن أنقرة رفضت بشدة تقديم اعتراف بالمسئولية وحذرت الدول الأخرى من الاعتراف بمزاعم أرمينيا ودعت في الوقت ذاته إلى بحث علمى دقيق ومستقل فى تلك الحوادث.

ورغم أن 20 دولة وصفت الأمر بأنه إبادة جماعية، إلا أن هناك دراسات بريطانية أشارت إلى أنه عندما دخل الانجليز إلى اسطنبول محتلين في 13 نوفمبر من عام 1919 أثاروا المسألة الأرمينية واعتقلوا عددا من الأتراك الذين مثلوا أمام محكمة عسكرية بريطانية إلا أنها لم تستطع إصدار أي حكم لعدم وجود أى وثيقة تدينهم. وبالإضافة إلى ماسبق، فإنه فى عام 1985، نشر 69 مؤرخاً أمريكياً من المختصين بالتاريخ العثماني بياناً نفى بشدة مزاعم وقوع أي عملية تطهير عرقي للأرمن من قبل الأتراك العثمانيين. وما يدحض مزاعم أرمينيا أيضا هو رفضها دعوة تركيا لتشكيل لجنة مؤرخين مشتركة لبحث المسألة وذلك بعد أن قام رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوجان فى 15 مارس 2005 بتشكيل لجنة من المؤرخين لجرد كل الأرشيف العثمانى. بل وهناك أيضا دراسات تاريخية تؤكد أنه في القرون الوسطي ، ظهرت دولتان أرمينيتان، واحدة في منطقة القوقاز وهي أرمينيا الحالية وأخري في منطقة كيليكيا الواقعة شمال مدينة حلب علي الحدود بين تركيا وسوريا وقد سقطت هذه الدولة بيد السلاجقة الأتراك بعد احتلالهم لآسيا الصغرى عقب معركة منزيكرت عام 1071 التي انهزم فيها البيزنطيون ومن ثم أصبحت كيليكيا ضمن امبراطورية الأتراك العثمانيين. وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى عام 1914، دخلت تركيا فيها إلي جانب دول الوسط “ألمانيا والنمسا” ضد الحلفاء “فرنسا وبريطانيا وروسيا”، وخلال الحرب دأب الأرمن فى كيليكيا وهم من الأرثوذكس على تزويد روسيا بمعلومات عن الجيوش التركية بعد أن وعدتهم روسيا بمساعدتهم فى بناء دولة مستقلة ولذا قررت الدولة العثمانية ترحليهم خارج أراضيها ولقي الآلاف منهم حينها مصرعهم بسبب الجوع أو المرض.

وأمام ما سبق، فإن أنقرة لن تقبل بأي حال من الأحوال وصف الأمر بالإبادة الجماعية وما يستتبعه من اعتذار وتعويضات ومحاكمات، ولعل هذا ما ظهر واضحا عندما أقدمت تركيا بالفعل على وقف تعاونها العسكرى مع فرنسا بعد إجازة البرلمان الفرنسي في 12 أكتوبر 2006 مشروع قانون يعاقب من يتنكر للمجازر ضد الأرمن بالحبس لمدة سنة وبدفع غرامة مالية تصل إلى 000‚45 يورو، بل ويتوقع البعض أن تلجأ أنقرة للتهديد بمنع الولايات المتحدة من استخدام قاعدة أنجرليك الجوية التركية التى توفر الدعم اللوجيستي للعمليات العسكرية فى العراق وأفغانستان ووقف التدريبات العسكرية المشتركة، في حال لم تعرقل إدارة أوباما القرار الأخير للجنة الشئون الخارجية بمجلس النواب الأمريكي.

والخلاصة أن تركيا دفعت ثمنا فادحا للانسلاخ عن محيطها الإسلامي مقابل إرضاء الغرب، فواشنطن طالما اعتمدت على تركيا كحليف إقليمي رئيسي فى إطار حلف الناتو لتنفيذ مخططاتها فى منطقة الشرق الأوسط، حيث تمثل قاعدة إنجرليك الجوية وغيرها من خطوط الإمدادات أمورا حيوية للقوات الأمريكية فى العراق وأفغانستان، إلا أنه عندما رفعت تركيا راية العصيان تجاهل الغرب خدمات أتاتورك وجاء الانتقام سريعا حيث وصل الأتراك رسالة مفادها أن التحالف مع الإمبراطور لايعني الحماية من مخالبه.

جهان مصطفى

الجزائر تايمز

Share This