خلاصة كتاب “المذابح في أرمينيا” لفائز الغصين

فائز الغصين

اذا سألت الحكومة التركية عن أسباب قتل رجال الأرمن ونساءهم وأطفالهم وإباحة أعراضهم واستحلال أموالهم أجابت أن هذه الأمة قتلت المسلمين في ولاية وان. وأنه ظهر عندها أسلحة ممنوعة وقنابل منفجرة وعلائم تشكيلات دولة أرمنية، كريات وأمثالها وكل ذلك يدل على أن هذه الأمة لم ترجع عن غيها وأنها عندما تسنح لها الفرص تحدث شغباً وتقتل المسلمين وتستعين بدولة الروس عدوة الدول العثمانية على متبوعتها. هذا ما تقوله الحكومة التركية وانني قد تشبثت الأمر من مصادره وسألت من أهل وان ومن مأموريها الذين كانوا موجودين في ديار بكر، هل قتل الأرمن أحد المسلمين في مدينة وان أو في ملحقاتها؟ فقالوا، كلا بل أن الحكومة أمرت  أهل المدينة أن يفارقوها قبل وصول الروس إليها وقبل أن يحدث شيء أو يقتل شخص ما، ولكن الحكومة طلبت من الأرمن تسليم السلاح فلم يسلموها خوفاً من هجوم الأكراد عليهم وخوفاً من الحكومة. وقد طلبت الحكومة أيضاً أن يسلم زعماء الأرمن ووجهاءهم للحكومة بمقام رهائن، فلم يقبل الأرمن.

كل ذلك كان عندما تقدم الروس نحو مدينة وان وتقربهم منها، وأما في اللحقات، فقد جمعت الحكومة جميع الأرمن وساقتهم للداخل فقتلوا جميعاً، ولم يقتل أحد من مأموري الحكومة ولا من الأكراد ولا من الأتراك.

وأما في ديار بكر، فقد قرأتم في هذا الكتاب بدء المسألة ولم يحدث أمر صغير دع عنك مسائل قتل أو اخلال أمن يخول للحكومة التركية معاملة الأرمن بهذه المعاملة الجائرة الفظيعة.

وأما في اسطنبول فلم نسمع أن الأرمن جاءوا بشيء مخالف للقوانين وأنهم أقدموا على قتل احد إلا رواية ضعيفة عن عشرين فدائي نقلنا قصتهم في كتابنا، ولم يحدث الأرمن أقل حادث لا في ولاية أرضروم ولا في كل من ولايات خربوط وطربزون وسيواس وأطنة وبتليس ولا في لواء موش.

وقد نقلنا مسألة الزيتون ذات بال ومسألة الرها (أورفة) فقد جرت بقصد المدافعة عن أنفسهم اذ أنهم رأوا ما حل بأمتهم فرجحوا الموت على التسليم.

وأما تشكيلات الأرمن وراياتهم وقنابلهم وما شابه ذلك فهذا أمر لو فرضنا أن بعضه صحيح فلا يكون جزاءه اتلاف جميع الأمة الأرمنية رجالاً ونساء وشيوخاً واطفالاً. فهذا المسلمين ثالثا اذ أن الذين ليس لهم علم بحقيقة المسألة سيحملونها على تعصب في الاسلامية والمسلمين.

ويكفينا أن نري لمن يدعي ذلك ما فعله شبان الأتراك الأغرار من المظالم والقتل بحق الاسلام في سوريا والعراق، وقد شنقوا في سوريا أهم رجالها المفكرين بدون ذنب كشكري بك العسلي وعبد الوهاب بك الانكليزي وسليم بك الجزائري والأمير عمر الحسيني وعبد الغني العريسي وشفيق بك المؤيد ورشدي بك الشمعة وعبد الحميد الزهراوي وعبد الكريم الخليل والأمير عارف الشهابي والشيخ أحمد حسن طباره وأكثر من ثلاثين زعيماً أمثالهم.

وقد جئت بهذا الكتاب لأدحض سلفاً ما يقوله المتقولون ويتخرص به المتخرصون على الدين الإسلامي والأمة الإسلامية وأثبت أن ما فعل بالأرمن إنما هو راجع على رجال جمعية الاتحاد والترقي الذين يديرون دفة الدولة التركية، وقد فعلوه تعصباً لجنسيتهم وحسداً منهم ليس إلا. وإن الدين الإسلامي براء من أفعالهم.

علمنا مما تقدم أن الأرمن لم يأتوا بأمور تخوّل للأتراك مجازاتهم بهذا الجزاء الفظيع الذي لم تقدم عليه أمة حتى في القرون المظلمة. فما هو السبب الذي ساق رجال الحكومة التركية على قتل أمة برمتها. وكانوا يقولون أن الأرمن اخوانهم في الوطنية وأنهم هم العضو المهم الذي نمى لشل حكم عبد الحميد الاستبدادي ولاسترداد الدستور العثماني، وهم الذين قالوا أن الأرمن صدقوا الدولة التركية في حرب البلقان وحاربوا مع الأتراك جنباً لجنب، وقد صادق رجال الحكومة التركية ورضوا بتشكيل جمعيات سياسية للأرمن ولم يرضوا ولم يصادقوا بتشكيل جمعيات للأمم الأخرى.

اذا ما هو السبب في هذا الانقلاب الفجائي؟

إن السبب هو أن الاتحاديين كانوا ينفرون من الحكم الاستبدادي قبل اعلان الدستور، وكانوا ينشرون مساوئ الحكم. وذاقوا حلاوة الرئاسة، ووجدوا أن خير واسطة تجعلهم في وسعة من العيش ورفاهية من الحياة، وتمكن الأتراك دون غيرهم من حكم الأمم العثمانية هو الحكم الاستبدادي. وقد فكروا في الأمم العثمانية فلم يجدوا على ظنهم أن أمة من الأمم العثمانية تقدر أن تنكر عليهم الاستبداد وترضى به وتحاربهم كما حاربت عبد الحميد من قبلهم إلا الأمة الأرمنية. وقد رأوا أيضاً أن الأمة الأرمنية أقد استأثرت بالصناعات على جميع الأمم العثمانية. وهي أرقى بعملها وجمعياتها وسيكون بعد ذلك ضباط الجيش من أبناء الأرمن فدهشوا من ذلك وخافوا كثيراً من عاقبة الأمر وعرفوا ما هم عليه من الضعف وأنهم لا يقدرون أن يجاروا الأرمن في ميادين العلم والرقي فلم يجدوا واسطة للخلاص منهم إلا اتلافهم. وقد وجدوا وقت الحرب أحسن فرصة للتخلص منهم، فأقدموا على هذا الأمر الفظيع واجروه بكل وحشية وهو أمر مخالف للشريعة الإسلامية، والنصوص فيه كثيرة والشواهد التاريخية ليست بقليلة.

والآيات المنيفة: »قل تعالوا أتل ما حرم عليكم ربكم أن لا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحسانا … ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق« الانعام.

»ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً…. الخ« الاسراء.

»وعباد الرحمن….. ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلا بالحق …. الخ« الفرقان.

»يا ايها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر… الخ« البقرة.

»ولا تزر وازرة أخرى« الانعام الملائكة.

»إن الذين يكفرون بآيات الله ….. ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم… الخ« آل عمران.

»ومن أجل ذلك كتبنا على بني اسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً… الخ« المائدة.

»وكتبنا عليكم فيها أن النفس بالنفس… الخ« المائدة.

الأحاديث الشريفة حدثنا قيس بن حفص… عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:»أكبر الكبائر الإشراك بالله وقتل النفس« البخاري جزء 8، صفحة 36.

»حدثنا أحمد بن يونس أخبرنا الليث عن نافع أن عبد الله ر. ع. أخبره أن امرأة وجدت في بعض مغاري النبي صلى الله عليه وسلم مقتولة فنهي رسول الله »صلعم« قتل النساء والصبيان« البخاري جزء 4، صفحة 21.

»حدثنا اسحق بن ابراهيم قال:  قلت لأبي أسامة حدثكم عبد الله بن نافع ابن عمر رضي الله عنهما قال وجدت امرأة مقتولة في بعض مغاور رسول الله (صلعم) فنهي رسول الله (صلعم) عن قتل النساء والصبيان«.

»حدثنا …. الخ قال رسول الله (صلعم) أمرتكم أن لا تحرقوا فلاناً وأن النار لا يعذب بها إلا الله.. الخ«.

»حدثنا موسى بن اسماعيل… عن عمر رضي الله عنه قال: واوصيه بذمة الله وذمة رسوله (صلعم) أن يوفي بعدهم وأن يقاتل من وراءهم ولا يكلفوا إلا طاقاتهم«. البخاري جزء 4، صفحة 31.

»ذمة المسلمين واحدة. فمن خفر مسلماً فعليه مثل ذلك«. البخاري جزء 4، صفحة 67.

وقد كتب أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأحد قواده ما يأتي. اذا سرت في جيشك لا  تعنف اصحابك في السير ولا تغضبهم وشاور ذوي الآراء منهم وإذا لقيتم العدو زحفاً فلا تولهم الادبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً للقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله واذا ظفرتم بعدوكم فلا تقتلوا شيخاً ولا امرأة ولا طفلاً ولا تحرقوا زرعاً ولا تذبحوا دابة إلا ما يلزمكم للأكل وستجدون رهباناً في الصوامع ترهبوا الله فدعوهم وما ارتضوا به لأنفسهم ولا تقتلوهم ولا تهدموا جوامعهم والسلام«.

وقد طلب السلطان سليم الأول العثماني من شيخ الإسلام فتوى بإخراج المسيحيين من الرومالي أو يسلموا. فلم يقبل منه لأن هذا الطلب مخالف للشريعة الإسلامية، وقد أمر أيضاً السلطان ابراهيم العثماني بقتل جميع المسيحيين داخل البلاد العثمانية فلم يفلح، ثم عدل أوامره بقتل الافرنج فقط، فلم يقبل شيخ الإسلام في ذلك الحين اذ أن هذا الأمر لا يوافق الشريعة الإسلامية.

(هكذا كان رجال الدولة العثمانية لما كانوا يطبقون حركاتهم على الشريعة الإسلامية الصحيحة).

أبعد هذا كيف يحق لرجال الحكومة التركية في هذا الزمان قتل أمة برمتها رجالاً ونساءً وشيوخاً وشباناً وأطفالاً، وقد دفعوا جميع ما رسمته الحكومة العثمانية عليهم من رسم الميري واعشار وتمتع وبدل نقدي وعسكري غيرها ولم يعصوا في أمر.

فلو فرضنا محالاً أن رجال الأرمن جديرون بأن يقتلوا، فما ذنب النساء والأطفال، وما هو جزاء من قتلهم بغير ذنب وما جزاء من أحرق النفوس البريئة؟

أنني أجد اليوم أن الأمة الإسلامية مضطرة للمدافعة عن نفسها لأنه اذا لم يوضح لأوروبا حقيقة الأمر لعدّ الأوروبيون هذا الفعل نقطة سوداء في تاريخ الإسلام لا يمحوها الدهر.

ومن هذه الآيات والأحاديث والشواهد التاريخية ظهر للملأ أن عمل رجال الحكومة التركية مخالف لأحكام الدين الإسلامي تمام المخالفة وحكومة تدعي أنها حامية الإسلام وحكومة تخالف الشريعة الإسلامية ليست بحكومة إسلامية ولا يحق لها أن  تدعي ذلك.

وعلى المسلمين أن يتبرأوا من هذه الحكومة وأن لا ينقادوا إلى حكومة تدرس الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وتأمر بقتل الأبرياء من النساء والأطفال والشيوخ الذين لا ذنب لهم. وإلا عدوا شركاء بهذه الجناية التي لم يخبر التاريخ عن مثيلها.

وبعد هذا فإنني أوجه كلامي لدول أوروبا وأقول أن الذي شجع الحكومة التركية على هذا العمل هي دول أوروبا نفسها. اذ أنها علمت سوء إدارة الحكومة التركية وأفعالها البربرية في أوقات كثيرة فلم توقفها عندها.

انتهى تبييض هذا الكتاب في 4 ذي القعدة سنة 1334 و3 سبتمبر سنة 1916 في مدينة بومباي (الهند).

 

*مقطتف من كتاب “المذابح في أرمينيا” للمؤلف فائز الغصين، (حلب، 1991). (17)

ورد في كتاب “شهود عيان عن الإبادة الأرمنية في الإمبراطورية العثمانية (مجموعة وثائق) بمناسبة ذكرى مرور مئة سنة على الإبادة الأرمنية (1915-2015)”، إعداد وإشراف ودراسة: البروفيسور الدكتور آرشاك بولاديان، دمشق-2014، حيث ينفرد موقع “أزتاك العربي للشؤون الأرمنية” بنشر مقتطفات منه.

 

Share This