من مذكراتي عن الثورة العربية.. فائز الغصين…مشاهدات حية عن مذابح الأرمن

armenian-genocide3 

الجزء الأول

فوصلنا لبلدة سروج وهي مركز قضاء بهذا الاسم وقد ذكرها صاحب المقامات بكتابه وقد وجدنا خاناتها تغص بالنساء الارمنيات والأطفال والشيوخ وقليل من الشبان مرسلين من أطراف البلاد العثمانية لسوريا ليقيموا بها…

ولما رأيت عائلات الأرمن في خانات سروج وهي بحالة يرثى لها من الشقاء والتعب والذل بعد العز، وبعد أن كانوا من أنشط العناصر العثمانية يعيشون برفاه وترف ورخاء أصبحوا يقطعون المسافات الشاسعة من أرضروم الى سروج مشياً على الأقدام.

من سروج لأورفة (ومنها إلى سيورك، ذبح الأرمن)

بعد  قليل حضرت المركبتان مع أحد الجند فركبت أنا وعارف أفندي وجنديين في احداهما وركب في الثانية بقية الجنود وخمسة من الأرمن ارسلوا معنا من حلب لديار بكر وسرنا من السروج إلى الشمال قاصدين مدينة أورفه وهي مركز متصرفية كانت مرتبطة بولاية حلب فوصلناها بعد منتصف الليل وكنا نسمع اطلاق الرصاص بشدة وبصورة متواصلة ومزعجة فنمنا في الفندق إلى الصباح وسألنا عن سبب اطلاق الرصاص فقيل لنا ان الحكومة أرادت تسفير الأرمن وإبعادهم من أورفه بعد أن جمعت منهم قسماً من السلاح فامتنعوا عن السفر ولما أراد رجال الدرك تسفيرهم بالقوة أطلقوا الرصاص عليهم ونشبت بين الفريقين معركة.

وقبل وصولنا بأيام كانت الحكومة طلبت من الأرمن تسليم السلاح الموجود لديهم فامتنعوا إذ كانوا يرون كل يوم قوافل الأرمن تأتي مشياً على الأقدام من بلاد بعيدة مرسلين للقتل والموت جوعاً ولما لم يسلموا السلاح أرسلت الحكومة قوة من الدرك والشرطة لتفتيش دور الأرمن وأخذ السلاح فأطلقوا الرصاص على الدرك والشرطة فخابر المتصرف قيادة الجيش الرابع وبأمر من جمال باشا قائد الفيلق الرابع أُرسل فخري باشا مع قوة كافية ومدافع لأورفه فأطلقت قنابلها على حارات الأرمن حتى جعلها قاعاً صفصفاً وقتل من الأرمن خلق كثير واستسلم البقية فابعدوا مثل غيرهم من أبناء جلدتهم.

قلت اننا وصلنا إلى أورفه بعد نصف الليل ونمنا في الفندق هناك وفي الصباح نهضنا من نومنا وجلست أنا في القهوة وذهب عارف أفندي لدار الحكومة ليتدارك لنا مركبات غير التي أوصلتنا لأورفه، وبعد برهة من الزمن عاد ومعه مركبتان واستحضر لنا طعاماً كافياً للطريق فركبنا وسرنا نحو سيورك.

وكنا نرى في طريقنا نساء الأرمن وأطفالهم وشيوخهم يسيرون مع الدرك كأنهم قطعان الغنم، والذي يراهم عن بعد يظن انهم جيوش سائرة لمواقع القتال وكنا نرى على حافتي الطريق مناظر تقشعر منها الأبدان فمن طفل مقتول وملقى على الأرض إلى شاب محروق بالنار إلى صبية في شرخ الشباب يخجل البدر من جمالها ملقاة جثتها على الطريق لا يسترها سوى شعرها إلى شيخ هرم أعياه التعب فمات في طريقه إلى منفاه وهكذا كنا نرى هذه المناظر الفظيعة تتبدل أمامنا كلما تقدمنا نحو الشمال وهي مناظر موحشة تدل على قساوة ما بعدها قساوة. وقد أشار سائق المركبة الى اكمة عالية وقال ان زهراب ووارتكس وهما من زعماء الأرمن كان جيءَ بهما لهذه الأكمة وقتلا شر قتلة.

في قرية قره جورن وفي سيورك

بعد خروجنا من اورفه بست ساعات تقريباً وصلنا الى ماء نبع غزير يجري على الأرض قريب من قرية تسمى قره جورن فنزلنا لنتغدى ونشرب فمشيت قليلاً نحو منبع الماء واذا بمنظر يقف له شعر الرأس وترتعد من رؤيته الفرائص وتتألم منه النفس. شاهدت امرأة ملقاة على ظهرها عارية إلا من القميص المصبوغ بالدم الاحمر وقد اطلق عليها أربع رصاصات أصابتها في صدرها وتحت ثدييها وبقربها طفل صريع لا يتجاوز الثامنة من عمره ضرب بفأس على أم رأسه وأُلقي على وجهه، وبينما كنت أتأمل في مصير هذه المرأة والطفل الذي بقربها وإذا بعارف أفندي يناديني بأن أحضر وأنظر الى هؤلاء الأطفال المختبئين بالماء خوفاً على حياتهم وأمهم بالقرب منهم تئن من الجوع والمرض فدنوت من المكان الذي أشار اليه ورأيت عدة أطفال تعساء مع امهم في الماء فأخرجناهم منه وأطعمناهم وسألنا والدتهم فقالت انها ارسلت مع كثير من النساء الأرمنيات من أرضروم وقد تألب عليهن سكان القرى التي مررن بها وأخذوا الجميلات منهن وكل ما مررن بقرية كان أهلوها ينهبون ما معهن من نقود وثياب إلى أن وصلن الى هنا فاجتمع عليهن خلق كثير ولم يبقوا معهن حتى الثياب التي يلبسنها ومن يمتنع عن اعطاء اللباس يطلقون عليه الرصاص ويقتلونه.

وقد قالت لنا أن الامرأة الملقاة جثتها وجثة طفلها بالقرب منها قتلت مع ولدها لأنها دافعت عن عرضها وأبت أن تستسلم للمعتمدين على عفافها، عندئذ أُرسل عارف أفندي جندياً للمخفر القريب وأمر الدرك أن يوصلوا الامرأة وأولادها للرها أي الى أورفة.

وبعد الغداء والاستراحة سرنا من هناك لقرية قره جرن فنمنا فيها. وفي صباح تلك الليلة عند طلوع الشمس رحلنا من قره جورن ووجهتنا “سيورك” وهي مركز متصرفية بهذا الاسم وتابعة لولاية دياربكر وكنا نرى طول الطريق جيوشاً من نساء الأرمن سائرات نحو الجنوب وفي مقدمتهن دركي وفي مؤخرتهن آخر وكانت جثث القتلى والموتى تملأ حافتي الطريق فظللنا نسير بين هذه المناظر البشعة الى أن وصلنا الى قصبة سيورك وعندما نزلنا من المركبات رأينا خادماً من خدام الخان يحمل جنيناً ذهب به الى خلف الخان ورماه فسألناه عن الخبر فقال أن ثلاث أرمنيات مرضن وتخلفن عن رفيقاتهن وبقين في الخان وكانت احداهن حاملاً فوضعت طفلاً ولم تقدر أن ترضعه فمات ورماه كما يرمي فأرة.

قلت سابقاً أن الحكومة في حلب كانت سلمت عارف أفندي خمسة من الأرمن مرسلين لديار بكر فلما وصلنا لسيورك قال لي عارف أفندي أن قائد درك سيورك ومدير الشرطة يطلبان منه أن يسلمهما الخمسة الأرمن ويدفعوا خمسين ليرة فدية عن أنفسهم وكلفني أن أبلغهم ذلك فبلغتهم هذه الرسالة الممقوتة فقالوا انه لا يوجد معهم سوى عشر ليرات فأخذوها منهم ونجوا من الموت ولكن الى حين لأنهم بعد وصولنا لدياربكر بشهر أرسلوا مع قافلة من قوافل الأرمن لخارج دياربكر وقتلوا وقد أخبرني بذلك من رأى اطلاق الرصاص عليهم بعينه.

نمنا تلك الليلة بسيورك وفي الصباح داومنا على طريقنا وكانت المناظر متشابهة على حافة الطريق والخلاصة بقينا نمشي بين الأموات الى ان قربنا من دياربكر.

طفل في القفر

وقبل وصولنا لدياربكر ببضع ساعات رأينا طفلاً لا يتجاوز الرابعة من عمره أبيض اللون بعينين زرقاوين وشعر ذهبي تلوح عليه آثار النعمة والترف والدلال لابساً بدلة سماوية من المخمل ولكنها ممزقة واقفاً تحت أشعة الشمس على حافة الطريق لا يتحرك ولا يتكلم فأمر الضابط الحوذي أن يوقف المركبة ونزل وحده وسأله فلم يجبه عن سؤاله ولم ينبس ببنت شفة وكيف يتكلم وهو صغير وربما لا يعرف غير الأرمنية ومن يعلم ربما كان لا يقدر على الكلام من الجوع الذي أضناه فقال الضابط لو أخذنا هذا الطفل معنا لدياربكر لضبطته منا الحكومة كالمال المهرب أو كالسلاح الممنوع حمله وكان نصيبه القتل كنصيب غيره من الأرمن فالأوفق أن نتركه لعل الله يحنن عليه أحد المارة يأخذه ويربيه ولم نكلمه نحن بشيء وركب الضابط العجلة وسرنا في طريقنا وتركنا هذا الطفل كما رأيناه لا يتكلم ولا يبكي ولا يتحرك أبداً كأنه لم يك انساناً وكأننا نحن لسنا من البشر ولم تك في قلوبنا ذرة من الشفقة والرحمة ومن يعلم ابن أي مثر أو ابن أي وجيه من وجهاء الأرمن هو، وبعد أن كان لا يرى الشمس أصبح يتيماً بعد قتل أبويه وقد يكون طعمة للوحوش في هذه الليلة.

سجن دياربكر وسكانه

لما دخلت من باب السجن أخذوني للطابق الثاني المبني فوق الباب وأخذوا الأرمن للطابق الأول…

كان المسجونون ثلاثمائة شخص تقريباً بينهم تسعة عشر أرمنياً من ولاية دياربكر، أوقفوا بداعي انهم من جمعيتي الطاشناق والهنشاق ومن عصابات الأرمن، وكان من جملتهم الأرمن الخمسة الذين أرسلوا من حلب، وباقي السجناء جميعهم أكثرهم أكراد واتراك، وسنأتي بعد حين على طرف من المذابح والأهوال والفظائع التي قاساها الأرمن…

وبينما أنا راقد وإذا بباب الخان يطرق بشدة زائدة واذا بضجيج وصياح استمر مدة ثم فتح الباب واشعلت المصابيح واخرجت جميع المركبات الموجودة في الخان وركب فيها بعض جنود المتطوعة من شركس وأكراد وذهبوا إلى جهة لا أعرفها ولم يعودوا إلا بعد طلوع الشمس.

من كتاب مذكراتي عن الثورة العربية، فائز الغصين، الجزء الأول، دمشق-1956.

 

Share This