المشمش الأرمني الدفين

8801ee51-1e41-4b4e-9f23-a7882353a8c3 

في «المدينة الوردية» كما يسميها عشاقها وشعراؤها ومجانينها الجميلون، في «يريفان» – دمعة «جبال أرارات» ـ النازفة منذ الأزل.. في تلك المدينة التي ليس لحاراتها أبواب، فهي ترقص منذ ولادة الايقاع والرنين، ولا يحترف أبناؤها إلا فن الابتسامة والندامة.. والعزف على «الدودوك»، وقرع الكؤوس العتيقة على ما أقول شهيد، كان يوماً من مشمش، كيف لا وشجرة المشمش التي كانت عنواناً لإحدى رقصات الأرمن القديمة.. الأرمن أهل الـ khal، (الغناء مع الرقص).. كيف لا وهم على شاكلتها.. صيفيّو الروح على الرغم من شِتاءاتهم القارسة، أُحاديو الإثمار دون إلقاح، سريعو النمو..

كانت شجرة المشمش حاضرةً حضور العمر كلِّه، وتسّاقط جنيًّا على الروح..

يومها اصطحبني رئيس قسم الإخراج ومدرّسه في معهد «يريفان» الحكومي العالي لفنون المسرح والسينما، أستاذي أرشاك مارغاريان حيث كنتُ أسعى في مناكبها عِلماً. اصطحبني لتصوير فيلمه الوثائقي التسجيلي من نمط «بورتريه» عن فنان الشعب الكبير والقامة العصية، العتيقة عتق الصليب الأرمني الحجري خورين أبراهاميان والذي كان قد أبهر المسرح الأرمني ورائحة سينما البلاد الأصيلة، الممثل العظيم والمعلم خوريك.

كان الإعصار الأنيق ذو السنين السبعين يومها يرتدي بلوزته الحمراء وجينزه. شكله وجسده الضخم يوحيان بكل شيء إلا بالشيخوخة. وجهه الحاد لا يكتنف على شيء إلا على طفل شقيّ وحاد الذكاء. كانت جميع زوايا اللقطات وأحجامها التي عَرَض من خلالها، ضيقة عليه بما فيها اللقطة العامة.

عندما انتهى من التصوير، وكان قد لفت نظره أنني «أجنبي» فكلّمني بالروسية عن بلدي ومسقط رأسي فأجبته بالأرمنية، التي كانت لغة دراستي وحياتي. وفي نهاية حديثنا التعارفي سألني فجأةً: «كيف ترى آرارات؟». أجبته: «قمةٌ يندلق من عليها سيلٌ من الكائنات وهي ترقص احتفالاً بالنجاة والحياة»… ضحك وقال: «الحياة ستُريكَ إن كنتَ فناناً أم لا… ستثبتُ لكَ أن الفن يولد مع الإنسان، ولا يأتي بالتعلم.. أجل قد تتعلم أدواته، ولكن إما أن تولد فناناً أو ابحث عن شيء آخر فيها».

ثم سألني وسأل الحاضرين: «ما معنى أن تتعلم الشِّعر»؟ وضحك.. ثم أردف بالعربية: «آهٍ انتفخ صدري»..! صيحة عطيل التي كررها أستاذي النبيل، كيف لا وهو الذي حلَّ على مسارح العالم مؤدياً دور الملك المغربي، حتى أصبح لقبه الـ «mavr» أي «الأسمر الغيور».

أذكر بعد سنة من هذا اللقاء، أنني كنتُ و «عطيل» في القاعة. كان الثلج يهطل من دون ناظمٍ خطي سماوي، حيث كانت نُتفهُ الكبيرة تتجول في الهواء بعشوائية إيقاعية تشبه أفواجاً من العاشقين الباحثين عن قبلة، قبلة مفقودة في السماء. قال لي حينها: «الثلج المستقيم ممل، هذا هو الثلج الحقيقي».

بعد لحظات صدح صوت «خورين أبراهاميان» في أرجاء «يريفان» كلها من مكبّرات دار الأوبرا الوطنية بقصيدة: «أعشق أرمينيا الحلوة… خاصتي»، للشاعر الأرمني الكبير هوفانيس تومانيان.

نظرتُ إليه وقلت متردداً: «مات خوريك»؟ فقال لي بعينٍ قررت دمعة: «غالباً. ومات المعلم».

بالعودة إلى يوم المشمش، وبعد الانتهاء من التصوير في بيت أستاذي أرشاك، توجهت إلى «الجاز بار» في «يريفان» لأحضر وأشارك بالعزف في أمسية «جام سيشن» حيث كان يجتمع هناك أغلب موسيقيّي المدينة، فيعزفون سويةً ارتجالاً وتأليفاً وأشياء من ذاكرة الأوطان.

كنتُ حينها عازفاً على آلة العود في فرقة «armada» لـ «فولك جاز».. أي للجاز المبنيّ على ثيمات من الفولكلور ومن النغم الهوية والمقام الأم. كان لي أيضاً شرف العزف ارتجالاً مع الموسيقي الكبير آرتو تونجبوياجين الرجل ذي اللغة الخاصة، والذي من خلال موسيقاه تُدرك تماماً أن العثماني كان سارقاً فاشلاً، فلقد أخذ ما يطفو من طنجرة اللحم المغلي وأعلنها غذاءً وطنياً، ناسياً البروتين الفعلي. مضحك من سرق الأثواب، مضيفاً عليها الترف العسكري، ناسياً أن الثوب له كتفاه وجسده الذي يُفصَّلُ لأجله. قطع الرؤوس وصلب الأجساد غير مقتنع بأن الروح باقية، بل وشاهدة، وشهادتها موسيقى ومشمش.

آرتو تونجبوياجيان ذلك اللاعب الرشيق مع الطير والهواء وقلق الماء، تلك النغمة العتيقة السلسة السهلة الممتنعة «كوميداسية» الشجن، والذي رثى ويرثي بأنغامها أخاه أونو الذي علّمه الموسيقى، وكان الأخير قد قضى في الحرب.

من لا يعرف أنشودة (pztic zinvor) أو «الجندي الصغير» التي تشبه لغةً تلك المراثي القديمة وتذكّر بحسرة إنانا، وتشبه لحناً أذان بلال الحبشي البكر، حيث لا لحن وكل اللحن كان النداء: «كان لدي أخٌ صغير، ذهب إلى الحرب للذود عن الأرض الحبيبة، مجاناً اشتريتَ حرباً، ومعركتكَ الحقيقية هي تنظيف الماء و الهواء».

رجل يسحب القلب بموسيقاه وجملته الذكية، ينضج مشمش القلب والذاكرة لدى سماعه كل مرة، فكيف وهو يعزف معكَ على طبوله الناطقة، ولا تعرف متى يجمدكَ بأخرى ارتجالية من حنجرته القلقة المشوشة والنبيلة.

في الأمسية ذاتها انبرى شاب أدهش الحضور بمهارته وتقنيته العالية في السكب الموسيقي، كانت يده اليسرى على زند الغيتار تداعب النساء الحاضرات، وتشد آذان الحاضرين؛ حتى ظهر له رجلٌ ستيني عزف مُرتجلاً ضمن نفس الفحوى النغم، لكن بهدوء الخبير وفتنة ذاكرة العشق، دون أي استعراض تقني، لقد أمطر الصالة وقتها تصفيقاً ونشوةً أزاحت غمامة الانبهار بمهارة الشاب.

بعد انتهاء الأمسية ركن العازفون إلى كؤوسهم، ودارت الأحاديث الطوال… كان همي أن أجلس بجانب العازف العجوز (الزبدة)، وفعلاً حصلتُ على ذلك الشرف، وكان المشمش الثالث. جلست بجانيه عندما كان يقول للعازف الشاب بقربه: «كل ما في الأمر أني وجدتُ عبر العُمر ما تبحث عنه الآن بمشاويرك الرشيقة الجميلة على زند الغيتار».

جلستُ بمحاذاة الرجل وتعارفنا، حكينا مطولاً عن الموسيقى، وعن أنه لا يمكن للرنين الأول أن يكون له جنس، وكنتُ أميَل للسمع منه إلى التكلم. روى لي عن صديقه الذي قضى في الحرب أيضاً، وكيف كان يصنع آلة «الدودوك» حيث كان يأخذ خشبة المشمش ويقصُّها حسب القياس النظامي، ثم يدفنها في التراب بعد أن يضع العسل والنبيذ البيتي الحلو والكونياك على أماكن الثقوب التي يُفترض أن تكون، ثم ليتركها لأشهر، فيأتي النمل ليحاول القضم من الخشب الدفين الذي تشرَّب النعمة، فيصنع بدايات الثقوب، ومن ثم لينتشل قطعة الخشب المشمشية ويجري عليها التشذيب الملائم، يغطسها بالكونياك ويتركها للشمس. إنه السحر طبيعة تصنع آلة موسيقية. لعل من أكثر المواقف غرابةً وسفالة..أني لم أحفظ اسم صديقه الشهيد.

كان يوماً من مشمش، عدتُ بعده إلى منزلي ليلاً لأعرف أن محمد الماغوط قد مات. وإذ بمطر غزير مفاجئ يكشط ثلج الشوارع الملوث بآثار السيارات والأقدام، لكنني رأيتها تمطر مشمشاً! طويتُ على صدرٍ كان يوشك على الانفجار، ونملٍ يأكل قصب الفتوة، وظللتُ أردد: ماذا أقول لهم غير ما تقولُ الكمان للعاصفة: محمد الماغوط. ظللتُ أردد حتى غفوت. وما زالت تمطر مشمشاً!

طارق عدوان 

السفير

 

 

Share This