“البنك العثماني” لسمير زكي.. حركة القتل والاستعباد..إعادة قراءة للقضية الأرمنية

البنك العثماني

إلى أيّ حدّ يستطيع العالَمُ الروائيُّ أن يصنع تغييرًا في الواقع؟ وهل يمتلك الروائيُّ أدواتٍ تمكّنُه من إحداث تبديلاتٍ عجزَتْ عنها السّياسةُ؟ وإلى أيّ حدّ يتمكّن الكاتبُ من تشيّيد منظومتِه الرّوائيّة الخاصّة التي تكون بديلًا عن العنف؟ ما هي قوّة الأصوات التي تنادي بالحقّ؟ من يصغي لها؟

الصراع بين الخير والشّر صراع أزليّ، قديمٌ قِدم الحياة نفسها، ولقد تجلّى في رواية «البنك العثماني»، للكاتب سمير زكي الصّادرة حديثًا عن دار سائر المشرق، في وجوه متعدّدة، وفي مفاصل عدّة من الرواية، التي تقدّم صورةً للشّر المتأصّل في الذّات الإنسانيّة، ونموذجًا عن السيطرة والاستقواء والاستغلال والاستبداد، في أبشع مظاهره.

من يقرأ النصّ، يرَ كيف يتمدّد الشّرّ ليطال مختلفَ جوانبِ الحياةِ وتفاصيلها، إلّا أنّ الكاتبَ كان مصرًّا على البحثِ عن بذرةِ الخير: أسلم» فاسيلي» الروحَ بعد أن اطمأنَّ إلى نجاحِ مَهمّتِه. وعلى الرّغم من أنّ الكفّةَ كانت راجحةً في الرّوايةِ لصالح حركةِ القتل والاستعباد والإذلال، إلّا أنّ الحقّ انتصر في النّهاية. فهل تكون المصائرُ متشابهةً في العالم الواقعي؟ وإلى أيّ مدى تتقاطع الأمور، وتتداخل؟

الأصوات المتعددة

اللافت في» البنك العثماني» بوليفينيةُ الأصوات، لم يكن هناك راوٍ واحد يتحكّم في دفّة السرد، وكأنّ الكاتبَ أراد أن يبني عالمًا روائيًّا مغايرًا للعالم الواقعي الذي يتحكم فيه طرف واحد قوي (الحاكم العثماني). ترك الروائي للشخصيّات حريةَ القولِ، والحركةِ، والفعل. وهي في معظمها أصواتٌ شبابّيّةٌ تضجّ بالحياة، ما يمنحها قوّةً في وجه سيل الموت، والمجازر التي تُرتكب بحقّ الأرمن. إذًا، يقوم النص الروائي على هذا الصّراع بين حركتين متعارضتين: حركة باتجاه الموت، متمثّلة بالفظائع التي يقوم بها الجيش العثماني بحق الشّعب الأرمني، وحركة ثانية باتجاه الحياة، يمثّلها الشّباب المندفع نحو التّغيير، ويواجه استبداد السّلطة الحاكمة.

ويعكس الخطاب الروائي انقسام الاسكندرانيين من اللاجئين الأرمن: قسم رأى أنّ الرّحمة فوق العدل، وقسم رأى «أنّ الإسلام فوق الجميع، وهؤلاء كفرة الدولة العثمانية». (ص.137) أمّا موقف الحكومة المصرية من الأرمن فقد ظهر على صفحات الجرائد «من قبيل الواجب المطلوب منا لمتبوعتنا صاحبة السّيادة والسّلطة الشّرعيّة على وادي النيل، نرفض اللاجئين الأرمن في مصر» (ص. 147): لقد «ازداد عدد مهاجري فقراء الأرمن في القطر المصري إلى الدرجة التي يخشى منها على وقوف أشغال العمالة الوطنيين المساكين وأذيّة لمحتاجين يتضوّرون جوعًا إذا توقفت حركة أشغالهم جراء مزاحمة غيرهم». (ص.147)

شهوات نجسة

التّاريخ يعيد نفسه، ولكن بأسماء مختلفة، الضحايا أنفسهم من المدنيين. قد يكون الفرق الوحيد أنّ ما يحصل اليوم هو على مرأى، ومسمع من العالم أجمع. تنقل الفضائيّات الحدث مباشرة، بالصّورة والصّوت، توثقه لحظة بلحظة، يوافق العالم على المجازر التي تُرتكَب بحقّ الإنسانيّة.

إلى جانب التّيمة الأساسيّة في الرواية، يقدّم سمير زكي صورًا متنوّعة للمرأة: تمثّل لطيفة نموذج المرأة الضحيّة: أوهمها زياد بحبّه، أقام معها علاقة جنسيّة، وعدها بالزواج بعد تخرّجه. إلا أنّ وعده ذهب أدراج الرياح. اكتشفت إثر تعرّضها لحادث أنّها حامل، فأنقذها صديقها صلاح من الموقف، مدعيًّا أنّه والد الجنين.

أمّا إيرين، فلاجئة أرمنية في الإسكندرية، عانت من ظلم الأرمن والمصريين معًا – وقعت ضحيّة البرنس كاظم (الذي هو صورة عن فضاء السلطة) شاب «سادي لا يهتم سوى بنفسه، يضغط بحذائه الجلديّ على رقاب الناس من أجل إرضاء شهواته النّجسة، وولعه بالتّملّك. وهذه حال الكثير من العائلة المالكة التي على رأسها الخديوي المعظّم، ولا يوجد رقيب أو حسيب». (ص. 171.) هو رمز كل طاغية متكبّر وذو سلطة.

وجسّدت فايزة صورة المرأة الانتهازية: تخلّت عن الفريق الذي كانت تمثّل معه والتحقت بالفريق المنافس، بعد أن عرض عليها دور البطولة. وبذلك يكون الكاتب قد توغّل في شعاب الذّات، طارحًا إشكاليّة الطّموح، المشروع منه وغير المشروع.

أراد سمير زكي من خلال هذا العمل الرّوائي أن يعيد قراءة القضيّة الأرمنيّة، وأن يوقظ الضّمير الإنسانيّ، وأن يتحدّى القوى الظّلاميّة، مهما اختلفت هويّاتها ومسميّاتها، وأن يثبت أنّ الحقّ سيعود إلى أصحابه، مهما طال الزّمن.

 نازك بدير 

السفير

Share This