شهادة أحمد شوحان من دير الزور

سلسلة شهادات (1)

إن علاقتنا بالأرمن كشعب وأرمينيا كأرض ودولة قديمة لا تكاد تخلو منها صفحة من صفحات التاريخ العربي منذ القرنين الثاني والثالث، حيث بدأت هجرات عربية تنزح من مواطنها في الجزيرة العربية وتتنقل طلباً للماء والكلأ والأمن في الأراضي العربية المتاخمة للدولتين الفارسية الساسانية والرومانية البيزنطية كعادة جميع القبائل العربية منذ غابر الأزمنة السحيقة في القدم، حيث علمنا عن الآشوريين والعموريين والسومريين كثيراً، وجهلنا أخبار من كان قبلهم من الأقوام والقبائل السابقة لهم.

وكانت آخر هذه الهجرات العربية هجرة قبائل ربيعة ومضر وبكر أبناء وائل فسكنت كل واحدة منها في منطقة في الجزيرة الفراتية سميت ديارها باسمها، ديار ربيعة في منطقة الموصل وما حولها الى نهر الفرات جنوباً، وديار مضر في منطقة الرقة وما حولها الى الشمال، وديار بكر بن وائل تجاور ديار ربيعة ومضر من جهة الشمال الى أن  تصل الى مرتفعات جبال طوروس، وهي الحدود الطبيعية للوطن العربي منذ سالف التاريخ حيث قامت حضارات العرب في الجزيرة العربية والعراق والشام، ثم امتدت الهجرات العربية القديمة والمتأخرة الى الشمال الأفريقي لترسم الخارطة العربية شمالاً وغرباً الى المحيط الأطلسي وجنوباً الصحراء الكبرى، ولم يذكر عن هذه القبائل العربية المتاخمة لأرمينية أنها أساءت معها حسن الجوار أو اعتدت عليها في يوم من الأيام.

والذي يهمنا من بحثنا هذا العلاقات العربية الأرمنية، والتي بدأت بالصحابي الذي دخل أرمينيا وأذربيجان فاتحاً وترك في تلك البلاد سيرة حسنة، وكان رمزاً للعفاف وإنصاف المظلوم، فلم يرغم أحداً على اعتناق الإسلام، ولم يقتل أحداً من أهلها ولم يمنعهم من أداء شعائرهم الدينية، أو بناء كنائسهم، وهذا ما جعل بعضهم يبكي عليه حين مات في أرمينية رغم أنه دخل بلادهم فاتحاً ويختلف عنهم في الجنس واللون والدين، ولم يغتصب المسلمون العرب شبراً من أراضي أرمينية ويدّعون أنها أرضاً عربية رغم إقامتهم فيها طويلاً.

أما عن وضع الأرمن والحكومة العثمانية والتهجير القسري الذي عانوا منه كثيراً عام 1915. فله أسباب كثيرة، ودوافع مختلفة أدت في نهاية المطاف الى تمزيق أرمينيا شعباً وأرضاً، وتمزيق الدولة العثمانية شعباً وأرضاً، وتمزيق الأمة التي خضعت للعثمانيين شعباً وأرضاً.

إن الذي نقرؤه في التاريخ العثماني، كأي تاريخ أمة ناهضة، يستدعي الوقوف والأناة قبل إصدار أي حكم بحق القوي تجاه الضعيف، فالانطلاقة العثمانية في أوجها نالت بلاد القفقاس كما نالت أوروبا الشرقية والوطن العربي بكامله، والجيش المنتصر له ما يبرر انتصاره، وعليه ما يسيء الى سمعته وتصرفاته خلال السيطرة والنصر.

ولكننا إذا أردنا أن نمعن النظر في الأوضاع الأرمينية في مطلع القرن العشرين، وأوضاع الدولة العثمانية نجد أن أرمينية استيقظت بعد سبات طويل على طبول عصر النهضة والنداء باستقلال القوميات، ولم تكن أرمينية الدولة الوحيدة من ممتلكات الامبراطورية العثمانية التي كانت تئن أو تشخر وتغط في نوم عميق، فالعرب شاطروها في ذلك ، وجميع دول البلقان كذلك، وجوارها من دول القوقاز.

وما نادى به دعاة القومية من الأرمن نادى به دعاة القومية من العرب، وكذلك نادى به دعاة القوميات المختلفة في البلقان والقوقاز وغيرها من الدول التي لم تخضع للسيطرة العثمانية.

وفي عاصمة الخلافة اسطنبول كان زلزال ينذر بالكارثة، وكان يهود الدونمة يعملون بصمت لهدم الخلافة وتشويه سمعة السلاطين، وتمزيق الدولة الواسعة، وزرع الأحقاد والحساسيات بين الأقليات.

وكانت حرب عالمية قد بدأت ولأول مرة في التاريخ، آلاف الطائرات تقلع من مطاراتها لتدمر شعوباً آمنة، وجيوش تذهب الى سوح القتال فلا يعود منها أحد الى معسكره ليخبر عما وقع بذلك الجيش من كارثة.

ملايين البشر ماتت، آلاف المدن والقرى قصفت، اشتعلت النيران في كل مكان، وكانت الدولة العثمانية قطب الرحى، ومركز تلك الحرب في ثلاث قارات هي أوروبا وآسيا وأفريقيا، وممتلكات الامبراطورية تواجه الضربات الموجعة في تلك القارات الثلاث.

وخلال ذلك كله تشتد مطالبة القوميين بالانفصال عن جسم الدولة العثمانية من أرمن وعرب وبلقان. وقيصر روسيا يعلن عن الامبراطورية العثمانية أنها: الرجل المريض، ويبذل قصارى جهوده للإجهاز على هذا المريض – فيما يزعم – في حرب طاحنة في (القرم).

وفي تلك الظروف ما موقف دولة تكاتفت عليها دول أوروبا العظمى وروسيا من الخارج ، وحركات انفصالية وأحزاب قومية تريد الانفصال عن جسمها، إذ كثر أعداؤها، وكثر الفساد فيها، وكثرت ديونها للدول الكبرى.

لا شيء غير العنف، والقسوة لكبح المناوئين لها في الداخل، ليتسنى لها الأمر لمواجهة جحافل جيوش الأعداء من كل مكان في الخارج، وهذا ما نال دعاة القومية في الدول الكثيرة التي كانت تخضع للعثمانيين.

جمال باشا السفاح أعدم الأرمن وأعدم العرب، ولم يتمكن القوميون العرب من الانتقام منه، فقتله الأرمن في تفليس.

اليد التي امتدت الى العرب بالتنكيل هي نفس اليد التي امتدت الى الأرمن في القتل ، والتهجير القسري. ولو لم تكن بلاد العرب واسعة وهي صاحبة الرسالة الإسلامية التي حملها الأتراك، لفعل الأتراك بالعرب كما فعلوا بالأرمن، أقصد لهجروهم الى بلاد أخرى وحاولوا اجتثاثهم من جذورهم .

هذه التصرفات الخاطئة من متأخري الدولة العثمانية يبرأ الإسلام منها براءة الذئب من دم يوسف، فالإسلام يحقن دماء الـ(مع) و(الضد) في رعايا الدولة الذين يعتبرهم في القانون سواء. فلا يفرق بين عربي وأعجمي وأبيض وأسود. وقد وقف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ويهودي اختلف معه أمام القاضي شريح في دار القضاء.

ولم يذكر التاريخ أن المسلمين حينما دخلوا بلداً فيه يهود أو نصارى أو مجوس أو غيرهم فقتلوهم أو طردوهم من بلادهم أو شنوا عليهم حرب إبادة أو صادروا ممتلكاتهم، ولو فعل قادة المسلمين ذلك ما وصل الإسلام الى ما وصل، ولما خرج عن إطار مكة أو الجزيرة العربية في أحسن الأحوال.

ولذلك قال المفكر والمؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون: ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب المسلمين.

إن الإسلام يحقن الدماء، ولا يريقها ويحافظ على الأعراض فلا يستبيحها.

وإن ما وقع للأرمن من تهجير جماعي قسراً، لا يرضاه الإسلام ولا يقره، ويعتبره وصمة عار في جبين الذين اقترفوه وعملوا من أجله، لأن الإسلام لا ينتقم من ذوي المجرم، ولكنه يعاقب المخطىء بعد نصيحته، ويعمل بقانون العين بالعين (وجزاء سيئة، سيئة مثلها) (ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب) (ولا تزر وازرة وزر أخرى) قد حزن  المسلمون على ما ناله الأرمن من شقاء أكثر مما فرح به المسؤولون الأتراك وشفوا صدورهم.

أما الورقة الأخيرة وهي ذكريات الديريين ومواقفهم تجاه (سوقيات) الأرمن فإن قلمي يعجز عن وصفها ، فقد كانوا يأسفون لما حل بالأرمن رجالاً ونساء وأطفالاً. ويكفي أبناء هذه المنطقة نبلاً وكرامة أنهم أحسنوا لهم رغم أنهم كانوا يعانون ويلات المجاعة التي حلت في وادي الفرات وأنهم كانوا يختطفون كثيراً من الأرمن من بين الجنود لإيوائهم وتهريبهم وتغييبهم عنهم لإنقاذ حيواتهم من الموت الزؤام.

وأذكر أن عشرات بل مئات الفتيات الأرمنيات أصبحن زوجات لرجال ديريين أو فراتيين لا أقول ذلك رغماً عنهن، ولا استباحوهن استباحة، ولا أخذوهن قسراً، ولكن – والله يشهد – وبقية الديرين المعاصرين يذكرون أنهم تزوجوهن على كتاب الله وسنة رسوله، أي زواجاً شرعياً، ولو سألنا أي واحدة لا زالت على قيد الحياة، وهن ندرة الآن، لذكرت كرم الضيافة وحسن المعشر الزوجي الذي لاقته جميع الأرمنيات اللاتي تزوجن من الديريين. بل نجد من ثقة الديريين بالأرمن أنهم يعتبرونهم من أفضل أهل الصنائع، والمجيدين في فن الزراعة، فوثقوا بهم ، وعاملوهم أفضل معاملة، وتركوا في أنفسهم من ذلك كثيراً.

أخيراً …

رأيي الخاص أن أراضي تركيا اليوم لا تمت الى الحقيقة أو الواقع الجغرافي بصلة. إنها لأربعة أجناس بشرية ولكن الأتراك اغتصبوها من أصحابها، إنها للعرب والأرمن والأكراد، وإن الأتراك لهم المناطق الغربية ليس غير، إن صح أن للأتراك أرضاً استوطنوها بعد أن قدموا من الشرق.

وإنني لواثق أن الذين احتلوا لواء الاسكندرونة بالأمس، ولواء كيليكية أول أمس، وديار بكر وما تحتويه من مدن عربية لا تزال تنطق العربية وتحافظ على تقاليدها، هم أنفسهم الذين اجتزؤا جزءاً من أرمينيا وضموه لبلادهم، واحتلوا بلاد الأكراد وجعلوها من ممتلكاتهم.

ترى هل يضيع حق وراءه مطالب؟ إن تركيا العلماينة اليوم إن كانت عاقلة أعادت حقوق الشعوب التي ترزح تحت كابوسها، وتستقر المنطقة بعد ذلك.

وإلا .. فإن الطوفان إذا آن أوانه فإنه سيقتلع الطورانية ويرمي بها من حيث أتت، وستكون خارطة المنطقة غير ما نراه اليوم حتماً.

تلك عجالة أكتبها عن الأرمن وعلاقتنا بهم، وما قابلهم به الديريون أيام السوقيات المؤسفة عام 1915، لا أعادها الله على شعب من الشعوب.

دير الزور 7/11/1999

أحمد شوحان، عضو اتحاد الكتاب العرب، كاتب ومؤرخ من دير الزور

Share This