السلاّريون وأرمينيا

arabic-emirates-in-pakradounian-armenia

بعد احتلال مدينة دبيل ووادي نهر آراكس مرة آخرى سنة 954م حصّن السلاريون هذه المناطق التي برهنت أنها العقبة الرئيسية أمام وحدة الأراضي الأرمنية. وبسبب يقينه الكامل من أهمية دبيل الحاسمة بشكل خاص والمناطق الجنوبية لوادي نهر آراكس بشكل عام على طريق تحقيق تطلعه، خطط آشوت الثالث لاحتلالها منذ الفترة الأولى لولايته لكنه لم يفلح في تحقيق ذلك. وكان السلاريون، الذين يحكمون هذه المناطق الأرمنية، يشكلون تهديداً مستمراً للمملكة الأرمنية. علاوة على ذلك، وبسبب هيمنتهم على بردعة ودبيل، كانوا مصدر خطر للأغبانيين أيضاً. فاضطر ملوك وأمراء أرمينيا وأغبانيا على اتخاذ بعض المبادرات لحماية مناطقهم من هؤلاء. يصمت المؤرخون الأرمن مع الأسف حول علاقات آشوت الثالث مع السلاريين. إلا أن الجغرافي العربي ابن حوقل يقدم بعض العون لبحث المسألة بسبب إشارته إلى لائحة ضريبية.

يؤكد هذا الجغرافي العربي أن وزير مرزبان المدعو أبو القاسم علي بن جعفر وضع جدولاً ضريبياً لعام 344هـ=955-956م حيث ذكر أسماء الإقطاعيين التابعين له ومقدار الجزية المفروضة على كل منهم في القسم الذي يمتُّ بصلة إلى أرمينيا وأغبانيا وآذربيجان. وصلتنا المعلومات التالية حول أرمينيا: أمير ويزور (بالأرمنية Vayots Tsor) وبنو الديراني (أولاد ديرينيك) وبنو سمبات (أولاد سمبات) وأخيراً الأمير سنحاريب (سينيكيريم صاحب حاجين). دفع فاساك بن سمبات أمير ويزور مبلغ 50,000 دنانيراً ذهبياً إلى جانب هدايا ثمينة وهو الأمير الذي أكرهه إبراهيم بن مرزبان على مهاجمة محمد بن شداد قبل بضع سنوات. لذلك نستخلص هنا أن الجزية، التي قدمها الأمير الأرمني، تشمل مقاطعة سيونيك كاملة لا مقاطعته فقط. دفع الأمراء الأردزرونيون (أبناء ديرينيك) أو حفيداه ديرينيك وأبو سهل هامازاسب على الأصح مبلغ 100,000 درهماً فضياً شريطة إلغاء هذه الضريبة بعد 4 سنوات مقابل تسليم ديسم. لم يدفع الأمير سينيكيريم 100,000 درهماً فحسب، بل جلب معه هدايا ثمينة وجياد مطهّمة بمبلغ 50,000 درهماً أيضاً. ومن أغرب الظواهر في هذا الجدول اعتبار الملكين البقراتونيين آشوت الثاني وعباس الأول (ولدي سمبات) تابعين. وإذا تذكرنا أن الإمارة السلاّرية لم تكن قد تأسست بعد في حقبة آشوت الثاني، نستنتج أن المؤلف كان يقصد الأمير عباس الأول الذي، بناء على هذا الجدول، دفع 2,000,000 درهماً سنوياً وخُفِّض هذا المبلغ من بعده إلى 200,000 درهم. ويشير ابن حوقل أن البقراتونيين دفعوا هذا المبلغ كضريبة على مقاطعات أرمينيا الداخلية.

في فقرة أخرى، وعند حديثه حول أرمينيا الداخلية، يؤكد هذا المؤرخ أن دبيل ونشوى (نخجوان) وقاليقلا (كارين) كانت تدخل فيها. وكما جاء لدى المؤرخين الأرمن كانت الوحدة الإدارية، التي تسمى “أرمينيا الداخلية” قد تمّ تشكيلها في المنطقة الشمالية لأرمينيا الكبرى من قبل الإمبراطور البيزنطي موريس بعد معاهدة التقسيم سنة 591م التي لا تتطابق حدودها الإدارية في الواقع مع وصف الجغرافي العربي.

رغم كل ذلك علينا أن نفهم أن تعبير “أرمينيا الداخلية”، الذي ورد في الجدول الضريبي، يعود إلى تلك المناطق من أرمينيا الشمالية التي كانت تحت هيمنة البقراتونيين المباشرة.

لم تُذكر دبيل هنا أنها مدينة تابعة لأنها كانت في الواقع تحت الهيمنة غير المباشرة للسلاّريين بينما لم تكن المناطق، التي جاء ذكرها في الجدول، تابعة لهم لأن أمراءها كانوا يدفعون المبالغ المذكورة كتأمين لعدم اجتياح هؤلاء لمناطقهم. ونؤكد على صحة هذه النظرية لأن المملكة الأرمنية كانت قد توقفت بشكل كامل عن دفع الجزية للخلافة العباسية بعد آشوت الثاني. خلا ذلك من المحتمل أن الجدول الضريبي كان مرآة الأحوال السياسية في حقبة عباس الأول ولا نرى احتمالاً في دفع آشوت الثالث أية جزية رغم إشارة ابن حوقل إلى أولاد آشوت الثاني.

وقعت دبيل مرة أخرى بيد السلاّريين في الفترة الثانية لولاية مرزبان 954-957م لكننا نجهل أسماء الحكام المعيّنين عليها. هناك إشارة جاءت لدى ابن الأثير حول حاكم سلاّري (ضابط لدى مرزبان) كان يحكم بردعة.

من المحتمل كان هناك حاكم في دبيل أيضاً. بعد وفاة مرزبان تأجج الصراع بين شقيقه واهسودان وولده إبراهيم ولا نملك أية معلومات حول مدينة دبيل في هذه الحقبة الزمنية 957-966م. ويعتقد مينورسكي أن إبراهيم كان في المدينة في هذه الفترة.

لكن هذا الإستنتاج مبني على سوء فهم المعلومة التي قدمها ابن مسكويه لأن المؤرخ العربي يؤكد بشكل واضح أن “إبراهيم كان في أرمينيا” في ذلك الوقت. ولمعرفة المقاطعة، التي كان إبراهيم يقطن فيها، علينا أن نتذكر الجملة التي كتبها ابن مسكويه “أن إبراهيم كان عند جستان بن شرمزان الذي كان حاكم مراغا”.

لذلك من الواضح أن المنطقة، التي كان إبراهيم يقيم فيها لم تكن دبيل، بل باسفرجان التي كانت على علاقة وثيقة مع السلاّريين. علاوة على ذلك علينا أن نتذكّر أن مسكويه يستخدم تعبير أرمينيا دائماً للدلالة على باسفرجان، بينما يشير إلى مدينة دبيل بشكل واضح.

من المحتمل أن آشوت الثالث قام بمحاولة أخرى للاستيلاء على دبيل بعد فشل محاولته الأولى سنة 953م. هناك بعض المصادر التي يُشك بمصداقيتها تشير إلى هذا الحدث وهي موجودة في دير الشهيدStepan  الكائن في ماغاراتا قرب نخجوان. تتألف المصادر من وصية لابنة آشوت الثالث السيدة هريبسيمه وصليب محفوظ في متحف الكاثوليكوسية في مدينة إتشميادزين في جمهورية أرمينيا الذي يحمل التاريخ 966م. تؤكد هذه المصادر على حقيقة مجيء آشوت الثالث إلى الدير في ذلك العام بصحبة جيشه لحضور احتفال ديني ومنح أراضٍ واسعة للدير في مقاطعات نخجوان وآذربيجان وOstan. ورغم أصالة هذه الوثائق إلا أنها تُعتبر أصداء بعيدة ومشوهة حول بعض الحقائق التاريخية وخاصة أن هذا التاريخ يتتطابق بشكل غريب مع أحداث الفترة الزمنية التي ذكرناها قبل قليل. لذلك فإن افتقارنا لمصادر موثّقة لا يسمح لنا مع الأسف بجزم حقيقة نشاطات آشوت الثالث في المنطقة الجنوبية لوادي نهر آراكس. وبصرف الطرف عن نشاطات أو نجاحات آشوت الثالث في هذه المنطقة من الوادي تؤكد هذه المصادر على أن دبيل كانت مدينة تابعة للسلاّريين حتى في فترة حكم سمبات الثاني. وعندما هيمن السلاري إبراهيم بن مرزبان على آذربيجان فعام 966م كانت مدينة دبيل “في أرمينيا” وبردعة وكنجاك “في آران” وهي تابعة له أيضاً رغم انفصال المدينتين الأخيرتين عن آذربيجان. وبعد فتحهم لمدينة دبيل أصبح الشداديون أصحاب كنجاك سنة 970م واستولوا على بردعة في تاريخ لاحق.

تقع إمارة كوغتن التي كانت قد تشكلت في عهد الساجيين بين دبيل ووادي نهر آراكس وآذربيجان. وقد حكمها في فترة سمبات الثاني أبو دلف ( A bu  Tlup بالأرمنية) الذي ذُكر لأول مرة من قبل المؤرخ الأرمني أصوغيك أثناء أحداث عام 982 م عندما حثّ أمير قارس موشيغ بقراتوني الأمير السلاّري أبو الهيدجة بن إبراهيم بن مرزبان على مهاجمة ابن شقيقة الملك سمبات الثاني . وقد قام هذا السلاًري بهجوم على بلدة أيرارات وسبب لها خسائر كبيرة لكنه انكسر وأُسر أثناء مواجهة مع أمير كوغتن . وقد استرد الأمير مدينة دبيل , ومن المحتمل نخجوان أيضاً , كغنيمة من هذا السلاّري . وبعد هذه الأحداث طاف أبو الهيدجة وعائلته بعد إخلاء سبيله من الأسر في مناطق أرمينيا العديدة في حالة من العوز الكامل إلى درجة اضطراره على طلب المساعدة من الإمبراطور البيزنطي . ويبدو أنه لم يحصل على أي عون منه وبذلك اضمحلّ حكم السلاّريين في دبيل الذي استمر مدة أربعة عقود.

*ينفرد موقع “أزتاك العربي للشؤون الأرمنية” بنشر كتاب “الإمارات العربية في أرمينيا البقرادونية” للمؤلف المستشرق الدكتور البروفيسور آرام تير-غيفونديان، (الطبعة الثانية المنقحة)، ترجمه عن الإنكليزية: الدكتور ألكسندر كشيشيان، عضو اتحاد الكتاب العرب، رئيس تحرير “كتاب العاديات السنوي للآثار”، صدر الكتاب عن مؤسسة المهندس فاروجان سلاطيان، حلب 2013، وسيتم نشر فصول الكتاب تباعاً (17).

 

Share This