خسائر الأرمن في النفوس ومحاولة إبادتهم….فائز الغصين

genocide-victims1_41816 

وفي الصباح سألت صاحب الخان عن هذه الضجة التي قامت في منتصف الليل وعن سفر المركبات وعودتها فأجابني أن جنود المتطوعة قد أخذوها حسب عادتهم لاركاب الأرمن وإرسالهم الى المحلات المعينة لاقامتهم وقد علمت بعدها أن الحكومة كانت قد عينت رشيد بك والياً على دياربكر وزودته بالتعليمات اللازمة لإبادة الأرمن عن بكرة أبيهم والتخلص منهم بجميع الوسائل والأسباب، وبلغوا الولايات التي يقطنها الأرمن بأن الحكومة قررت إبعاد الأرمن جميعهم لولاية الموصل على أن يرسلوا جماعات جماعات عن طريق دياربكر وعندما تصل جماعة من الأرمن اليها يتسلمهم المتطوعة ويذهبون بهم في هذه المركبات لخارج المدينة ويقتلونهم عن بكرة أبيهم باطلاق الرصاص عليهم.

وقد فهم من الاحصاءات ان مقدار الأرمن الذين قتلوا في تركية وماتوا جوعاً ونفوا منها يتجاوز المليون ومائتي الف نسمة.

تهجير الأرمن وتقتيلهم

أما سوق الأرمن للقتل فإنه لأمر تشيب من هوله الرؤوس وتقشعر من فظاعته الابدان. وقد أخبرني أحد أفراد المتطوعة في ديار بكر، كيف كان يساق الأرمن للقتل فقال أنه عندما يصدر قرار بتسفير عائلة من الأرمن يوضع على باب منزلها خفير الى الساعة الثامنة غروبية ليلاً ثم تأتي بالمركبات وتوضع جميع العائلة رجالاً ونساء وأطفالاً في هذه العجلات ويخرجون من المدينة إلى محل بعيد عنها ويقتلونهم جميعاً بالرصاص والسيوف والخناجر وبجميع أنواع السلاح بصورة تفتت الاكباد وتبعث الألم في النفوس وبعد أن يموتوا جميعهم يبدأ جنود المتطوعة بأخذ ما يحمل هؤلاء الأموات من دراهم ولباس فيخزنون المال ويبيعون الثياب ويأخذون أثمانها غنيمة لهم.

وكان الأتراك في ولاية بتليس يجمعون الأرمن في المتابن ويضعون التبن في أبوابها ويضرمون النار بها فيموتون من الدخان. أما في (موش) فقد أتلفوا الأرمن رمياً بالرصاص وطعناً بالسكاكين وكانت الحكومة في ولاية سيواس استأجرت قصابين بأجرة يومية لذبح الأرمن وكان أفراد الدرك يفرقون كل عشرة من الأرمن على حدة ويرسلون واحداً بعد الآخر الى القصابين الذين كانوا يذبحونهم ذبح الغنم وكان أفراد المتطوعة يربطون الأرمن رجالاً ونساءً ويلقونهم من محلات عالية الى الأسفل فلا يصلون إلا جثثاً هامدة محطمة وفي دياربكر كانوا يقتلونهم رمياً بالرصاص وبواسطة القصابين وتارة يرمون بكثير منهم في الآبار والمغاور ويسدون أبوابها فيتلفون جوعاً واختناقاً وقد قتل ألفا أرمني دفعة واحدة بمحل خارج دياربكر بين قصر السلطان مراد وبين نهر دجلة الذي   لا يبعد عن المدينة أكثر من نصف ساعة وقد أخذت هذه المعلومات من الضباط والاطباء ومن الأهالي الذين رأوا المجازر بأعينهم وقد نقل لي أهل »وان« وأهل بتليس الذين نزحوا من بلادهم عند احتلالها من قبل الجيوش الروسية قصصاً لا تصدق عن تقتيل الأرمن وافنائهم.

ديكران وآغوب قايطانجيان

ذكرنا في حديثنا السابق أن بين المساجين تسعة عشر أرمنياً كانوا مسجونين بتهمة انهم من عصابات الأرمن ومن أفراد جمعيتي الطاشناق والهنشاق وكنت أزورهم من آن لآخر وقد قصوا علي كيف قبض عليهم وعذبوا بالضرب والتجويع ووضع الحديد بأرجلهم وقلعت أظافرهم وأسنانهم بالكماشة ونتف أهداب عيونهم ووضعت الآلات الضاغطة على أصداغهم لإجبارهم على الاعتراف والإقرار بأسماء رفقائهم في الجمعية وقد عذبوا اثنين منهم أشد العذاب وهما ديكران وآغوب قايطانجيان لأنهما من جمعية الطاشناق وقد قص علي أحدهما آغوب قصة فقال لي: بينما كنت جالساً في داري إذ طرق الباب ففتحته وإذا بالطارق أحد أفراد الشرطة الذي دعاني لمرافقته للدائرة فذهبت معه فأخذوا يسألونني عن جمعيات الأرمن والفدائيين منهم وأنا لا أجيب على السؤالات بشيء لعدم معرفتي فبدأوا يعذبونني بأنواع العذاب ومن شدة اليأس ذهبت لبيت الخلاء وقطعت شرايين ذراعي وأعضاء أخرى من جسمي بقصد الانتحار والتخلص من العذاب الذي لا يطاق ولكن الشرطة ادركوني ونقلوني للمستشفى فشفيت.

هذا ما حدثني به آغوب وقد حكم عليه أخيراً مع رفاقه بالموت واعدموا جميعاً في خربوط.

نعيم بك

بهدف وصف حجم الكارثة التي ألمت بالشعب الأرمني المسالم في الأمبراطورية العثمانية خاصة، ومآساة الأرمن المنفيين قسرياً من أوطانهم عامة، رأينا من الضروري نشر ضمن هذه المجموعة من الوثائق مذكرات الموظف التركي نعيم بك، الذي كان على اطلاع، بحكم وظيفته كسكرتير أول لدى مدير عام مساعد لشؤون المنفيين في حلب، على الوقائع الفظيعة التي ارتكبتها السلطات التركية بحق هؤلاء الناس الأبرياء.

وتثير هذه المذكرات اهتمام الباحثين خاصة وأنها تحتوي على معلومات قيمة للغاية وعلى عدد كبير من الوثائق والاوامر الرسمية الصادرة عن قادة حزب الاتحاد والترقي في عام 1915 بشأن تعذيب وتفتيت الأرمن المهجرين في طريق المنفى حتى الصحراء السورية.

إن مذكرات نعيم بك وملاحظاته الشخصية المدعومة بأدلة موثوقة تبين بوضوح حقيقة سياسة الاتحاديين العنصرية المتطرفة واللاإنسانية، الذين ارتكبوا جريمة رهيبة لم يسبق لها مثيل بحق الشعب الأرمني من أجل اقتلاع جذوره من وطنه العريق، من بلاد أجداده بإبادته جسدياً.

من هذا المنظور فان  تقديم مذكرات الموظف التركي نعيم بك حول جريمة إبادة ضد الشعب الأرمني امر ضروري وخاصةً أن أبناء جلدته أبطال الجريمة الشنعاء يسعون بمختلف الوسائل لتزوير التاريخ وتشويه الحقائق، حتى وصل بهم الأمر، كما نعلم، إلى انكار الوقائع التاريخية، التي يعرفها الجميع.

هذا، وتجنباً منا لتهمة التحيز، فقد أردنا أن نعرف القارئ العربي على الحقيقة التي صدرت بكل موضوعية من فم رجل غير أرمني عن تلك المرحلة العصيبة والظالمة في تاريخ الشعب الأرمني.

مع الأسف الشديد لم نحصل خلال بحثنا المصادر والمراجع المتوفرة معطيات كافية عن شخصية وسيرة هذا الموظف التركي الشريف، الذي شغل في تلك الفترة بعض المناصب في الإدارات العثمانية الرسمية. فمن شهاداته الاستثنائية والهامة جداً نعلم بأنه عمل في البدء كأمين إدارة حصر التبغ في رأس العين وعين بعدئذٍ موظفاً في إدارة شؤون المنفيين في حلب.

وبحكم وظيفته، كما قيل، تمكن نعيم بك من متابعة أحوال المنفيين من جميع الولايات الأرمنية ورؤية مشاهد رهيبة وكيفية إبادتهم بدون رحمة وشفقة من قبل الحكام العثمانيين وارتكابهم جرائم لايصدقها العقل بحق هؤلاء البؤساء.

وحسب معلومات نعيم بك، كانت قوافل الأرمن تضم حوالي» مئة وخمسين إمرأة وطفلاً على الأكثر، يصلون أحياء إلى المكان الذي أرسلوا إليه، أي إلى المكان الذي حدد كمنفى لهم، الأمر الذي يثبت أنهم كانوا يذبحون في الطريق«. وكالعادة قبل التهجير كان يتم الفصل بين النساء والأطفال من جهة والرجال من جهة أخرى. فالرجال بشكل عام كانوا يتعرضون لإبادة تامة، أما النساء في بعض الاحيان كن يواجهن حالات المتاجرة كونهن سلعة حية. وبهذا الصدد يفيد نعيم بك أن عدد المهجرين من الولايات الأرمنية بلغ ما يقارب المليون شخص. وعلى سبيل المثال يجب الإشارة إلى إن في بداية أحداث عام 1915 أمر القيصر الروسي نيقولاي الثاني بالفتح الجزئي للحدود التركية-الروسية لتتمكن حشود هائلة من اللاجئين الأرمن من   العبور والانتقال إلى الأراضي الروسية.

إن شهادات نعيم بك تسلط الضوء على عمليات التصفية الوحشية وعلى المعاملة غير الإنسانية وغير الأخلاقية والممارسات الدموية التي انتهجتها الحكومة العثمانية وقيادتها السياسية ضد شعب بأكمله. فهي تكشف الأوامر السرية من قبل السلطة المركزية في الآستانة، وخاصة من قبل طلعت باشا، والموجهة إلى الأجهزة المسؤولة في ولاية حلب بشأن تعذيب وتفتيت الأرمن المهجرين بكل السبل المتاحة، مما أدى إلى إبادة مئات الآلاف في الأراضي السورية.

من كتاب مذكراتي عن الثورة العربية، فائز الغصين، الجزء الأول، دمشق-1956.

Share This