شدّاديو مدينة دبيل

img3h

لجأ محمد بن الشداد إلى الأمراء الأردزرونيين في باسفرجان بعد انكساره قرب دبيل عام 954 م. واستدار نحو الغرب وحاول الحصول على مساعدة بيزنطة لاستعادة المدينة. وعندما لم يفلح في مسعاه قفل راجعاً إلى باسفرجان حيث أسْرته وتوفي فيها عام 955م.

ذهب ولده البِكر لاسكاري للعمل كجندي مرتزق لدى الأمير الأرمني في منطقة Vayots-Dzor. وبما أنه كان زعيم عائلة قبلية لحقت به بقية أفراد الأسرة. إلا أن شقيقه الأصغر المدعو فضل بن أحمد آثر على العمل لدى الحمدانيين. وكان هذا الشقيق على صلة وثيقة جداً مع نجا غلام سيف الدولة الذي ثار ضد سيده وسجن إثر ذلك فقفل فضل عائداً إلى شقيقيه لاسكاري ومرزبان . وكان لشعور الحمدانيين المناهض للبيزنطيين تأثير قوي جداً على هذا المغامر الذي رفض خدمة “هؤلاء عبادي الأصنام” وخاصة الأرمن. لذلك اصطحب بعض أصدقائه واتجه إلى سلاَريي مدينة كنجاك. جلب أفراد آخرين من أسرته بوسائل عديدة شتى وتمكن من الاستيلاء على هذه المدينة بعد قتل أميرها وأصبح شقيقه الأكبر لاسكاري حاكمها سنة 971م انطلاقاً من حق الأسبقية. تحرك الشداديون نحو كنجاك وصدوا الجيش الذي أرسله السلاري إبراهيم بن مرزبان. خلف لاسكاري بن محمد شقيقه مرزبان لكن فضلاً، الذي تولى حكم المملكة بين عامي 985-1031م قتله.

ذكر المؤرخ الأرمني هذه الأحداث باختصار بينما جاءت بشكل أكثر تفصيلاً لدى المؤرخ منجّم باشي الذي قال: “وصلت من فارس في تلك الأيام إمرأة تدعى مام بصحبة أولادها الثلاثة إلى Parisos عند الأمير كريكور. قدّم هؤلاء والدتهم رهينة وحصلوا على مدينة Sokht وقلعة شاميرام وتعرّفوا بعدئذ على أمير كنجاك المدعو العزيز وقتلوه واستولوا على المدينة وحكموها. وبعد وفاة الشقيق الأكبر Parzwan تولى شقيقه لاسكاري الحكم من بعده الذي احتل بردعة وسمخور من السلاري. وبعد فترة قصيرة قتله شقيقه الأصغر المدعو بطلون أثناء رحلة صيد واستلم الحكم من بعده”.

وبما أن كاكيك الأول كان حيّ يرزق لم يكن بوسع الشداديين إظهار أية ادّعاءات حول المقاطعات الأرمنية المجاورة. إلا أن فضلاً أفلح في احتلال بردعة أثناء هذه الفترة  بينما مملكة Parisos كان قد تمّ تقسيمها بينه وبين كاكيك.

تبدّلت الأحوال جذرياً بعد وفاة كاكيك الأول لأن ولديه هوفهانّيس وآشوت الرابع قسّما مملكة آني المقسّمة أصلاً بينهما بعد صراع طويل فنال آشوت القسم الشرقي الذي يضم مدينة دبيل التي كانت قد انتقلت إلى الشدادي أبو الأسْوار عام 1020م أثناء صراع الأخوين على عرش أرمينيا.

عانت أرمينيا في فترة صعود هوفهانّيس ـ سمبات على العرش سنة 1021م من اجتياح ديلمي من الجهة الجنوبية للبلاد. وصل الجيش المغير إلى دبيل بعد أن أفلح في القضاء على المقاومة واحتلال المدينة ثم تحرك باتجاه المناطق الشمالية منها. أكد المؤرخ العربي متّى الرهوي على هذه الحقيقة قائلاً: “وصل الأتراك إلى دبيل فتوسعت المناطق المجتاحة”.

كان  الأمير الأرمني Vasak  Siuni موجوداً في بجني فقام بصدّ هذه القوات المغيرة على دبيل. ورغم مقتله أثناء المعركة تمكن جيشه من دفع هذه الجحافل إلى الخلف. ويذكر هذا المؤرخ السرياني الذي يقدم وصفاً ملحمياً لهذه المعركة أن الخسائر كانت كبيرة جداً.

يبدو أن غاية الديلميين كانت الغزو فقط لا الاستيطان في دبيل. وكانت العاقبة الرئيسية لهذه الاجتياحات انفصال بعض مناطق كوغتن الممتدة من دبيل حتى وادي نهر آراكس ودخولها تحت هيمنة أصحابها السابقين مرة أخرى بينما وجدت دبيل نفسها في حال فوضى تامة استغلها الشداديون بشكل جيد فاحتلها الشدادي محمد بن الشداد. من المحتمل أن هذا الوضع المضطرب للمدينة أفاد أيضاً حفيده المدعو أبو الأسوار إلا أننا لم نعثر على أية وثيقة حول ذلك لدى المؤرخين الأرمن أو الأجانب سوى جملة عرضية قالها المؤرخ الأرمني فاردان أن: “أميراً يدعى فضل إحتل المدينة”.

أعتقد شخصياً أنه جرى تسليم هذه المدينة من قبل نبلاء دبيل المسلمين إلى الشداديين طوعاً لإنقاذها من هذه الفوضى السياسية. كتب منجّم باشي بمناسبة وفاة ابو الأسوار قائلاً: “دام حكمه على جميع مناطق آران وبعض أقسام أرمينيا مدة 18 سنة و28 سنة على مقاطعات أخرى قبل ذلك. لذلك طالت مدة إمارته ووصلت إلى 46 سنة”.

ومن المعلوم أن 28 سنة التي يشير إليها المؤرخ هي سنوات حكمه على مدينة دبيل. وانطلاقاً من تاريخ وفاة أبو الأسوار في شهر ذي الحجة من عام 459هـ=تشرين الثاني عام 1067م نستنتج أن عام 1022م هو تاريخ بداية حكمه على دبيل بعد رجوعنا 46 سنة إلى الوراء لأن المدينة كانت في حال قلاقل بعد غزوة الديلميين بسنة واحدة تقريباً. ومع ذلك ليس هناك ريب في سقوط دبيل بيد الشداديين في فترة لم تكن الصراعات بين هوفهانّيس– سمبات وآشوت الرابع قد حُسِمت بعدُ. وبسبب الخوف من هوفهانّيس– سمبات، المعترف به ملكاً على آني والمناطق المجاورة لها، لجأ أحد الأمراء المساندين لآشوت المدعو أبيرات إلى أبو الأسوار مع عائلته وصحبة 12,000 من الفرسان  فاستقبله أمير دبيل بإكبار في الفترة الأولى لكنه قتله بعدئذ غدراً خوفاً من صعود نجمه والضرر بمصالح الشداديين. بعد ذلك نقل القائد Sare عائلة الأمير الأرمني المقتول وجيشه إلى آني. وكان أبو الأسوار هو الجار المباشر لشقيق الملك آشوت الرابع الذي حكم أراكاكوتن ونيك وكوتايك والمناطق المحيط لبحيرة سيفان. ولكن مصير Apirat دليل على عدم خضوع أمير دبيل لآشوت. مع ذلك يشير المؤرخ الأرمني أريستاكيس إلى أن أمير دبيل أصبح صهر آشوت الرابع (زوج ابنته) لدعم سلطته على المقاطعات الأرمنية.

تعزّز وضع أمراء نخجوان وكوغتن بسبب وجود الشداديين في مدينة دبيل. وكان أبو دلف (من أحفاد Abu Tlup على الأرجح) في مدينة دبيل عام 1030م. أقام الشاعر الفارسي المرموق قطران بن منصور، الذي بدأ حياته المهنية لدى بلاط الشداديين في كنجاك، في قصره لفترة معينة.

يخبرنا متّى الرهوي عن صدام كبير جرى بين أبو الأسوار ودافيد Anhoghin، صاحب منطقة لوري الأرمنية، بسبب هجوم أمير دبيل بجيش كبير مؤلف من جيوش الأمراء الشداديين على أملاك هذا الأمير الأرمني. وأمام هذا الحشد الكبير إضطر دافيد على جمع قوات عدد من حلفائه كهوفهانّيس ـ سمبات وملك كابان وغيرهما وطلب من الكاثوليكوس “الحضور إلى معسكره مع جميع رهبانه الذين كانوا في أغبانيا”. فوصل الكاثوليكوس على رأس 200 من رجال الدين التابعين له لتشجيع المحاربين.

أرسل ملك إيبيريا (أبخازيا) بدوره قوات مساندة وهكذا وصلت قوات التحالف من 3 بلدان لمواجهة جيش الشداديين الموحد.

توفي آشوت الرابع وهوفهانّيس ـ سمبات في أوقات متقاربة وخلفهما ابن آشوت اليافع المدعو آشوت الثاني البالغ من العمر 18 سنة .

وكان مقدّراً لهذا القائد الشاب مواجهة خطرين متتاليين:

(أ)  خطر بيزنطة التي كانت تطالب بمدينة آني استناداً على وصية هوفهانّيس ـ سمبات السيئة السمعة.

(ب)  تهديدات جحافل الأتراك والشداديين وغيرهم.

بعد ردّ الهجوم البيزنطي بنجاح عن مدينة دبيل شرع آشوت الثاني في تهدئة المقاطعات الأرمنية المضطربة عن طريق استخدام القوة. وبدعم من كريكور بن Vasak Pahlavuni دحر الملك الشاب جيشاً معادياً يصفه متّى الرهوي بشتى الأوصاف مثل “الجنوبيون” أو “الفرس” أو “الأتراك” على ضفتي نهر هرازدان قرب بجني في مقاطعة آرارات.

بسبب تماسك حكم آشوت الثاني حرّض الإمبراطور البيزنطي قسطنطين مونوماخوس 1042-1055م الأمير الشدادي في دبيل على مهاجمة مملكة البقراتونيين. وعندما طلب هذا الأمير الكردي ضماناً من بيزنطة تعترف بموجبه بأحقية امتلاك الشداديين للأراضي الأرمنية طمأنه الإمبراطور على استعداده لتلبية طلبه.

احتل أبو الأسوار في الحقيقة بعضاً من القلاع الأرمنية المذكورة من قبل المؤرخ البيزنطي. نجا آشوت الثاني من هذه الأحوال العصيبة بعد إيقافه لهجوم الشداديين فقط. وعندما لم يجد الإمبراطور البيزنطي أية وسيلة أخرى لإقناع آشوت الثاني دعاه غدراً لزيارة القسطنطينية وبقيت آني في حال ملتبسة لأن الملك الأرمني كان قد أصبح عملياً سجين بيزنطة. وبسبب استسلامها لليأس فتحت العاصمة الأرمنية أبوابها لبيزنطة التي اقتربت حدودها من إمارة دبيل.

فعُيّن Michael Iasitis حاكماً على آني ونيكولاس قائداً للجيش. وبعد حنثه لوعده رغب قسطنطين مونوماخوس استرداد الأراضي التي قدمها لأمير دبيل. وبسبب رفض أبو الأسوار شرع حاكم آني بحملة كبيرة على مدينة دبيل واشترك في المعركة الجيش الأرمني بقيادة Vahram Pahlavouni وLibarit Orbelian إلى جانب الجيش البيزنطي. وأمام هذا الحشد العسكري الكبير أمر أبو الأسوار فتح أقنية المياه التي أغرقت الكروم الخصبة حول أسوار المدينة فغاص المهاجمون في الوحل وبقوا تحت وابل السهام وحوصروا بشكل كامل. وكانت النتيجة سقوط  فاهرام باهلافوني وابنه كريكور في ساحة المعركة.

عيّن الإمبراطور البيزنطي كاتاكولون كيكاومينوس حاكماً على آني وجميع المقاطعات الأرمنية الشمالية بعد هذه الهزيمة وتبوأ قسطنطين قيادة الجيش. تبنى الحاكم سياسة جديدة. فبدلاً من مهاجمة دبيل المنيعة ركز هجماته على مناطق احتلها الشداديون من آشوت الثاني وهي سورمالو، التي لا نعرف موقعها بدقة وDzidzernakapert القريبة من العاصمة الأرمنية يريفان.

إلا أن عصيان Leon Tornike، أحد الأمراء البقراتونيين في تارون والثورة التي تفجّرت في القسطنطينية بعد ذلك، أكرها الإمبراطور قسطنطين الرابع على قبول معاهدة السلام شريطة إعلان أمير دبيل خضوعه لبيزنطة. لذلك كانت المقاومة الناجحة هي السبب في إيقاف الاجتياح البيزنطي على أرمينيا لأن بيزنطة كانت تنوي التقدم باتجاه تاشير-جوراكيت وسيونيك وحاجين على الأرجح. إلا أن العقبة الحقيقية أمام الإجتياح البيزنطي اللاحق على أرمينيا كان هجوم الجيش السلجوقي بقيادة إبراهيم إنال وكوتلوموش سنة 1048م ووصوله حتى أردزن في الشمال وتارون في الجنوب.

غادر أبو الأسوار مدينة دبيل في فترة هذه الاضطرابات وذهب ليحكم كنجاك التي بقيت بيد أمير شدادي ضعيف. ومن المحتمل أنه كان يرتعد من الحملات البيزنطية المتكررة التي تمثل تهديداً حقيقياً له وخاصة أن الهيمنة على دبيل كانت مسألة حيوية جداً بالنسبة لبيزنطة بعد احتلالها لكارين ومنازكرت وقواعد عسكرية أخرى. وبسبب هجرة  أبو الأسوار لدبيل ووصوله إلى مدينة كنجاك زالت أهمية العاصمة الأرمنية وتحوّلت هذه المدينة الأخيرة إلى مركز جذب للشداديين. ويبدو أن دبيل كانت تحكم حتى عام 1053م من قبل أمراء عيّنهم أبو الأسوار. وفي هذا العام بالذات عين أبو الأسوار ابنه أبو نصر إسكندر حاكماً على دبيل وسلّمه المناطق الخاضعة لها أيضاً.

يؤكد هذا التعليق من قبل منجّم باشي على أن أملاك الشداديين حول دبيل توسعت سنة 1053م من المحتمل بسبب الاجتياح السلجوقي. لم يخضع أبو الأسوار للسلاجقة فحسب، بل تعاون معهم بفعالية باشتراكه في الحملة المدمرة على العاصمة الأرمنية آني ضمن قوات ألب أرسلان.

رغم تحالف الشداديين مع السلاجقة إلا أنهم لم يستغلوا هذه الفرصة على أكمل وجه لأن السلاجقة قاموا بإنهاء حكمهم في كنجاك ودبيل بعد فترة وجيزة. وفي عام 1075م كان الشداديون قد فقدوا كنجاك كاملة إلى جانب أملاكهم في أغبانيا وأرمينيا. يؤكد المؤرخ الأرمني المعاصر أريستاكيس على ذلك قائلاً: “سلّم فضل عاصمته جنزة ومناطق جبلية وسهلية في آران وقلاع عديدة  إلى قائد السلطان وزالت بعدئذ مملكة الشداديين ووقعت آران وأراضيها وكنوزها بيد الأتراك”. ويجب أن نذكر هنا أن أبو الأسوار كان قد توفي في عام 1067م.

بعد ضياع كنجاك إحتفظ الشداديون مع ذلك بآني ودبيل فقط وحاولوا التقرب من الأرمن. وكان أحد أولاد أبو الأسوار يحمل اسماً أرمنياً وهو آشوت بينما ابنه الآخر، الذي يسمى مانوتشار، جمع حوله مَن تبقى من أمراء البيوت الأرمنية بعد أن حصل على آني سنة 1072م . لم يستمر حكم الشداديين في آني مدة طويلة لأن الأمير السلجوقي  Kizil احتلها عام 1105م وأعدم أبو نصر إسكندر.

أنهى الهجوم البيزنطي وجود إمارات أرمنية عديدة وبقي في الحقيقة مروانيو خلاط وأغجنيك وشداديو دبيل فقط في منتصف القرن11م. لم تستغل المملكة الأرمنية هذا الوضع لأنها كانت بدورها عرضة لسياسة الضمّ البيزنطية رغم وجود ممالك صغيرة كتاشير جوراكيت وسيونيك وإمارات صغيرة أخرى تمتعت بحكم ذاتي لفترة معينة من الزمن.

هكذا شلّت بيزنطة قوة أرمينيا العسكرية ومهّدت الطريق أمام جحافل السلاجقة – الأتراك وهيّأت أرضية مناسبة لظهور إمارات مسلمة جديدة غير عربية على أرض أرمينيا الكبرى.

*ينفرد موقع “أزتاك العربي للشؤون الأرمنية” بنشر كتاب “الإمارات العربية في أرمينيا البقرادونية” للمؤلف المستشرق الدكتور البروفيسور آرام تير-غيفونديان، (الطبعة الثانية المنقحة)، ترجمه عن الإنكليزية: الدكتور ألكسندر كشيشيان، عضو اتحاد الكتاب العرب، رئيس تحرير “كتاب العاديات السنوي للآثار”، صدر الكتاب عن مؤسسة المهندس فاروجان سلاطيان، حلب 2013، وسيتم نشر فصول الكتاب تباعاً (24).

Share This