البدوي و”شنورهيك”

أخذ “البدوي نشان” ابنه “مراد” تحت قدميه وبدأ بتوبيخه وضربه.

  • أيها اللعين البغيض، هل “ياسيل” تركي ؟ هل “كيشو” تركي ؟
  • كلا يا أبي، كلا ليسوا أتراكاً.
  • إذاً ماذا يريدان من بعض؟
  • لا أعرف يا أبي، لا أعرف. لا تضربني، آي، آي..
  • كفى، يا رجل، حطمت عظام الصبي، أردت ضربه لكن لا تقتله.

    كانت هذه “شنورهيك” زوجة “البدوي نشان”.

  • هل “ياسيل” تركي ؟ هل “كيشو” تركي ؟ ألا يخجلان ؟

    كان “البدوي نشان” غاضباً لأن الأرمنيين كانا لا يرحمان بعضاً في التنافس التجاري بينهما. فمرة، يقوم أحدهما بتمزيق أكياس زيت الغار وفي مرة أخرى يقوم الآخر بعمل آخر ليثأر. أما الآن فابنه “مراد” متورط في تلك المعمعة. وضع “كشو” في يد الصبي مسدساً صدئاً وقطعة نقدية جديدة من فئة المئة وطلب منه أن يثقب أكياس “ياسيل” الجلدية الملآنة حينما ينزل مع بغاله من تلة “كالا”.

  • خذ النقود الجديدة واثقب جيداً أكياس “ياسيل” الكلب وثم أطلق رصاصة واحدة على جبينه. اقتله وتعال إلي. لا تخف أبداً، أطلق الرصاصة نحو جبينه. سوف أدللك، سأعطيك أربع قطع أخرى من فئة المئة وأترك المسدس هدية لك.

    لم يقبل “مراد” تنفيذ طلبات “كشو” فحسب بل كان سعيداً للغاية. فكان والده “البدوي نشان” رجلاً صارماً جداً. فكل يوم، كان يطلب ألا يدخل البيت دون كسب بعض القروش. ولذلك كان يقوم بكل أنواع الأعمال. في فصل الصيف، كان يبيع الكازوز في ساحة الكراج، المهم أن يحصل على أجر ربع ليرة ذهب أو نصف ليرة على الأقل. أما الآن، ها هي قطعة النقود الجديدة من فئة المئة تصدر حفيفها، قد وضعها “كشو” في يده ووعده بأربعة مثلها. كم يحتاج من أشهر أو حتى سنين وهو يبيع الكازوز كي يجمع مبلغاً مثله. كم سيفتخر به والده.

  • يا ابن الحرام، يا كلب، سأحشر ذلك المسدس في عينك، أفهمت؟ اذهب الآن، للتو واحشر هذه الأداة الشيطانية في عين “كشو” وأعد له أيضاً النقود. أليس الاثنان أرمنيين، أليسوا من عبدة الصليب، هل هما أتراك؟

    وحده “نشان” يعلم كم عانى من الأتراك. كان في السن السابعة عندما تم ترحيله من قريته الأصلية، وقد مات “خاتشو أليكيان” على طريق التهجير منهكاً من شدة الجوع والمرض في قرية سقيلبية بقرب حمص، وماتت زوجته في نفس اليوم. فبقي هو “نشان” وأختاه القاصرتان. أخذه رجل عربي ومضى فهو يذكر أن الرجل أعطى قطعة خبز لكل من أختيه. ولا يذكر ما حصل بعد ذلك لأختيه. من يدري، من المحتمل أن تكونا قد توفيتا أو اختطفتا كخادمتين لدى البدويين. لقد تشتت عائلة “خيتشا أليك” العامرة بسبب الأتراك. أما الآن، يرفع هذان الأرمنيان المسدس على بعضهما وابنه استعمل أداة لذلك. يا ابن الكلب.. كان صارماً تجاه أولاده ويطلب دائماً من أولاده أن يكسبوا المال. لكنه يؤمن أن كسب المعيشة يكون من عرق الجبين والنزاهة.

    * * *

    كان الرجل الذي أخذ “نشان” الحاج عبد الرحمن ناصر رجلاً نزيهاً، والقرويون من قرية “تل بيسة” يحكون عنه أنه رجل طيب رغم كونه بائساً. تزوج من امرأتين لكنه لم يرزق بصبي، ماذا يفعل بالبنات وصيحاتهن، كان يريد ولداً كي لا تغيب ذرية العائلة، والآن هذا الولد “نشان” يمكن أن يكون له ويحمل اسمه ويؤمن ذرية العائلة.

    تيتم “نشان” من أمه وأبيه بعمر السابعة وأصبح عزيز الحاج ناصر. كان يعمل أكثر مما يكسب، كان أبوه الجديد يعمل بالزبيب والحمد لله كانت حالته المادية جيدة جداً. سمى ابنه الذي تبناه “أحمد” وأرغم ولده الجديد أن ينسى اسمه “نشان”. كان “نشان” يوفر دائماً مبلغاً مما يكسب. ولم يكن “نشان-أحمد” متزوجاً رغم أنه في السن الخامسة والعشرين. أما والده فقد رزق بولدين صبيين بعد أن تبنى “نشان”، فاعتبر الرجل الطيب أن الذي حصل جزاء الله بالخير وتعويضاً لتبني “نشان”.

    كان “أوفسيا ساغجيان”، الملقب بـ”كارا دايي” (الخال الأسود) من المتطوعين الكسبية قد عاد من أمريكا، وقد ناضل في معارك “أرارا” (موقع في فلسطين. المترجمة) وغيرها للدفاع عن أهله. وكذلك كان قد تعهد أن يثأر لآلاف الشهداء الأبرياء من وطنه. عندما انتهت المعارك وانهارت الامبراطورية العثمانية الكريهة والمجرمة كرَّس نفسه لمهمات مقدسة. فكان يجمع أيتاماً أرمن صغاراً حيثما وجدهم وأنشأ لهم ميتماً. ففي مكان فندق “الروضة” الحالي التابع لعائلة “بولاديان” كان ميتم “كارا دايي”. كان قد آوى الكثيرين تحت ذلك السقف، وثم اعتنى بهم حتى تم توزيعهم على عائلات يستقرون عندها، وزوَّج الكثيرين. قام هذا الرجل بأعمال خيرية كثيرة، إنه رجل ذو قلب كبير.

    وبعد أن أغلق الميتم بسنوات طويلة وجد أثر “نشان أليك”. أين سيهرب “نشان” حتى لو خبؤوه باسم “أحمد”. إنه الآن شاب في السابعة والعشرين من عمره، لقد أتوا بـ”نشان” إلى كسب بتدبير من “الخال الأسود”. ودخل الحاج ناصر في حزن عميق وما زال يحب “أحمد-نشان” بقدر أولاده الاثنين إن لم يحبه أكثر منهما. أما “نشان” الحمد لله فهو يعمل وأصبح له بيت وعائلة أينما كان. لكن وجده الخال وأحضره إلى كسب، فبيت “خيتشا أليك” في مكانه ويستعمله الأقارب.

    لم يكن “نشان” سعيداً بعودته إلى بيت عائلته، فعالمه مختلف وقد نسي اللغة، فهو يتحدث العربية وقد اعتاد على التقاليد العربية، وبالكاد يتذكر والديه. فقد كان الحج ناصر أباً له.. أما الأقرباء هم أيضاً غير سعيدين فقد حاولوا الاعتناء به وإحاطة ابنهم “نشان”، لكن لم يعد ذلك الكائن منهم. إنه يتحدث باللغة العربية أما هم فيتحدثون بالكسبية أو الأرمنية. فسلوكه ما زال بدوياً، وهناك أمر آخر، فهذا القريب فائق الطبيعة أتى لينزع بيت وأرض والده “خيتشا”.. ما السخافة التي ارتكبها “الخال”، فليبقَ “نشان” بين البدويين فحتى اسمه لا يتلاءم بعد الآن..

    وفي أحد الأيام، اختفى “نشان البدوي”، هرب إلى أن وصل إلى “تل بيسة”، لكن الخال لم يعطه الفرصة فأعاده للمرة الثانية.

    حاول “نشان” أن يتأقلم مع الجو الجديد الذي يبدو غريباً عنه لكن الأقرباء بعد أن ضربوه ضرباً مبرحاً أجبروه على الهرب مرة أخرى.

    أعاده “الخال” من جديد، أين سيهرب “نشان ناصر” فعليه أن يكون صاحب بيت “خيتشا أليك” ويرعاه مهما كان أقرباؤه غير راضين عن تلك التدبيرات.

    وبعد تجربة الهرب الثالثة، قام “الخال” بتهديد الأقرباء من جهة، واليتيمة الوحيدة التي بقيت في بيته “شنورهيك” من جهة أخرى التي سيزوجها له.

    “شنورهيك”، تلك الفتاة الصغيرة التي أتوا بها من “أورفا”، فلم يعرَف لا والدها ولا والدتها ولا مكان ولادتها وتاريخ ميلادها. كانت في الثالثة من عمرها عندما فقدت والدها ووالدتها. عثر عليها في مكان ما وأخذوها إلى ميتم في حلب. وثم أتى بها شخص اسمه “العم ليفون” إلى كسب. وقد سميت “شنورهيك” في ذلك الميتم، أما اسمها الحقيقي فبقي مدفوناً تحت رمال الصحراء.

    كانت من بين الأيتام الذين أتوا بهم إلى كسب، فقد تم تسليم الأيتام هناك إلى عائلات ثرية لكي يتبنوا هؤلاء الأطفال. فهناك عائلات كثيرة كانت تتعامل معهم وكأنها أهلهم وأحياناً أحبوا هؤلاء المساكين أكثر من أطفالهم الشرعيين، فقد أرسلوهم إلى المدارس وأطعموهم وأشربوهم وعندما كبروا زوّجوهم. وآخرون، وبإنسانيتهم، كانوا يعاملون المساكين المحتاجين الذي سلموا إليهم بشكل مختلف كحمل إضافي عليهم أو خدّام. وكانت “شنورهيك” قد سلمت لأناس مثل أولئك. كانت “شنورهيك” تعمل دون توقف في بيت “الحانوتي موفسيس” من ساعات الصباح الباكر وحتى المساء، فتسحب الماء من البئر وتنقل الماء من العين وتخبز العجين وتغسل وتكنس وتعتني بأطفال الدار، كل هذا يعّد لا شيء عند “موفسيس” التقي جداً. فقد كان الضرب من الوسائل المفضلة لتربية “شنورهيك”، وكان يثني على الكتاب المقدس عند تربيته باستخدامه للعصا.

    ولطالما أنها لم تتحمل وضعها، قصدت “الخال أوفسيا” تطلب منه أن يخلصها من البيت، وشكت له قائلة أن “العم موفسيس” يستكثر لقمة العيش التي يعطيها مقابل عملها القاسي.

    “يا بنيتي “شنورهيك”، هنيئاً لك بلقمة العيش، لكنك لا تنصفينه. يجب على المرء أن يكسب من عرق جبينه، فعملك غير كافٍ. فلن تكون اللقمة التي تأكلينها حلالاً، يا ابنتي. اعملي جيداً، لا تعذبي أمك، اعتنِ أكثر بأخوانك وأخواتك. أنت تنامين باكراً فهذا ليس فندقاً، يجب عليك أن تصحي قبل الجميع وتنامي في وقت متأخر. أنا أصرف عليك مبالغ كبيرة، ويجدر بي أن آتي بعائلة علوية وأستأمنها على أشغالي..”.

    على أمل التخلص من بيت “موفسيس”، كانت “شنورهيك” تشتكي “للخال” الذي لعب دور ملاكٍ منقذٍ للكثيرين. فالبقاء هناك لا يحتمل، أما “أوفسيا” فكان يغلي ويشتم “موفسيس”، للمعاملة غير الانسانية التي يعامل بها تلك الفتاة الرقيقة. ماذا يفعل هو، فميتمه أغلق منذ زمن بعيد، وقد تزوج مع آخر يتيمة وكوّن عائلة معها.

  • يا ابنتي “شنورهيك”، ماذا أقول لك، أنا الآن في موقف لا أستطيع مساعدتك، فالميتم مغلق، لا تخافي، سوف أوّبخ “أباك” الملعون.

    عبثاً وبّخ “موسى” عدة مرات، فذلك الرجل الذي اعتاد على الاستدانة وعد أن يعتني بابنته “شنورهيك” أكثر من الابنة الحقيقية. ولكن بعد أيام كانت القصة تتكرر. فهذا الجو الشاق كان يخنق “شنورهيك”. فالرجل المخادع، والدها، لم يكن يأبه بتهديدات “الخال”.

    بادر “الخال” أمام تضرعات “شنورهيك”.

  • يا ابنتي، “شنورهيك” سآخذك إلى بيتي، لكن عليك أن تعلمي أن حالتي المادية بعيدة عن الجيدة، فإن رضيتِ اقتسام الخبز أهلاً بك. عندما أشتري ثياباً لزوجتي أشتري لك أيضاً وإن استطعت أن أشتري لها حذاء أشتري لك أيضاً.
  • يا أبي، امنحني فقط مكاناً أضع فيه رأسي، لا أريد لا ثياب ولا حذاء. أعمل كل شيء في بيتكم فقط خلصني من هذا الرجل.

    لأول مرة وجدت “شنورهيك” في دار “الخال أوفسيا” جو البيت الدافئ والحميم، فلم تكن تتذكر شيئاً من بيت والدها الحقيقي فكانت في الثالثة من عمرها عندما تعرضوا للتهجير، حتى أنها لا تتذكر اسمها الحقيقي. فالفتاة البائسة التي نجت من خنجر التركي كانت تعيش مرارة اليتم والحرمان. أما في بيت “الخال” فها هي تجد المحبة والحنان، تحت ذلك السقف المتواضع كانت تعتبر وكأنها أخت زوجة “الخال”.

    عندما أتى “الخال” بـ”البدوي نشان” إلى كسب للمرة الثالثة زوَّجه من “شنورهيك”. فرضيت “شنورهيك” بسرور أن تتزوج من “نشان” بتقاليده البدوية الحقيقية وهي تحلم أن يكون لها بيتها الخاص. كانت مرتاحة في جو بيت “أوفسيا” لكن سيكون لبيتها الخاص طعم آخر.

    إلا أن التقاء الاثنين لم يكن بتلك السهولة، كان “نشان” يشعر بألفة أكبر مع اسمه “أحمد” فلا يعرف ولا كلمة بالأرمنية وقد نسي لهجة القرية. فهو لا يوحي بسلوكه إلى الأرمنية البتة. لو لم تكن “شنورهيك” لكان من الصعب العيش هناك في كسب.

    تعلمت “شنورهيك” الكتابة والقراءة في الميتم، فكانت تستمتع بالقراءة جداً. فهي صاحبة البيت وفتاة لطيفة. وفي السنوات الأولى من الزواج كان الزوجان يتحادثان بحركات الأيدي والوجه، فـ “شنورهيك” بلغتها الأرمنية و”نشان” بلغته العربية لا يملكان لغة مشتركة أخرى غير لغة الإشارات يتحدثان من خلالها.

    طلبت “شنورهيك” العروس الجديدة من زوجها أن يصبح أرمنياً بشكل رسمي وينزع اسم أحمد عنه. “نشان” يحب ذلك الاسم فكيف يتراجع عنه. لكن لا يمكن رفض إصرار “شنورهيك”. ذهب إلى أنطاكيا ونزع عن أكتافه بشكل رسمي اسم أحمد في السرايا التاريخية في المدينة.

    وتعاون “نشان” و”شنورهيك” معاً لإبهاج بيت “خيتشا أليك”. أصبحت “شنورهيك” أماً لأربعة أولاد، وسميا ابنها البكر باسم حماها “خاتشيك” الذي لم تره أبداً. أما أسماء أبنائها الثلاثة فقد اختارتها من روايات الكاتب “رافي” فكانت أثناء حملها تقرأ فقط لـ”رافي”. سمت ابنها الثاني “مارديروس” لكن “نشان” لا يستطيع حفظ اسم معقد وغريب لذلك سمي الولد عملياً “مراد”. ثم أنجبت “شنورهيك” “أرسين” و”صامويل”، أما عدم تسميتها لابنتها التي يفترض أن تولد باسم إحدى بطلات الروائي “رافي” فذلك لم يكن ذنبها، إنه “نشان” الذي لم يوافق بالرغم من رغبة “شنورهيك” الجامحة.

    كان “نشان” لا يعرف العار في العمل، فيعمل كل شيء. الحمالة ليست عاراً، أما سائس البغال فليس عاراً البتة، فطرق باب كل ما هو حلال.

    عمل في بيت الحاج ناصر في معمل الزبيب واقتصد الأجور لإنشاء مطحنة “باطوس” كان يأخذ القمح من البيوت إلى المطحنة ويرفع عنها القشرة ويعيدها. واضطره الأمر أن يبني معملاً لانتاج زيت الزيتون، وفعلها. كانت “شنورهيك” إلى جانبه دوماً وتتعاون معه في المشغل والمعمل.

    وفي شهري آب وإيلول كان يجول على بيوت كسب بيتاً بيتاً لطحن البرغل، في البداية وجد من يعاونه أما عندما كبر “مراد” وجمع القوة في عضلاته بدأ يأخذه معه ليساعده. في تلك الفترة، كان المحليون يسمون “البدوي نشان” بالـ “غرو” على اسم مطحنة البرغل. فكان يحمل تلك المطحنة على ظهره في حين يحمل “مراد” الدولابين الحديديين وكان الأب والابن يكسبان يومياً بعض الليرات الذهب مقابل عملهما وعرقهما.

    في ذلك الفصل، كان الأب والابن يأكلان البرغل مع كأس من العيران على الغذاء. إنه عمل حلال ..

    كان “نشان” يحب أيام صيام رمضان، عندما كان هو “أحمد” في وقت مضى كان يصوم بكل وفاء ويشارك في احتفالات عيد الفطر. وبعد نزع الاسم العربي بطبيعة الحال توقف عن الصيام لكنه كان في الصباح الباكر من كل يوم يأخذ الطبل بيده ويزور العائلات المسلمة ليوقظهم من أجل السحور. وكانت تلك العائلات تحب ذلك ممن كان من دينهم وكانوا يكافئونه بالمال الوفير والهدايا، كما كان يشاركهم فرحتهم في عيد الفطر.

    وعلى مر الزمن، بدأ أولاده يعملون ويساعدونه، فبعد أن كان “خاتشو” يعمل صبياً في حانوت فتح حانوته الخاص بعدما كبر. أما “مراد” فكان يعمل كل شيء، وكان يعمل في معمل صابون “بولي” ووصل من عامل في جبالة الطين إلى المعلم. “أرسين” بدوره تعلم وكان يؤمن مصروفه من عمله في الصيف، وقفز من صف إلى آخر حتى تخرج من الجامعة الأمريكية بشهادة دكتوراه، وصار مهندساً مختصاً مطلوباً في عالم النفط. وكذلك الأمر صعد “صامويل” من صف إلى آخر وصار مهندساً وأحد المختصين المشهورين في مترو سان فرانسيسكو.

    * * *

    لم ينسَ “نشان” والده بالتبني الحاج ناصر الذي رعاه وكذلك عائلته. فكان ناصر قد دعم “أحمد-نشان” دوماً فقد أعطاه سبعة آلاف ليرة ذهب عند أيام الهجرة الداخلية لكي يشتري أرضاً من الذين يهاجرون إلى أرمينيا، فكان للحاج ناصر الدور الخير ومساهمته في رغد عيش “نشان”.

    ارتفعت مناصب أولاد ناصر الاثنين في الجيش السوري ووصلا إلى رتب قيادية وهما لم يقطعا الصلة مع “أخيهما” وعائلته.

    في عام 1952 كانت مبنى مولد الكهرباء يبنى في كسب وكان مهندس من دمشق يشرف على العمل، بطبيعة الحال كان “البدوي نشان” وقطيعه هناك. وفي أحد الأيام، عندما كان “نشان” يقدم كنيته “أليكيان” خلال الحديث لهذا المهندس ارتبك الرجل، فأحد جيرانه “سعدا” يحمل نفس الكنية، وانطلق “نشان” إلى دمشق بمرافقة المهندس، وعندما فتح الباب وجد أمامه أخته “أوفسانا” التي فقدها منذ سبعة وثلاثين عاماً، تعانق الأخ والأخت لشفيا غليل شوقهما.

    لم يمض الكثير حتى تم العثور على “زاغيك” الأخت الأخرى لـ”نشان” في حمص. هذه أيضاً كانت قد تزوجت من عربي. وتعززت الروابط بين العائلات ودامت حتى اليوم. وعندما توفيت “زاغيك” عمة عائلة “أليكيان” في حمص وزوجها ورثت عائلة “أليكيان” عدة قطع أراضٍ ومبلغاً من المال.

    واليوم، أولاد وأحفاد “البدوي نشان” يعيشون في بيوت عامرة من كسب حتى كاليفورنيا.. وهم أصحاب فندق ومحلات وبيوت في كسب.

    وعندما نتخيل للحظة أن كل ذلك لم يكن ليتم لولا عناد “الخال أوفسيا” واجتهاد “نشان” وعطاء “شنورهيك”.. انتزع “نشان” اسمه الأرمني وبذلك أضيف اسم “أحمد” على الأسماء العربية.

    بعد خمسين سنة تقريباً من رحلة “نشان” في التهجير ودّع هذا العالم. كان قد ذهب إلى قرية البدروسية الساحلية للعمل مع بغله. كان قد ذهب إلى هناك لعصر الزيتون في المعصرة وبعد أن عمل عدة أيام ضربه بغله الذي عاش معه سنوات عديدة برفسة قوية، ولا تدري مما انزعج، وألقاه أرضاً وأنهى حياته المغامرة. طبعاً لم ير الدكتوراه التي حصل عليها “أرسين” وتخرّج “صامويل” من الجامعة إلا أنه أمَّن لأولاده حياة رغيدة.

    تمتعت “شنورهيك” بحياة مديدة فكانت تذهب إلى أمريكا بين فترة وأخرى لتشارك نجاحات أولادها. في أحد الأيام، حكمت جلطة دماغية عليها بالصمت. وهذه المرة أيضاً تواصلت مع عائلتها بإشارات الأيدي والوجه كما كانت تفعل في الأيام الخوالي للتواصل مع زوجها. وبعد عدة سنوات من الصمت، لحقت بزوجها “نشان”.

    * * *

    حصلت على معلوماتي عن البدوي و”شنورهيك” من ابنهم الثالث “مراد أليكيان”.

“شـهادة مدى الحياة”، كيفورك أبيليان، ترجمة د. نورا أريسيان، 2006 ، لبنان.

Share This