أبعاد مأساة الأرمن المئوية

مدخل

يكاد القرن يكتمل بعد خمس سنين على مأساة شعب الأرمن ولكن الأحوال تغيرت والزمن يتسارع تحت أقدام الأتراك الكماليون – السبب الرئيسي في نكبة الأرمن-، وما أظن الإصرار على الإنكار لتلك الأهوال والأفعال الشنيعة يجدي نفعاً، وقد تستيقظ تركيا الكمالية يوماً وتجد العالم قد ذهب إلى أبعد من الاعتراف بما جرى للأرمن، ويجدون مبرراً لمحاسبتهم على ما اقترفته أيدي أعضاء حزب الاتحاد والترقي!!

ولذا فالنصيحة التأريخية تحتم والمجازفة السياسية تستدعي أن تواجه تركيا الأمر، وتتبرأ ممّا فعله الأقدمون، كما فعل الألمان بالتخلص من نازية هتلر وأتباعه وكما تخلص الصرب من ميلوسوفتش وتركته، وكما تخلص العراق من ميراث صدام فما عاد كويتي يطالبهم بإصلاح أخطاء صدام.

ولكن الغريب أن أتباع كمال أتاتورك رائد حزب الاتحاد والترقي مازالوا في سدة الحكم، ولو عن طريق الجيش والمنظومة السياسية، حتى مع وجود أحزاب إسلامية.

ولذا فإنهم يريدون إبقاء الأمر كما هو، ونسوا أن حركة التغيير التأريخية سوف تمر بهم، وإن لم يكونوا من الحاضر والمستقبل المختلف، فإنهم سيبقون في الماضي الذي لن يترحم عليه حتى الأتراك أنفسهم، فاستيقظوا قبل أن يفوت القطار.

البعد الأول: التسمية والتوصيف!!

يصر الأرمن على تسمية ماجرى لهم من مذابح في 24 نيسان –أبريل- 1915م (بالإبادة) ويرفض الأتراك ومن وافقهم هذه التسمية، ويقولون قتل عشوائي واضطرابات ونحو ذلك .

وترد تسميات أخر كوصفها (بالمجازر والمأساة والمذبحة) وهي تسميات مستحقة عطفاً على ماجرى ولكن هل تصور الواقع فعلاً الذي حدث منذ 95عاماً.

الناظر في الصورة يجد أن ثمة جريمة ومجرم وجلاد وضحية (وأيّ ضحية) نساء وأطفال وعجزة ومواطنون عاديون، لأن المتمرد والمقاتل من الصعب إقامة مجزرة له لأنه يدافع عن نفسه.

ثم يجد في الصورة نفسها تهجير وطرد من البيت والوطن والأرض وتشريد واستيلاء على الأملاك واعتداء على المساكن والكنائس –دور العبادة- وأبعاداً أخرى للمأساة تتجاوز الإبادة والفناء إلى معان يختلط فيها الألم والقهر والتجويع والتهجير ومعاناة يصعب وصفها، ربما الذي نجى وعاش أكثر إحساساً بالمرارة والألم من الذي مات واستراح أو تنيّح كما يقول السريان.

ولذا فالبعد الأول مهما قيل فيه يبقى عصياً على الإدراك الكامل.!لكنه مفهوم بالمعنى العام لهذا الثالوث غير المقدس (الموت والتهجير والتجويع).

والله والإسلام بريئان ممّا اقترفته أيدي الأتراك ومن سار في ركابهم من هذا الظلم الفاضح والغدر الغاشم.

بل إن الشرائع السماوية والقوانين الإلهية والرحمة الإنسانية تأبى هذا الضيم وترفض تلك الاعتداءات مهما كانت الأسباب.

لأن الأرمن مواطنون (وموظفون في الدولة) ورعايا لهم ذمة الدولة الإسلامية في البلاد التي تحكم من قبل المسلمين ولايجوز في شرع المسلمين، ظلم أهل الذمة والاعتداء عليهم ومصادرة حقوقهم بل إذا حصلت منهم مخالفات فإن كلمة الفصل تبقى للقضاء والقانون، فبالله عليكم أين العدالة من تلك الجرائم المروعة، التي تهتز لها الأرض والسماء.

ومن حاول الاستدلال للمجرم بعد جريمته فهو مشارك له، وأعني من يريد استدعاء حوادث التأريخ ويجعلها معاملة بالمثل كتصوير ماحدث أنه انتقام ومشابه لما حصل من الكاثوليك الأسبان في بلاد الأندلس ضد المسلمين!! فإن الظلم لايواجه بالظلم والإسلام لايقر الاعتداء بهذه الطريقة ولاتزر وازرة وزر أخرى .

والمحل الصحيح للمعاملة بالمثل في الزمان والمكان نفسه، ليس بهذه الطريقة، والناطق بها معظم على الفرية والبهتان متخوض بالباطل ومتكلم بغير الحق، هذا لو كان الفاعلين مسلمين خلص؟! كيف وهم حزب تركيا الفتاة أصحاب الاتحاد والترقي الذين يغلب عليهم يهود الدونمة ولايتخذون الإسلام منهج حياة وحكم، بل لما استقرت لهم الأمور قاموا بإلغاء الخلافة الإسلامية على ضعفها وقلة حيلتها .

البعد الثاني : التأريخ والجغرافيا

التأريخ يشهد بعلاقات المسلمين مع الأرمن وقد مرت بجميع الأطوار حرباً وسلماً فما عرفت مثل تلك الفجائع لأنها احترمت شريعة الحرب وشريعة السلم وحقوق الجوار والتعايش المشترك؟

فماهي الخطة الشيطانية المسماة بالطورانية التي رسمت خيوط هذه الكارثة، والمأساة وإن كانت في بدايتها ألماً وحرماناً للضحية فإنها قد تنقلب جحيماً ولعنة تطارد المجرم والجلاد وهذا هو الحاصل بين أرمينيا وتركيا اليوم فكلما سام الساسة خطة سلام وتعايش برزت لعنة مذابح الأرمن على رؤوس الجميع، ولذا يمكن أن يقال  التأريخ يمكن تعديله  وتصحيحه بالتفاهم الكامل والاعتراف المتبادل، وحفظ الحقوق.

والجغرافيا يمكن التوافق عليها ومن الصعب تغييرها لكنه ليس مستحيلاً، لذا لاحل للبلدين إلاّ بالاعتراف الصريح من جانب تركيا والتبرؤ من حزب الاتحاد والترقي،ثم النظر في العواقب السياسية بعيدة المدى، وإن كانت القريبة ليست في صالح تركيا فإن الأرمن شعب محب للحياة ومطالبه التي تضمن حسن العلاقات ليست مستحيلة، بل يمكن التفاهم عليها إذا كانت هناك إرادة من الجانبين، والنصيحة الموصولة لتركيا، أن تستغل هذه اليد الأرمنية الممدودة للصلح وحسن العلاقات، بل لولم تكن ممدودة لكانت السياسية والكياسة هي أن يسعوا في طلبها حرصاً على إنهاء المشكلة الأزلية التي لا أدري لماذا تركيا تصر على أن تبقى إرثاً يقلقها، وهي التي لما أرادت الانفكاك عن لغة العرب في الدولة العثمانية، غيرت حتى  الأذان وفرضت الحروف اللاتينية على شعبها، وأخذت بالقوانين المدنية وتركت الشريعة الإسلامية.

البعد الثالث: أرمن المستقبل

الموت والحياة بيد الله والناس يبتلون ويمتحنون من الرب جل وعلا فإذا نظرنا لشعب فلسطين فإنه حصل له ابتلاء وقتل وتشريد وتهجير وبقي له بقايا، فعاد قوياً جباراً متعلماً منتجاً يرهب جانبه عدوه ويطمح عقلاء اليهود أن ينتهي منه بسلام قبل أن يأتي وقت لايستطيع الصهاينة أن يظفروا منه بتوقيع أو تطبيع، مع وجود الاختلاف بين الفلسطينيين على السلطة والسلام من جهة وبين اليهود والصهاينة من جهة أخرى في التعامل مع الفلسطينيين، فمن يكسب الفرص المتاحة من الطرفين قبل اشتعال النيران من جديد .

وعلى الجانب المقابل الأرمن حصل لهم قتل وتهجير وتشريد ولكن بقيت لهم دولة ترفع أسمهم وتعلن حريتهم، ونشط أرمن الشتات فكانوا دولاً داخل الدول وساهموا في تأسيس الدولة وحازوا الإعجاب في العمل والإتقان، فجاءت مسألة اتفاق دولة أرمينيا مع الأتراك مسألة تنازع واختلاف، فعلى الأحزاب أن تتفق بينها وتكسب الفرص المتاحة ولا يعني ذلك تضييع الحقوق الأخلاقية والشرعية، لأن الأتراك أيضاً بينهم خلاف فالإسلاميون يريدون التخلص من تركة الاتحاديين، لكنهم تحت منظومة الكماليين، فمن يبصر الطريق الصحيح ولايندم على الفرص السانحة لتحريك المياه الراكدة في ضوء المتغيرات الحديثة.

أ. مفلح الشمري – الرياض

باحث في الشأن الأرمني

Share This