مسؤولية ألمانيا عن ابادة الارمن واقليات مسيحية أخرى (1)

%d8%a7%d9%86%d9%88%d8%b1-%d8%a8%d8%a7%d8%b4%d8%a7-%d8%b7%d9%84%d8%b9%d8%aa-%d8%a8%d8%a7%d8%b4%d8%a7 

مقدمة

ليس هدفنا في هذا البحث التاريخي القصير تناول الدور الرسمي للدولة العثمانية في الابادة الجماعية للارمن قبل 101 سنة، أو إضافة معلومات او ارقام تفصيلية حديثة عن المجازر البشعة التي أٌقترفت بحقهم. فقد كٌتبت في هذا المجال ربما مئات الدراسات والبحوث عن الجرائم المبرمجة تجاه الشعب الأرمني. ان ما نبغيه هنا، هو بالدرجة الرئيسية تسليط الضوء على دور المانيا القيصرية في تلك الاحداث اثناء حدوثها، كونها حليف الامبراطورية العثمانية خلال تلك الفترة. كما ويهمنا موقف المانيا من تلك المجازر كدولة  عبر التاريخ، وكذلك مدى علم الشعب الالماني بها.

لعلنا لانبالغ اذا قلنا بأن الغالبية العظمى من الالمان المعاصرين تظن بأن العلاقات الالمانية التركية بدأت مع قدوم الوجبات الاولى من العمال الاتراك الى المانيا في الستينات من القرن العشرين. فقلة قليلة منهم لها بالفعل العلم  بتواطؤ المانيا القيصرية في حوادث القتل الجماعي للارمن ولاقليات مسيحية اخرى مثل اليونانيين والسريان والكلدان والاشوريين.

شهود عيان ألمان

ابتداءً من شهر ايار عام 1915 وتباعاً، تلقى السفير الالماني في القسطنطينية (اسطنبول الحالية)، البارون هانز فرايهر فون فانگنهايم، تقارير من قنصليات المانية عديدة في شرق البلاد وجنوبها، تؤكد بأن عمليات النفي والتهجير للأرمن، التي تطبقها السلطات العثمانية تحت ما سمّي بـ “أعادة التوطين”، لا تراعي بتاتاً النواحي الانسانية للمهجّرين، الذين كان معظمهم من النساء والاطفال وكبار السن من الرجال، بل بالعكس. فمثلاً يصف نائب القنصل الالماني في ارضروم حالة الأرمن في مسيراتهم الاجبارية باتجاه الجنوب بانها كارثية، ويتحدث عن نساء واطفال جياع يلقون بأنفسهم امام سيارته طالبين الخبز.

في نيسان 1915 بدأت المجازر العثمانية بحق الارمن

اما القنصليات الالمانية في الجنوب فتتحدث في تقارير عديدة عن العثور على جثث للأرمن عائمة على مياه دجلة والفرات، مما يؤكد لهم حدوث مجازر بحق هؤلاء الناس اثناء ترحيلهم القسري من ديارهم. أن التقارير العديدة والمفصّلة التي استلمها السفير الالماني فانگنهايم لغاية حزيران 1915 من قنصليات عديدة، ارغمته في نهاية الامر على اخبار السلطات المسؤولة في العاصمة برلين عن الاوضاع المأساوية للأرمن المهجًرين، والجزم بأن الغاية الاساسية من الابعاد القسري هي بالفعل “إبادة العنصر الأرمني”.

السفير يخبر حكومته

في السابع من تموز سنة 1915 ارسل السفير الالماني في القسطنطينية  فانگنهايم تقريراً خطيراً الى حكومته في برلين يتضمن ما يلي: “أن الظروف والطريقة التي يتم بها توطين الأرمن في أماكن اخرى، تُظهر جلياً غرض الحكومة الفعلي في ابادة العنصر الأرمني في الامبراطورية التركية”.

أن هذا التصريح من قبل كبير الدبلوماسيين الالمان في الامبراطورية العثمانية، يُؤكد بوضوح لا يقبل الشك، بأن  الدبلوماسيين والعسكريين الالمان لدى الدولة العثمانية، كانوا على علم بوقت مبكر بالمشروع العثماني بالابادة الجماعية للارمن.

ثمة نقاط تستحق الملاحظة في هذا التقرير:

1 ــ الاعتراف الصريح بأن قيادة الامبراطورية العثمانية، وهي احدى اهم حلفاء المانيا في الحرب العالمية الاولى، تقوم فعلاً بتنفيذ عملية الابادة الجماعية للاقلية المسيحية الارمنية (واقليات مسيحية اخرى).

2 ــ ان هذا السفيرالذي يصف الان حملات اعادة توطين الارمن بأنها “ابادة للعنصر الارمني”، كان بالذات لحد ذلك الحين يقوم بالدفاع عنها وتبريرها.

3 ــ بسبب العواقب السلبية لهذه الافعال، والتي كان السفير يخشى بأنها قد تضر بسمعة المانيا، قام في نفس الرسالة بتقديم اقتراحات للسلطات الالمانية حول كيفية تجنب ذلك. الا انه لم يقدم اي اقتراح لانقاذ الارمن.

أن ما تقدم يعني بأن تموز عام 1915 يشكل تاريخاً مهماً، حيث يثبًت فيه رسمياً تواطؤ الدولة القيصرية الالمانية مع الاتراك في الابادة الجماعية للارمن، وتحملها بهذا جزءاً من المسؤولية. فحتى ذلك التاريخ، كان من الممكن افتراض جهل السلطات الرسمية الالمانية لحقيقة ما يجري للأرمن.

فحملات ترحيل الارمن من مناطق حربية مهمة، كخط المواجهة مع العدو  الروسي، أو ترحيلهم من شواطئ البحر المتوسط، التي كان مخططي الحرب الاتراك والالمان يتوقعون قيام الاساطيل الانكليزية والفرنسية المعادية الهجوم من خلالها، كانت تعلل رسمياً بضرورات تقتضيها العمليات العسكرية الدائرة او المحتملة.

إن القيادة التركية ومعها ضباط المان كبار، يتقلدون مناصب هامة في التخطيط الحربي في هيئة الاركان للجيش العثماني، كانوا مقتنعين بأن الاقلية الأرمنية والاقليات المسيحية الاخرى يتعاطفون مع الاعداء ضد الامبراطورية العثمانية. فلذا يجب ترحيلهم الى مناطق خرى، غير قادرين فيها القيام بإضرار الامبراطورية العثمانية. أن ما سمّي “بأعادة توطين الارمن” والذي كان يعني عمليّاً طردهم من بيوتهم وبلداتهم ومن الارض التي سكنوها منذ اجيال، قد بدأ بالفعل في نيسان 1915.

مواقف مخزية

الم يكن من واجب السفير الالماني بعد علمه بحقيقة ما يحدث، تقديم احتجاج شديد اللهجة باسم الرايش الالماني ضد الابادة الجماعية للارمن والتهديد بالعواقب اذا لم يتم ايقاف القتل الجماعي؟ نعم، كان هذا واجبه، خاصة وأن الدولة العثمانية كانت حليف مهم لالمانيا في الحرب. الا ان هذا لم يحدث للاسف. فبأستثاء مذكرتين احتجاج بسيطتين من قبل السفير لدى السلطات العثمانية، والتي تمت حسب اعترافه بالدرجة الرئيسية “لغرض القول لاحقاً، بأننا قمنا بالاحتجاج”.

ان قوال وتصريحات كبار الضباط في الجيش الالماني القيصري، تبين مدى الحقد والعداء الذي كانوا يكنّوه ضد الشعب الأرمني. فرئيس الاركان الالماني فرتز بونزارت فون شلّندورف، وصف الأرمن بأنهم “مصاصي دماء الشعب التركي وهم أسوأ من اليهود”. والادميرال فيلهلم سوشون دوّن في مذكراته ان “تركيا سترتاح بقتلها لآخر ارمني”. اما الملحق البحري في القسطنطينية هانز هومان، الذي كانت تربطه علاقات صداقة حميمة مع  انور باشا، وزير الحرب العثماني واحد كبار المسؤولين عن ابادة الأرمن، علق على تقرير للقنصل العثماني في الموصل، الذي يبدي فيه تذمّره عما يحدث للارمن، بالعبارة “ان الارمن سيمحون. ان هذا صعب ولكنه مفيد”.

موقف انساني نبيل لم يجد صداه في برلين

بعد الموت المفاجئ للسفير الالماني فانگنهايم على اثر سكتة دماغية في تشرين الاول من عام 1915، عٌيّن بعد شهر پاول گراف فولف مترنيش كسفير جديد لدى السلطة العثمانية. السفير الجديد لم يكن كسابقه غير مكترثاً بمصير الأرمن. فبعد شهر من تسلمه مهام السفارة، وجه خطاباً الى برلين، مطالباً فيه بوجوب اطلاع الرأي العام الالماني بحقيقة ما يحدث للارمن في الامبراطورية العثمانية ويطالب الحكومة الالمانية بأن تقوم بالتهديد الجدي للحليف العثماني بالعقوبات في حالة الاستمرار في سفك الدماء. ويرى “بأننا اذا اردنا ان نوفَّق في ذلك، فعلينا تخويف الحكومة التركية من مغبة العواقب”. وان لم يحصل هذا، “فليس لنا خيار، الا التفرج كيف ان حليفنا يواصل الذبح”.

الا ان رد مستشار الرايش الالماني تيوبالد فون بيتمان هولفيگ كان مخيباً للآمال. فأكّد في جوابه “أن هدفنا الوحيد هو الحفاظ على تركيا كحليف بجانبنا حتى نهاية الحرب، بغض النظر إن أٌبيد الارمن ام لا. وأن استمرت الحرب لمدة اطول، فسنكون بحاجة ماسة للأتراك”. من اجل فهم سياسة المانيا القيصرية اللاابالية تجاه مصير الارمن، بل والمعادية لهم، لحد مشاركة بعض منتسبيها الفعلي في عمليات الترحيل، يتوجب علينا القاء نظرة خاطفة على الحقبة التاريخية التي سبقت الحرب العالمية الاولى.

سامي الياس مدالو

موقع “القوش نت”

المانيا /  تشرين الثاني 2016

الصورة: وزير الحرب العثماني انور باشا (في اليسار) يتفقد احد المواقع في القسطنطينية مع منظم الابادة الجماعية وزير الداخلية طلعت باشا

 

Share This