شيخ العشيرة آرام كيكليكيان “سلمان الدربو”

دخل رجل بدوي متوسط القامة مشغل ومنزل مدام سارا. كانت السيدة سارا خياطة ذائعة الصيت في الحسكة، المدينة الصحراوية السورية. وكان أصلها من “هاجن”، وقد التجأت إلى هناك من دير الزور المجاورة. أتى البدوي، سلمان الدربو، شيخ العشيرة الصغيرة، مع زوجتيه لكي تخيط لكل واحدة منهما فستاناً لماعاً جميلاً. وقد اتفق سلمان مسبقاً أن يدفع للخياطة حقها بأن يعطيها سمن الخروف والجبن والقطن. كان هذا الاقتراح ظاهرة عادية بالنسبة للسيدة سارا.

ولطالما كان معظم زبائنها من البدو فكانت تتقاضى أجرها بالمقايضة. ولدى هؤلاء الناس، كلمة “نعم” تعني نعم وكلمة “لا” تعني لا. وعندما يعدون بشيء يأتون بأفضل ما عندهم. وكانت ترسل القسط الأكبر مما تحصل عليه إلى حلب حيث تعيش والدتها فتحول هذه الأخيرة البضائع إلى نقود.

قال سلمان البدوي: – يا ست، خيطي فساتين جميلة لزوجتيّ، ولا تقلقي بشأن الأجر. سأعطيك جرتيّ جبن بدلاً من الجرة الواحدة. أعطيك ما تريدينه من عيني هذه، لا تقلقي. أنا يسمونني “سلمان الدربو”.

لم تتمكن سارا من رفض هذا الاقتراح. وانتقلت فوراً لتأخذ مقاس السيدتين. كانت تكتب بأحرف غير مفهومة بالنسبة إليهما.

وبعد قليل، وشوشت إحداهن زوجها كالطفلة، إنها عطشى.

– الله يحميك ويحمي سيدك وأولادك، أرجوك أن تأتي بطاسة ماء لزوجتي. إنها عطشى، لقد أتينا من الصحراء.

كانت سارا قد خصصت كأساً من النحاس لضيوف أمثالهم. ونادت على ابنتها “مانوشاك” لتملأها وتأتي بها إلى السيدة. كانت “مانوشاك” ملتهية بلعبها فلم تسمع طلب أمها.

(وقالت باللغة الأرمنية – المترجمة) – أين أنتِ أيتها الملعونة يا “مانوش”، أسرعي، لقد جف حلق السيدة. املأي الكأس النحاسية وأحضريها. انتبهي كي لا تسيل على الأرض. يا “مانوش”..

بدأ ذقن سلمان السفلي يرجف. ما هذا الحديث؟ ما هذه اللغة التي تتحدث بها الخياطة مدام سارا؟

  • أين أنت يا “مانوش”، “مانوش” ؟ سوف تختنق وتتفحم السيدات؟ أحضري الجرة، أنا سأملأ الطاسة. سوف تتفجر عينيّ السيدة، تعالي، أسرعي..

    فسأل سلمان: – ما هذه اللغة التي تحدثتِ بها يا ست ؟

  • بأية لغة تريدني أن أتحدث. هذه لغتنا.
  • اعذريني يا ست، والله العظيم ليس شيئاً خطأ ..

    وفي تلك اللحظة، دخلت “مانوش”، فتاة لفحت وجهها شمس الحسكة وبيدها جرة الماء والطاسة.

    سألت سارا: – هذه طاسة مَن يا بنت؟

– إنها طاسة البدويين ..

    بدأ جسم سلمان يرتجف.

  • يا ست، يا ست، هذه اللغة ..

    فقالت سارا : – وماذا ستكون يا حجي؟ إنها لغتنا، اللغة الأرمنية.

    دون أن تنظر حتى إلى وجه الرجل.

  • اللغة الأرمنية، اللغة الأرمنية ؟… وهل بقي أناس يتحدثون باللغة الأرمنية ؟
  • الكثير، بقدر ما تشاء. وكما ترى وتسمع، زوجي أرمني، أولادي أرمن.. أينما ذهبت في العالم فستلتقي بأرمني لا محال ..

    وأخذ رأسه بين يديه وقال: يا الله، يا الله .. الله ، الله …

    سارا التي لم تنظر الى وجه الرجل حتى تلك اللحظة بانتباه، رأت أن الرجل ارتبك واندهش من شدة تأثره. وكانت قطرات دموعه تملأ عيونه..

    ارتبكت زوجتا سلمان، اللتان لم تجرأا على النظر إلى وجهه وعيونه. ماذا حصل لسيدهما سلمان؟

  • هل أنت متأكدة أن اللغة التي تتحدثين بها هي الأرمنية يا ست ؟
  • أستغفر الله، كيف لا أكون متأكدة يا حاج، هذه هي لغة أجدادي الأصلية. بهذه اللغة نتحدث في البيت والكنيسة والمدرسة والسوق..

    فقال سلمان وهو يهز برأسه يميناً ويساراً: – يا الله، يا ربي.. رميتني في زاوية نائية في الصحراء، “مطرح ما مات الكلب”، لم أر أحداً ولا ..

    فقالت سارا: – ماذا حصل لك يا حاج؟ لماذا ارتبكت ..

    وبدأت الزوجتان بالبكاء وهن يضربان على ركبتيهما ويصرخان يا ويلي ، يا ويلي.

    لم تفهم سارا هذا المشهد.

    ما هذا الذي يجري في بيتها.

  • يا مدام، يا ست، أنا أيضاً ، أنا أيضاً ..
  • أنت ماذا يا حاج ؟..
  • أنا أيضاً أرمني، أرمني، أرمني،

    وردد أيضاً بالتركية “أنا أرمني” .

  • أنت ؟… ماذا تقول يا حج ؟ ..
  • نعم، وأنا اسمي آرام .. آرام كيلكيـ…
  • كيكليكيان ؟ … آرام كيكليكيان ؟
  • نعم، الله يرحم أحبابك، كان اسمي آرام كيكليكيان.. يا الله، لماذا لا تعاقب التركي الكافر. كم أنا غبي ؟ كنت أعتقد أنه لا يوجد أرمني على وجه الخليقة. فليأخذ الشيطان روح التركي الذي فعل بنا كذلك. آه، آه..
  • يا حاج، وما هو اسمك الآن ؟
  • سلمان، يا مدام، سلمان الدربو. ولكن سابقاً كانوا يسمونني آرام.
  • يا حج، هل تتذكر من أي مدينة أو قرية أنت؟
  • طبعاً، أنا من “هاجن”. أمي اسمها “يرانوهي” ويدلعونها “يرانيك”. لم تلد الأرض أماً طيبة مثلها.. يا ست، لقد كان جدي قائم مقام “هاجن”.. الله يرحم أمي. من يعلم في أي زاوية من الصحراء ماتت أمي.. فقد ضربوها على رأسها بالبلطة.
  • يا حاج، أمي أيضاً من “هاجن”. والآن تعيش في حلب. كم كان عمرك عندما هُجِّرت من “هاجن” وأخذوكم إلى سفر برلك؟
  • أنا أذكر جيداً، كنت في الثامنة من عمري. الله يحفظك يا ست. كانوا يحتفلون بعيد ميلادي بطنطنة كبيرة. آخر مرة، أطفأت سبع شمعات. كنت ألعب مع صبية بيت (كركياشار) في باحتهم الواسعة تحت شجرة التين. كانت شجرة التين تلك مشهورة جداً. أدعو أن يعاقب الشيطان الشرير الأتراك .

    واكتفت الخياطة المصدومة بكلمة “آمين”.

  • سوف أحضر لك أكثر مما وعدتك يا ست. سأحضر جراراً من الجبن والسمن. وسوف أعطيك نقوداً. كان جدي آغا، كان قائم مقام “هاجن”. وكان اسم خالي “أرشاك”، “أرشاك”..

    مضى “آرام كيكليك” “سلمان الدربو” مع زوجتيه وهو يتأرجح كالسكران من منزل الخياطة.

    وعلى الفور، جلست سارا لتكتب رسالة إلى أمها. كانت متأكدة أن ذلك البدوي له علاقة ما مع صديقة والدتها “يرانوهي”، طبعاً إن كان صادقاً. كتبت سارا إلى أمها ذات الستين عاماً قصة سلمان بكاملها. كانت أمها من “هاجن” أيضاً، فهي ستعرف عائلة كيكليكيان على الأكيد. وأخذت الرسالة إلى البريد في اليوم نفسه.

    * * *

    كانت “يران كايايان” تنتظر في ممر مستشفى “الططري” في بعلبك. كانوا قد أتوا بابنتها الكبرى “ماري” إلى المستشفى لأنها على وشك أن تلد للمرة الثالثة. كان الجميع متأكدين أن “ماري” ستلد توءماً هذه المرة.

    كان ذلك يوم 22 آب 1954.

    كان صهر “يران” “هاكوب بوتشاكجيان” اختصاصياً في الآلات الزراعية. كان قد انتقل إلى القامشلي قبل سنة لكي يعمل، وكان قد أحضر أسرته إلى بعلبك في فصل الصيف للاصطياف حيث يوجد مستشفى جيد يمكن لزوجته أن تلد فيه.

    ذهب “هاكوب” ليجلب بعض الحاجات. فوجد رسالة ملقاة على الأرض أمام باب المنزل مرسلة من حلب إلى حماته “يران”، كان يجهل صاحبة الرسالة. وضع الظرف في جيبه وأسرع إلى المستشفى. استلمت “يران” الرسالة. كانت المرسلة إحدى صديقاتها من “هاجن” وقد استغربت لأن المراسلة لم تكن طريقة التخاطب بينهما. ماذا تحمل هذه الرسالة؟ وفيما كانت ابنتها في أوجاع المخاض، لم تأبه هي بفتح الرسالة. كانت من جهة تواسي ابنتها المتألمة ومن جهة أخرى لم تكن تتمكن من حجب فضولها. لماذا كتبت صديقتها الرسالة؟ وفتحت الرسالة بلا وعي وقرأت فحواها خلسة. أستغفر الله. كانت قد انفصلت عن هذه الدنيا للحظة ولم يتمكن صراخ وبكاء ابنتها من إيقاظها. كانت صديقتها كتبت لها أنه قد تم العثور على ابنها آرام في مدينة الحسكة البعيدة. فالتفاصيل التي كتبتها صديقتها تؤكد أن ابنها، “آراميك” الذي لامثيل له، هو شيخ عشيرة في قرية الحمرا في الحسكة البعيدة. أستغفر الله.

    كانت دموعها تذرف وتتدحرج من على خديها. لم تتمكن من تحديد مكانها، أهي في السماء أم على الأرض.

  • لماذا تبكين يا أمي، هذه ليست الولادة الأولى لابنتك. تشجعي.

    ماذا ستقول “يران” لصهرها. ليس بوسعها تحديد من هي وأين هي.

    حاولت حبس دموعها. حتى أنها حاولت نسيان الرسالة. عليها الآن الاعتناء بابنتها “ماري”، فهي أيضاً كانت خائفة من ولادة التوءم المرتقبة.

    كان صهرها يتمشى أمام باب قاعة الولادة، وقد فقد صبره. والآن “يران” هي أيضاً في قاعة الولادة في حالة انتظار فاقدة صبرها. وقد أمسكت الرسالة بيدها في جيبها، ثم أخرجتها وقرأتها من جديد لأن صبرها نفد. فالمعلومات في الرسالة صحيحة دون شك، فهي ابنة “كارابيد تشاليان” أفندي، والدها قائم مقام “هاجن”. وأخوها اسمه “أرشاك”. تزوجت هي من “هوفانيس كيكليكيان”، وقد أخذوا منها ابنها “آرام” في الثامنة من عمره في مكان ما في الصحراء. هل آرام الغالي عند أسرته وخاله ووالده حي يرزق؟ هل عثر عليه ؟ ما هي صحة معلومات صديقتها؟

    جلست “يران” في قاعة الولادة وذهنها شارد نحو الصحراء. هي “يران” ابنة القائم مقام “تشاليان” وزوجة “هوفانيس” ابن عائلة “كيكليكيان” المعروفة في المدينة. كانت أماً لأسرة سعيدة وزوجها رجل عظيم حنون على أسرته وأب مثالي.

    لقد انقطع خيط عائلة “كيكليكيان” مثله مثل الكثير من العائلات. فقد كان الاتحاديون المتشبهون بالأوروبيين، الذين خلفوا السلطان عبد الحميد، يحاولون حل القضية الأرمنية بوسائل حديثة تنسي الأعمال الوحشية التي نفذها السلطان الذي أسقطوه هم أنفسهم. وقبل التهجير، قاموا بسوق زوج “يران” “هوفانيس” إلى الجيش العثماني لكي ينضم إلى “طابور العمالة” فوراً. كان قد حضن لآخر مرة ابنه “كيفوليك” ثم “آراميك”. كان قد أوصى ابنه البكر بأن يكون رجلاً والعناية بأمه. كان “هوفانيس” وعلى الرغم من إصراره، يعلم جيداً أنه لن يعود أبداً. وهكذا حصل.

    وبعد أقل من سنة، سيقت “يران” على طريق التهجير. ولم ينجِها كونها ابنة قائم مقام، فقد كانوا قد جمدوا القائم مقام. وكان عم “يران” قد غادر قبل التهجير إلى فرنسا للدراسة. و”أرشاك” كذلك غير موجود، سيق هو وولديه وسلفته على طريق التهجير أيضاً. فكانت هذه الطريق قد تحولت إلى قافلة الموت صحراوية.

    كانت قوافل التهجير القسري قد سارت لأشهر طويلة. وقد استطاعت تلك الأشلاء المجتزأة والمغتصبة والمهانة الوصول إلى جوار الصحراء السورية. القافلة غير منتهية، وطوبى للقتلى. وفي أحد الأيام، ويا ليت ذلك اليوم لم ير النور، خطف بعض الصبية المتسكعين ابنها “أراميك” المنهك وأدخلوه داخل سياج من خشب. بدأت “يران” تتسول وتلعن وتهدد. ولكن دون جدوى. ها هو ابنها البكر يُخطف من بين يديها. كانت ضربة الفأس كافية لتطرح المرأة البائسة أرضاً. وقد رأى “أراميك” سقوط أمه على الأرض، إلا أن بكاء وصراخ الصبي لم يفد بشيء، فقد أبعدوه من السياج.

    وبعد عدة ساعات وبمساعدة سلفتها، أخذت “يران” طريق المنفى من جديد ودون انقطاع. وقد وثقت بقيادة سلفتها بوجه وعيون دامية. كان “كيفوليك” يبكي باستمرار وهو يجلس في حضن عمته. إلى متى يتحمل المسكين الجوع والعطش؟ كانت الأم الدامية بالكاد تتبع سلفتها. وأي وجع تتحمله “يران”. الضربة التي تلقتها على رأسها أم اختطاف ابنها أم بكاء طفلها غير المنقطع. وفجأة توقف الولد عن البكاء، أوف، هذا حسن. ولكن، عندما طال سكوت الطفل سألت “يران” سلفتها عن سبب توقف فلذة كبدها عن البكاء.

  • امشي أنتِ يا أختاه. الله يرحمه ويرسل ملاكاً ليحرسه.

    فصرخت “يران” : – أين “كيفوليك” ابني.

  • تركته تحت ظل صخرة، امشي أنتِ، أيتها الأختاه.

    حاولت المرأة الشابة العودة لتأخذ طفلها. وكيف لها أن تعود ؟ عيونها لا ترى الآن. فأقنعتها سلفتها أن تتابع سيرها. يجب ترك الطفل برحمة الله .

    فالأم التي فقدت ولديها في نفس اليوم نسيت الضربة التي تلقتها. أين ستأخذهم هذه الطريق؟ وما الفائدة من الوصول أو السير؟

    وفي تلك الليلة، رأت حلماً بأن الكلاب الليلية تنهش في طفلها “كيفوليك”..

    وصلت القافلة بها إلى العراق. اضطرت “يرانوهي” ابنة عائلة النبلاء “تشاليان” وكنة عائلة “كيكليكيان” العمل مع الباقي. كان ثمة خط حديد بصدد الانشاء من برلين إلى الموصل، فكانت “يران” تنقل وتكسر الأحجار من أجل ذلك الخط الحديدي الضروري جداً. وخلال ثلاثة سنوات، ذابت “يران” الناعمة. وفقدان زوجها وأولادها كان يلاحقها ويقطع أنفاسها، ولكنها بقيت حية وتحملت كل المشقات بشكل غريب.

    بعد أن انتهت الحرب عادت إلى كيليكيا بشكل ما. واستقرت في “أضنا” عوضاً عن “هاجن”. وكانت تأمل على الدوام أن تستعيد آرام، ولكن بلا جدوى. تزوجت من جديد، وهذه المرة من شاب من عائلة “كايايان”. كان زوجها الجديد رجلاً رائعاً إلا أن ذكرى زوجها الأول بقي حياً في ذهنها وفكرها. أنجبت “يران” من زوجها الجديد أولاداً وبنات. وبعد فترة زمنية، انتقلت إلى مدينة “جونيه” في لبنان لتعيش مع عائلتها الجديدة. أكبرهم “ماري” وهي الآن في قاعة الولادة ما زالت تعاني من آلام المخاض. كانت تتألم وتصرخ، أما “يران” فلم يكن بوسعها مساعدة ابنتها، ها قد تجددت أوجاعها الآن.

    كانت تعيش دائماً مع عذابها، لم تستطع نسيان زوجها ولا أولادها صغيري السن. ولكن الأمر مختلف اليوم، فقد كتبت صديقتها من حلب أنه تم العثور على “آراميك” الذي لا مثيل له. إن آلام مخاض ابنتها من جهة وعذاب أحبائها القدامى من جهة أخرى جعلها في وضع غير مفهوم. كانت دموعها تسيل بغزارة على وجنتيها.

  • مبروك يا أمي، مبروك علينا كلنا، ولدت “ماري” توءماً كما كنا نتوقع. ولد وبنت.. لا تبكي، لقد ولدا بخير .. وهما بحالة صحية جيدة، الولد والبنت..
  • هكذا إذاً، ولد “هوفانيس” ابني..

    * * *

    وما إن أكملت ولادة التوءم الأربعين يوماً حتى انطلق “هاكوب بوتشاكجيان” إلى القامشلي. فقد تكدست أعماله وعليه أن يعمل الآن أكثر لكي يتمكن من إطعام عائلته التي تكبر.

    قبل الانخراط في العمل توجه “هاكوب” إلى الحسكة، وبعد أن أخذ المعلومات اللازمة توجه إلى قرية الحمرا. وجد سائق سيارة يأخذه إلى تلك المنطقة “مطرح ما مات الكلب”.

    عثر “هاكوب” على منزل سلمان دون أي صعوبة، أليس هو شيخ العشيرة؟ فوجد هناك كل رجال العشيرة تقريباً. كانوا جالسين على الأرض، يدخنون النارجيلة ويحتسون القهوة المرّة ويتحادثون.

    وعندما رؤوا “هاكوب” نهضوا جميعاً ليرحبوا بـ”ضيف الله”. نظر “هاكوب” إلى الحضور وهو واقف وأشار إلى سلمان قائلاً:

  • لقد أتيت من أجل هذا الرجل.

    لم يفهم الحاضرون شيئاً. كان سلمان يشبه جداً حماة “هاكوب” “يران”. أما “آراميك” السابق بلباسه ومظهره الخارجي وسلوكه فكان بدوياً بحتاً.

    أمضى “هاكوب” تلك الليلة في بيت صهره. وقد وضع شيخ العشيرة سلمان الدربو كل ما يملك أمام صهره الجديد. وقامت بناته وولده الوحيد وزوجتاه بخدمة الضيف، ولكن دون أن يفهموا شيئاً مما يحصل. راقبوا الضيف بكل فضول ولقبّوه بعريسهن. وأي عريس غريب ! دون عقال ولا لباس مناسب..

    وفي الصباح التالي، ودّع “هاكوب” صهره وأسرته. وثم عاد إلى بعلبك بعد أن أتم أعماله في القامشلي ليل نهار في التصليحات اللازمة للآلات الزراعية. وبعدها غادر إلى القامشلي مع حماته وعائلته التي كبرت. وبعد أن اطمأن على استقرار عائلته في البيت، انطلق مع حماته دون أن يضيع الوقت إلى أبعد من الحسكة، إلى قرية الحمرا. وهي عبارة عن قرية تتشكل من بعض البيوت الصغيرة وعدد من الخيم. لم تتحدث “يران” أبداً خلال الرحلة الطويلة. كانت تغمض عينيها وتسرح بأفكار عميقة. كيف ستتخطى الأربعين عاماً. والآن هي ذاهبة لترى وتعلم ماذا ؟ والأكثر من ذلك، أن سفرها في السيارة المريحة عبر الصحراء السورية أحيا فيها ذكريات مريرة للعذاب وأيام التهجير الطويلة والماضية. كم كان عدد الذين لم يصلوا كبيراً، كانوا قد سقطوا على الطريق وفقد أثرهم . وكان ابنها “كيفوليك” قد صار فريسة لوحوش الصحراء، أما “آراميك” فقد اختطف منها. هل هذا الرجل الذي ظهر حديثاً هو حقاً ابنها .. لم تبدد تأكيدات صهرها شكوكها… من هي وأين تذهب، ومن ستقابل أو ماذا ستفعل؟ .. كانت ترغب بالوصول سريعاً لكي تتوضح كل الأمور..

    كان جميع سكان قرية الحمرا كبارهم وصغارهم خارج بيوتهم وخيمهم. فلم يسبق أن زارتهم سيارة. ترجلت “يران” من السيارة فوجدت نفسها محاطة بالبدويات والأطفال والرجال. اقترب منها بدوي متوسط القامة “سلمان” وأخذ يدي المرأة بين يديه القاسيتين وبدأ يذرف دموعه عليهما ويقبلهما..

  • يا مو، يا أمي الغالية. ها أنا بعد أربعين عاماً أنعم الله علينا وجمعنا. الحمد لله. يا مو الغالية “يرانوهي”.. وركع هذا الشيخ ابن الخمسين أمام أمه وقبّل يديها باكياً..

    هذا الرجل الصامت الذي يتمتع باحترام ومحبة قروييه بل وسكان القرى المجاورة، الآن عاد طفلاً أمام هذه “الأفرنجية”. كان يقبّل بلا انقطاع يدي أمه وأكتافها ووجنتاها.

    ولم تسمح “يران” أن يقبّل ابنها الذي صار بدوياً أقدامها..

    وقف القرويون مذهولين، ينظرون إلى شيخ عشيرتهم الصامت والمنطوي والذي يفرض على من حوله الإجلال يبكي كالطفل. هل من أحد رأى دموع شيخ عشيرتهم..

    واصطف القرويون يراقبون شيخ العشيرة سلمان وأمه الجديدة وخاله “هاكوب”. وبدأ سلمان بتعريف أمه على أفراد عائلته.

  • يامو، هذه زوجتي الأولى، وهذه الثانية. زهرة وعائشة زوجتان ممتازتان، دائماً مطيعتان وجاهزتان لخدمتي. اقتربت الزوجتان وقبلتا يدي الحماة. فقبلت “يران” بدورها جبينيهما وقد لفحهما الشمس.

    لو لم يقضي التركي والقدر عليهم لكان آرام الآن، من يدري، طبيباً أو مهندساً في باريس أو بوسطن أو لندن. صحيح أن زوجتي آرام كيكليكيان طيبتين، ولكن وما حاجته لقيادة عشيرة أو زوجتين؟..

  • هذه ابنتي الأولى وهذه الثانية، والأخرى الثالثة.. وهذا ابني الوحيد “خلف”.

    وأين وريث اسم “هوفانيس” الذي لا مثيل له عند “يران”.. “حنا”..

    على الرغم من اندهاشها، استطاعت “يران” أن تقبل احترام وقبلات كناتها وأحفادها ..

    كان سلمان يبقى دائماً واقفاً احتراماً لأمه. اقترب من أمه ولامس بيديه القاسيتين رأسها كي يعثر على الندبة التي تركتها السنين الماضية..

  • ضربوكِ تماماً هنا يامو، أنزلوا ضربة البلطة هنا.. ما زال صوت ضربة الفأس في أذني، يامو المسكينة..

    كانت الندبة ما تزال على رأس “يران” ومخفية تحت شعر رأسها. ولكن في كل مرة كانت “يران” تسّرح شعرها تبحث بأصابعها عن الندبة، وكانت تغدو الصورة مظلمة أمام عينيها، وتعيدها ذكرياتها القديمة إلى الوراء، وترسم أمام عينيها صورة ولديها..

  • من قال إنهم ضربوني يا بني ؟
  • رأيت ذلك من خلف السياج الخشبية، ضربوك بالفأس. فلم أكن أريد الابتعاد عن السياج. سقطتِ على الأرض وأنت تنزفين. بكيتُ كثيراً وصرخت وضغطت على قبضتي وقضمت خشب السياج. فجرّوني قسراً وأبعدوني عن السياج. ظننت أنك هلكتِ يا مو، فليأخذ الشيطان روح الأتراك، يا مو..
  • يا بني، أنا لا أريد أن أثأر، ولكن كيف نغفر للأتراك..
  • ماذا حصل لأخي الصغير يا مو.. أين هو أخي الصغير الوحيد. ماذا حصل له..
  • آخ، آخ، ماذا أقول يا بني ؟ في نفس اليوم الذي أخذوك فقدتُ أخاك الوحيد. في نفس الليلة، قبل أربعين عاماً، أضحى فلذة كبدي فريسة للذئاب والضباع. الله يرحمه.
  • الله يرحمك يا خيّ الصغير.. ورفع سلمان يديه إلى السماء، وثم ضرب على ركبتيه وبكى يفجع بموت أخيه بعد أربعين سنة..

    صرخت زوجتاه: “يا ويلي، يا ويلي” على مرآى من هذا المشهد غير الاعتيادي وضربتا على ركبتيهما وبكين..

  • ووالدي، “هوفانيس” ماذا حلَّ بوالدي، ألا تعلمين..
  • يا بني، مضى “هوفانيس” قبل التهجير، وكانت آخر مرة يمضي فيها ولا يعود..

    وفجع سلمان وأسرته فقدان “هوفانيس كيكليكيان” بطريقة مميزة، بعد أربعين عاماً من الحادثة.. حتى أن سلمان قرأ الفاتحة على روح والده..

    روى آرام-سلمان ما حصل معه، دون أن تطلب والدته ذلك. فقد باعه مختطفوه لتاجر “البالة” مقابل ليرتين. وبقي هناك مدة سنتين. كان يعمل كالعبيد مقابل قطعة خبز جافة وينام على حزم الألبسة القديمة.

    وفي أحد الأيام، حينما كان يفصل آرام الألبسة القديمة وجد في الحزمة معطف والده وبدأ آرام بالبكاء. ما زال يتذكر وجه والده ومعطفه المميز. فكان يلبس ذلك المعطف حينما حضن “هوفانيس” ابنه لآخر مرة.

    رمى المعطف وهرب من بيت معلمه، وبعد أن واجه الكثير من المغامرات وصل إلى مخيمات عشيرة الدربو.. فتبنى شيخ العشيرة آرام لأنه أحبه وسماه سلمان.. على الرغم من أولاده الثلاث إلا أن شيخ العشيرة كان يثق بابنه سلمان الذي تبناه ..

  • الحمد لله يا مو، انظري، لدي زوجتان وأولاد وإبل وخراف. عشيرتي تحبني وتحترمني. الحمد لله، ولكن الله يأخذ روح التركي “الشيطان”..

    كان الذي يقف أمام “يران” ابنها الحقيقي، شيخ عشيرة قرية نائية في الصحراء السورية. لو لم يقضِ عليهم ذلك “الشيطان” لكانت على الأغلب استطاعت أن تتلذذ بمتعة كونها والدة رجل علم مثل الطبيب المشهور هامبارتسوم كيكليكيان ..

  • نعم يا بني، فليعاقب الله بعدل مَن أوصلنا إلى هذا اليوم.

    وفي تلك الليلة، كان العشاء منسفأً ولحم خراف مشوياً ذبحت أمام أقدام “يران”. لم تكن “يران” قد أكلت شيئاً، فقد شبعت من رؤية ابنها.. أما سلمان وخاله “هاكوب” وأبناء العشيرة فقد أكلوا حتى شبعوا ومسحوا صواني المنسف.

    وفي الصباح التالي، ذهب أبناء وأحفاد “يران” كلٌ إلى عمله: في حَلْب الخروف وسقاية الإبل والعمل في الحقول. كانت “يران” في بيت ابنها الشرعي، الملقب بالمسيحي من قبل أبناء العشيرة، لكن المسافة بينما كانت شاسعة. لم تتمكن من استيعاب أن ابنها حُرم من التعليم العالي والثقافة والحضارة.. لو تمتع آرام كيكليكيان بحقه في العيش حياة طبيعية لكان حصل على درجة علمية عالية.. أليس هذا نوعاً آخر من الموت؟ .. ولكن على الأقل ابنها الحقيقي حي يرزق ..

    همس سلمان في أذن أمه: – يا مو، أنا كل يوم أكرر صلاة “أبانا الذي في السماوات” التي كنت قد علمتني إياها، وينادونني “المسيحي”..

    رافقهم سلمان بطلب من “هاكوب” وذهب إلى القامشلي، وتعرف هناك على أخته الجديدة “ماري” وأولادها. لم يكن الفراق عن القرية سهلاً على سلمان.. وقد ملأ السيارة جراراً من الجبن والسمن وكيساً كبيراً من صوف الخروف..

    وقد تم تصوير سلمان وأمه معاً عند مصوّر، فبعد أربعين عاماً من الفراق، تصّورت الأم وابنها جنباً إلى جنب بوجوه متشابهة إلى حد كبير وبملابس مختلفة.

    إلا أن سلمان، كان يشعر كالسمكة التي رُميَت خارج الماء. مدينة القامشلي الريفية كانت تخنقه، فمكانه في الصحراء اللا متناهية…

    قال لـ”هاكوب”: – أنا لا أبدل خروفي بالعالم كله يا صهري. وقد كرر هذه اللازمة عدة مرات.

    وفي الصباح، عاد سلمان إلى قريته، إلى زوجتيه وأولاده وعشيرته. حياته تكمن هناك. وقد وعد في الوقت نفسه صهره وأمه أن يرسل لهم الجبن والسمن والصوف دائماً.

    * * *

    إنه عام 1976: وهرباً من هموم الحرب اللبنانية لبعض الوقت، ذهب حفيد “يران” الذي ولد في بعلبك في نفس اليوم الذي تم العثور على “آرام” ويحمل اسم زوج “يران” الأول “جانو-هوفانيس بوتشاكجيان” إلى سوريا بسيارته ليزور خاله. وبعد أن وصل إلى الحسكة، أعطى السائق بضعة نقود لكي يوصله إلى قرية الحمرا حيث يعيش خاله سلمان الدربو. أحب سلمان حفيد أمه “هوفانيس-جانو” كثيراً. وأبقاه عنده بضعة أيام، واحتفى بابن “أخته” بذبح الخروف والمنسف والنزهة بالإبل الخ. فيما تزوجت بناته، بعضهن في القرية والأخريات في أمكنة بعيدة.. بشكل أو بآخر، كانت البنات فخورات بأصلهن الأرمني. أما ابنه الوحيد “خلف” يبدو أنه لم يكن مرتاحاً كثيراً لأصله الأرمني..

    أصر سلمان بأن يزور ابنته “زرقة” التي تزوجت إلى قرية تبعد بضع عشرات الكيلومترات. لم يتمكن “جانو” من رفض طلب خاله. سعدت “زرقة”، الفتاة ذات الجمال الوحشي، بزيارة حفيد جدتها، فوضعت ما استطاعت على المائدة. كما سعدت بالهدايا الصغيرة التي جلبها “جانو” معه.

    لم يحجب عن انتباه “جانو” كبر سن زوج “زرقة”. تأسف على حظ قريبته. وفي طريق العودة، لم يتمكن “جانو” من حجب فضوله وسأل عن سبب تزويجه “زرقة” من رجل يكبرها بالسن كثيراً…

  • يا ابن أختي، تقبر خالك، يا جان، “زرقة” فتاة رائعة. وحماها صديقي الحميم، كنا قد قسمنا اليمين على تزويج أبنائنا. إيه، هذا هو نصيب ابنتي “زرقة”، ماذا عساني أن أفعل… يا بني، سأضيف شيئاً آخر. صهري هذا، ليس بدوياً.
  • إذاً من هو؟..
  • إنه كردي، والأصح أنه أرمني أصبح كردياً.. يعني صهري أرمني. لذلك، زوَّجته ابنتي “زرقة” بالرغم من سنه الكبير .

    * * *

    روى لي مغامرة “آرام كيكليكيان-سلمان الدربو” ابن أخته “جانو بوتشاكجيان” من زحلة.

من كتاب “شـهادة مدى الحياة”، كيفورك أبيليان،

ترجمة د. نورا أريسيان، 2006، عنجر – لبنان

Share This