مسؤولية ألمانيا عن إبادة الأرمن وأقليات مسيحية أخرى (2)

%d9%82%d9%88%d9%89 

أسباب التحالف الالماني العثماني

لم تكن الامبراطورية العثمانية من قبيل الصدفة حليفاً مهماً لالمانيا القيصرية في الحرب العالمية الاولى. ففي الوقت الذي كانت فيه لبريطانيا ولفرنسا مستعمرات عديدة، وفي الوقت الذي كانت فيه روسيا القيصرية هي الاخرى قد وسعت  سلطتها في القرن التاسع عشر باتجاه سيبيريا والقوقاز واسيا الصغرى، وقفت المانيا، كما يقول المثل الالماني بـ “ايادي فارغة” بعد توحيدها (المتأخر) عام 1871، بالرغم من امكانياتها الاقتصادية والصناعية والعسكرية.

قوى متحدة تؤدي للهدف

بطاقة بريدية تصور رؤساء دول “المركز” المتحالفة اثناء الحرب العالمية الثانية. من اليسار الى اليمين: القيصر الالماني فيلهلم الثاني، قيصر نمسا ـ المجر فرانس يوسف، السلطان العثماني محمد الخامس، القيصر البلغاري فرديناند الاول.

فهذا هو إذاً السبب الحقيقي، او بالاحرى الخيار الوحيد المتاح، بالقيام بكسب الامبراطورية العثمانية الضعيفة آنذاك كحليف استراتيجي، إذ انها ارادت منافسة الدول الكبرى الاخرى على الصعيد العالمي. ان النمو الاقتصادي السريع لالمانيا بعد توحيدها، جعلها تبحث لنفسها بجد كبقية الدول الاوربية الكولونيالية الاخرى عن “مكان تحت الشمس”، كما سمّاه مشتشار الرايش الالماني برنهارد فون بيلو عام 1897. ومن اجل اللحاق بالدول الكولونيالية الاخرى، حاولت المانيا توسيع نطاق نفوذها في الشرق، وأن لم يكن ذلك بالضرورة كقوة استعمارية.

ففي نهاية القرن التاسع عشر، حيث لم يكن بمقدور السلطنة العثمانية المتقهقرة، المحافظة على المناطق الشاسعة التابعة لها، والتي كانت تمتد من البلقان، مارة بالاناضول الى بلاد مابين النهرين وفلسطين ومصر، استغلت المانيا الفرصة بعرض  امكانياتها الكبيرة لوقف تراجع وانحطاط الامبراطورية العثمانية، مقابل الحصول على شروط تفضيلية من الناحيتين الاقتصادية والعسكرية.

تعبيراً لهذه السياسة تجاه الدولة العثمانية، بدأ أزدياد عدد المستشارين العسكريين الالمان الذين تولّوا مناصب هامة وفعالة في الجيش العثماني خاصةً قبل بداية الحرب بفترة قصيرة. وفكرة السكة الحديدية من برلين الى بغداد وتمديدها الى الخليج العربي/الفارسي، كانت نابعة من رغبة المانيا بأمكانية ايصال البضائع والقطعات العسكرية بسرعة من برلين الى الشرق، وبالعكس جلب المواد الخام من هناك الى المانيا.

وبأندلاع الحرب، اصبحت تركيا اكثر اهمية بالنسبة لالمانيا لعدة اسباب، منها:

1 ـ الرغبة في الهجوم على الانكليز في مصر وايران انطلاقاً من الامبراطورية العثمانية.

2 ـ قطع امكانية العبور للقوات الروسية من البحر الاسود الى البحر المتوسط، اي قطع اتصالها بالحلفاء الغربيين.

3 ـ والاهم من ذلك، هو الحلم الالماني بأن تصبح المانيا في نهاية المطاف قوة عظمى تضاهي بريطانيا. اذن هذا هو السبب الحقيقي للتواطئ الالماني في مسألة ابادة الارمن وتحملهم جزء من المسؤولية بذلك.

من الحهة الاخري، كانت النخبة المثقفة الارمنية في الامبراطورية العثمانية تميل بالفعل للغرب، كونها درست عبر عشرات السنين في مدارس الارساليات الانكليزية والفرنسية والامريكية. وعلينا ان نذكر هنا، بأن الدول الثلاثة، انكلترا وفرنسا وروسيا كانت تعتبر كقوة حامية للارمن، طالبت مراراً بتحسين اوضاع الارمن في الامبراطورية العثمانية، ولكن بدون جدوى.

اما المانيا فلم تحرك يوماً ما ساكناً وتطالب بذلك. وعندما اضطرت الدول الحامية للارمن سحب دبلوماسييها من القسطنطينية عند اندلاع الحرب، رفض السفير الالماني فانگنهايم تجاه بطريرك الارمن تولّي القيام بحماية الارمن لكون المانيا آنذاك هي “القوة المسيحية الوحيدة الباقية على البوسفور”. فابرق السفير تعليله بهذا الخصوص الى برلين قائلاً “اننا اذا قمنا بذلك، قد نجازف بوضع مصالحنا القريبة والاكثر اهمية في خطر”.

ذروة التواطؤ والتورط

في تشرين الثاني من عام 1918 تمكن منظم الابادة الجماعية، وزير الداخلية العثماني طلعت باشا، بمساعدة الجيش الالماني من التملّص والهروب من تركيا على متن مدمّرة المانية بأتجاه المانيا، حيث وصل الى برلين في العاشر من نفس الشهر. في عام 1919 اصدرت محكمة عثمانية في القسطنطينية عليه حكم الاعدام غيابياً. خوفاً من انتقام الارمن، استعمل انور باشا خلال اقامته في برلين اسماً مستعاراً. الا ان هذا لم ينقذه من الثأر الارمني. ففي 15/3/1921 اطلق عليه الناشط الارمني سوغومون تهليريان، قرب محطة تسو للقطارات في برلين، طلقة من مسدسه وأرماه قتيلاً.

موقف المانيا الرسمي عبر التاريخ من إبادة الأرمن

عندما أمر آدولف هتلر، الدكتاتور النازي الجزارفي 22/8/1939 ، اي قبل بدء غزو بولندا بـ 9 ايام، قادة الجيش الالماني بتنفيذ خطته بأبادة البولنديين “رجالاً ونساءً واطفالاً وبلا رحمة”، وتغطية هذه الجريمة امام الرأي العام، لم ينسى ان يضيف كتبرير لخطته، بأن لا احداً يهمه الان مصير مئات الالاف من الارمن، وطرح السؤال المجازي على الحاضرين “من يتكلم اليوم عن ابادة الارمن؟”.  قاصداً بذلك، ان ما ينوي القيام به من مجازر وجرائم بحق الشعوب الاخرى، ستصبح يوماً ما في طي النسيان. وكان متيقناً بأن لا احداً من المجتمعين له الجرأة بالاجابة على ذلك.

أن المانيا المعاصرة بدأت رسمياً في وقت متأخر نسبياً بالتحدث عما جرى للارمن في الدولة العثمانية. فالحربان العالميتان اللتان ادتا الى تدمير المانيا اقتصادياً ومعنوياً، والمشاكل والصعوبات الناتجة عن ذلك، ثم الانشغال الرئيسي في بناء دولة جديدة على الانقاض، قد تبررالى حد ما عدم الاهتمام في امور مهمة اخرى.

من جهة ثانية، ولقول الحقيقة والانصاف، نود ان نذكر هنا بأن المانيا قد تكون فريدة من بين الدول التي قامت بتقييم جدي لفترات مظلمة من ماضيها الاسود والاعتراف كدولة بالجرائم التي اقترفتها المانيا النازية بحق الشعوب الاخرى. وما الاعتراف بالابادة الجماعية لليهود الالمان والاوربيين والتعويضات السخية لهم، الا احسن مثال لذلك.

موقف شجاع وآخر جبان

بتاريخ 23/4/2015 القى الرئيس الالماني يواخيم گاوك كلمة تاريخية جريئة في اعقاب القدّاس الكاثوليكي ـ الانجيلي المشترك في كاثدرالية برلين بمناسبة ذكرى مرور 100 عام على بدء المجازر بحق الارمن، واصفاً اياها بـ “ابادة جماعية”. فكانت هذه هي المرة الاولى في تاريخ المانيا، يستعمل فيها مسؤول الماني كبيرمصطلح “الابادة الجماعية”، تعبيراً لما جرى للشعب الارمني ولاقليات قومية مسيحية اخرى.

الرئيس الالماني  يواخيم گاوك يلقي كلمته الشجاعة في كاثدرالية برلين بتاريخ 23/4/2015

ان الرئيس گاوك يبرهن هنا، وكما عهدناه، جرئته وصراحته في تسمية الاشياء بما هي عليه، غير مكترثاً بما قد تجلبه له ولبلده من ملابسات ومشاكل  دبلوماسية مع بعض البلدان. وفي سياق كلمته يرد على تساؤل مجرم الحرب هتلر عن “من يتكلم اليوم عن ابادة الأرمن؟”  بقوله الجريء: “نحن نتكلم عنها! نحن! اليوم، بعد 100 سنة، نتكلم عنها وعن جرائم اخرى ضد الانسانية وضد حقوق الانسان. نفعل هذا لكي لا يبقى هتلر على حق. ونفعل هذا، لكي لا يظن اي دكتاتوراو حاكم مستبد او اي فرد آخر، الذي يعتقد بشرعية التطهير العرقي، بأن اعماله سيتم تجاهلها ونسيانها”.

وبعكس ذلك: في جلسة البرلمان الاتحادي الالماني، التي عقدت في 2/6/2016، من اجل الاعتراف بمسؤولية المانيا القيصرية بما حدث قبل 101 سنة من مجازر بحق الشعب الارمني وبحق اقليات قومية مسيحية اخرى، غابت  المستشارة أنگيلا ميركل (بالرغم من وجودها في برلين) عن الحضور، كما وغاب كل من نائبها (وزير الاقتصاد) گابريل ووزير الخارجية شتاينماير، لعلمهم الاكيد بأن البرلمان سيقوم بأدانة تلك المجازر وينعتها بـ “ابادة جماعية”.

ان السبب الحقيقي في غياب المستشارة ميركل واعضاء وزارتها، معروف لدى الصغير والكبير في المانيا، حيث كانت، كما يقول الالمان، ومنذ ايام “تغرّده العصافير من فوق السطوح”. أنه بوضوح الانحناء امام “السلطان التركي الجديد”. وبالفعل، فقد أدان البرلمان تلك المجازر وسمّاها “ابادة جماعية”. على اثر ذلك القرار، كاد السلطان ان ينفجر من الغضب، مهدداً اعضاء البرلمان الالماني ذو جذور تركية بعواقب شخصية وخيمة لموافقتهم على القرار ومتّهماً اياهم، بأن ما يجري في شرايينهم ليس من المعقول ان يكون دماً تركياً، وعليهم فحص دمهم لاثبات جذورهم. اية وقاحة سلطانية هذه؟

ان اعتماد الحكومة الالمانية التام على تركيا في قضية اللاجئين، هو سبب خوف ميركل وحكومتها من انقرة، هذا الخوف الذي بات يخيم منذ فترة غير قصيرة على الحكومة الالمانية ويعرقلها في اتخاذ القرارات بحرية واستقلالية. والانكى من الغياب في الجلسة، هو ما جرى بعد أقرارالبرلمان الالماني تسمية “الابادة الجماعية”. فأنصياعاً لطلب اردوغان، صرح الناطق بأسم الحكومة الالمانية في مؤتمر صحفي امام الملأ، بأن الحكومة غير ملزمة قانونياً بقرارات البرلمان. يا للخجل!!  ألا نستطيع تسمية ذلك بأنه طعنة في ظهر البرلمان الالماني المنتخب ديمقراطياً من الشعب الالماني؟

كلمة اخيرة

بالرغم مما تقدم ذكره من مواقف رسمية غير انسانية لالمانيا القيصرية، بل مشاركة بعض منتسبيها في الجرائم البشعة تجاه الارمن والاقليات الاخرى، يجب علينا ان نذكر في الوقت ذاته ومن اجل الانصاف وقول الحق، بوجود المان بضمير انساني، قاموا اثناء تلك الفترة بحملات دعائية وتوعوية وتسليط الضوء على حقيقة ما يجري في السلطنة العثمانية وفضح الدور الرسمي الالماني هناك.

فمثلاً عالم اللاهوت د. يوهانّس لبسيوس، الذي القى في تشرين الاول عام 1915 كلمة نارية في البرلمان الالماني، والتي على اثرها وضعت الحكومة القيصرية كل ما يتعلق بموضوع الارمن تحت الرقابة الرسمية. ومثلاً الكاتب الشاب ارمين فيگنر، الذي تطوع كمضمد عسكري لدى الجيش الالماني في الدولة العثمانية، واصبح شاهد عيان لما جرى هناك. فوجّه رسالة مفتوحة الى الرئيس الامريكي ويلسون، يشكو فيها عن تذمره الشديد عن حملات الترحيل الاجباري للارمن الى الصحراء السورية ـ العراقية وما تعنيه بالحقيقة. كما قام بتصوير ما شاهده، مجازفاً بذلك بحياته. ان تلك الصور تعتبر اليوم من اهم الوثائق الفوتوغرافية لتلك الجرائم.

والتاريخ ينقل لنا كذلك اسماء شخصيات المانية عديدة، عملت ما بوسعها لايقاف تلك المجازر او على الاقل الحد منها. فهناك المان نشطاء في حقوق الانسان، اصدروا في فترات عديدة كتباً تحتوي على تفاصيل عن العمليات الاجرامية والمجازر التي ضاح ضحيتها حسب التخمينات لحد مليون ونصف مليون ارمني واتباع اقليات مسيحية اخرى مثل اليونانيين والسريان والكلدان والاشوريين. واشهر كتابين في هذا المجال هما للكاتبين فرانس فيرفل و ادگار هلسنرات.

سامي الياس مدالو

موقع “القوش نت”

المانيا /  تشرين الثاني 2016

Share This