القضية الأرمنية في العصر الحميدي والمعاهدات الدولية (1)

berliner_kongress 

بعد حروب دامية وصراع طويل المدى انضمت أرمينيا الغربية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر إلى الإمبراطورية العثمانية. أما الشطر الشرقي من أرمينيا فانضم في عام 1639 إلى إيران الشاهنشاهية وفق معاهدة »قصر شيرين« المبرمة بين الإمبراطورية العثمانية وإيران بشأن تقسيم أرمينيا[1].

إن »القضية الأرمنية« لها صلة مباشرة مع انهيار الدولة الأرمنية على أيدي السلاطين العثمانيين، والتي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من »المسألة الشرقية«. فمن المعلوم أن »المسألة الشرقية« وقضية »الرجل المريض«، أي الإمبراطورية العثمانية، شغلت مكاناً بارزاً في العلاقات الدولية وفي سياسة البلدان العظمى لتأثيرها في الإمبراطورية العثمانية وتقسيم أقاليمها.

إن موقع أرمينيا الجغرافي كجزء من الإمبراطورية العثمانية وكهمزة وصل بين الشرق والغرب، كان يتعارض مع مصالح البلدان العظمى، خاصة مع مصالح ألمانيا وبريطانيا، فكان عقبة أمام تحقيق »ألمانيا الكبرى«، وذلك بعرقلته السيطرة التامة على الإمبراطورية العثمانية، حسب تقدير السياسة الألمانية للأمور، لأن الحلفاء ما كانوا يريدون الشفاء ولا الموت »للرجل المريض«[2].

وقد احتدم الصراع الدولي على أرمينيا من أواسط القرن التاسع عشر مع تزايد طرح» المسألة الشرقية « التي طاولت مستقبل أرمينيا بمثل ما طاولت كل المناطق والولايات غير التركية، بما فيها المشرق العربي وبلدان البلقان. ولعل حرب القرم التي خاضتها الدولة العثمانية بدعم أوروبي ضد روسيا، والتي انتهت بمعاهدة »باريس« عام 1856، كشفت عن أولويات المصالح الدولية والمواقف السياسية وأكدت أن حقوق الشعوب منتهكة تحت وطأة سياسة القوة. ومن هذا المنظور كيف يمكن تفسير تخلّي روسيا عن أرمينيا بعد احتلالها في عام 1878، تحت الضغط البريطاني، التي قدمت للأرمن وعوداً سخية بالتحرر من النير العثماني وإقامة دولته؟

إن التخلي الأوروبي من مطالب الأرمن ومطالب الاستقلال للأقاليم الخاضعة للعثمانيين، بما فيها المنطقة العربية، ثم الدخول في لعبة »الحمايات« و»الوصايات« الطائفية بالتفاهم والتضامن مع الإدارة العثمانية كلها، من الشواهد التي تبين أولوية المصالح على المبادئ وحقوق الشعوب[3].

استخدم مصطلح »القضية الأرمنية« في الدبلوماسية الدولية بعد الحرب الروسية -التركية في الأعوام 1877-1878، حيث جرى الاعتراف بالقضية الأرمنية رسمياً في معاهدة »سان استيفانو« في 3 آذار عام 1878، والتي شكلت منعطفاً مهماً في تدويل القضية الأرمنية. فمن المعروف أن الإمبراطورية العثمانية أصبحت مسرحاً لمصالح وصراع الدول العظمى، التي استخدمت وضع الأقليات المسيحية وخاصة وضع الأرمن كذريعة  للتدخل في شؤون الإمبراطورية العثمانية والضغط على الباب العالي انطلاقاً من أهداف سياسية واقتصادية[4].

هذا ومرت القضية الأرمنية في القرنين التاسع عشر و العشرين مراحل متكاملة في الدولة العثمانية، وتميزت، كما نعلم، بقسوتها وخساراتها الإنسانية والمادية الفادحة. وقد تم ذلك على امتداد الإمبراطورية العثمانية عبر ثلاث مراحل وهي: مرحلة حكم السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1908)، مرحلة حكم حزب الاتحاد والترقي (1909-1918) ومرحلة حكم الكماليين (1919-1923). خلال هذه الفترة غدت المذبحة وتصفية الجنس الأرمني، كما سنرى، الآلية الرسمية لتلك المراحل وأصبح التخلص منه ضرورة سياسية بقدر ما هي اقتصادية وعرقية بقدر ما هي دينية.

بالرغم من أن الأرمن عاشوا في كنف الإمبراطورية كمواطنين من الدرجة الثانية، ولكن معظمهم عاش في سلام نسبي مادامت الإمبراطورية قوية ولها نفوذ كبير. وفي نتيجة انهيار البنية الإدارية والاقتصادية والعسكرية تدريجياً في الإمبراطورية لأسباب خارجية وداخلية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر[5]، ازداد الاستغلال والكراهية للأرمن، وأسرع النظام بالانهيار بسبب تقصير العثمانيين عن مواكبة النظام الرأسمالي والتحديث والإصلاح المتصاعد في الغرب[6]. وأدى كل ذلك إلى إفلاس النظام في عام 1870 ما فتح المجال واسعاً للرأسمال الأوروبي للتغلغل في الامبراطورية من عام 1881.

في هذه المرحلة رافق الفساد في الدولة العثمانية نهضة ثقافية وسياسية في أوساط الرعايا، الذين تأثروا بالثورة الأوروبية والتيارات الرومنطيقية، والذي أدى إلى حركات تحريرية في أرجاء الامبراطورية مدعومة من قبل عدد من الدول الأوروبية. وسرعان ما فقدت الامبراطورية في القرن التاسع عشر أغلب الأقاليم في البلقان وأعطي »للمسألة الشرقية« مظهراً واحداً: بالتحديد ذلك الذي سيحلّ بالإمبراطورية العاجزة.

إن تنافس الدول العظمى واستثمارها الاقتصادي في الإمبراطورية أدى إلى بذل الجهود لجعلها ضعيفة وسوقاً رابحةً[7]. وأصبحت بريطانيا تتخوف من انهيار الدولة الذي كان يهدد سيادتها على البحار، واقتنعت بأن إجراء التغييرات الإدارية والسياسية وإزالة المفاسد الحكومية في الإمبراطورية ستؤدي إلى إنقاذ الدولة من الانحلال. فهذا التخوف البريطاني وطموحات داخلية من العثمانيين الأحرار في آخر المطاف أدت إلى إصدار مراسم الإصلاحات بين أعوام 1839-1876، والمعروفة في التاريخ بعهد »التنظيمات«.

إن هذه الإصلاحات التي كانت، حسب المعلومات التاريخية، تضمن أمن وأملاك وشرف الشعوب الإسلامية وغير الإسلامية، نُفذت نسبياً وما قامت بتغييرات جذرية في المجتمع العثماني متعدد الأجناس نتيجة النزعات المتصلبة الشديدة من قبل فئات لا ترغب في التغييرات  بالبنية السياسية والإدارية في الدولة.

بعد إعلان الإصلاحات وأحداث اليونان تم انسحاب اليونانيين العاملين لدى الباب العالي، جرى إملاء هذا الفراغ من الأرمن بصفتهم كثاني ملة غير مسلمة بعد اليونانيين كان لهم اعتراف رسمي من النظام العثماني[8]. وأصبح الأرمن من تلك الفترة من الموظفين المفضلين ما أدى إلى ازدياد عددهم عاماً بعد عام في الإدارة العثمانية، هكذا خلفوا شيئاً فشيئاً اليونانيين داخل الإدارات الرسمية للامبراطورية[9]، وخاصة أن الأرمن ما كان لديهم في تلك الفترة فكرة الانفصال والاستقلال، بالعكس كانوا يقدمون الولاء للسلطان وبإنكار تلك المطامع كانوا يرغبون في تحقيق الحماية للشعب الأرمني وممتلكاته من الموظفين الفاسدين والعصابات[10]. وبهذه المناسبة يجب القول: إن الأستانة في مرحلة ما قبل التنظيمات أصبحت من المراكز الأساسية لبروز الأرمن في مجال التجارة والحرف. وفي نتيجة تعاونهم مع الحكومة العثمانية تشكلت في الأستانة طبقة من الأثرياء الأرمن الذين منحهم البلاط العثماني لقب الأمير – Amira. والجدير بالذكر أن العامل الذي كان يحدد الحصول على هذا اللقب التشريفي هو الثروة ومدى استفادة الحكومة العثمانية منها[11]. وابتكر الأرمن في مجال المصارف والمشاريع الصناعية وإنشاء مصانع البارود السلطاني والنسيج والورق والعمارة والبناء وجميع مجالات الاقتصاد. وانخرط الكثير من الأرمن في الهيئة التوظيفية العثمانية وشغلوا أعلى الوظائف بسبب استعدادهم لخدمة الدولة وافتقارهم إلى طموحات الاستقلال. كما تقلدوا في مناصب وزراء ودبلوماسيين ومجالس الدولة و غيرها[12].

وعاش الأرمن فترة طويلة من النهوض الثقافي. إذ تسجل الآلاف من الشبان الأرمن في المدارس التي تأسست في القرن التاسع عشر من قبل المبشرين الأوروربيين والأمريكان. وبدأت مرحلة تعليمية للشباب الأرمن خارج الامبراطورية في أوروبا، الذين تأثروا كثيراً من القيم والعلوم والفلسفة السياسية والاجتماعية الأوروبية. وبعد عودتهم انهمكوا بدورهم في مهن التدريس والمسرح والصحافة والنقد …الخ. فانتشرت شبكة من المدارس الأرمنية والجرائد في الأستانة وإزمير وكيليكيا[13].

اقتصر ازدهار الأرمن في الامبراطورية على سكان المدن الكبرى فقط. إلى جانب هذا التطور في المدن عاش الأرمن في المناطق البعيدة، أي بالأحرى في الولايات الشرقية في وضع قاسٍ للغاية، وضاقت حياتهم بسبب دفع الضرائب الثقيلة، وساد الفقر، وتعرضوا للاضطهاد واعتداءات القبائل المشاكسة من الأكراد والجركس. ومن جهة أخرى حروب العثمانيين والروس والفرس الجارية هناك بدورها أدت إلى تأزم الوضع الاقتصادي وهجرة السكان الأرمن إلى الأستانة وغيرها[14].

وبهذه المناسبة يجب القول: إن الإدارة العثمانية بدأت خاصة من أواسط القرن التاسع عشر بتجنيد القبائل الكردية ورؤسائهم ضد الأرمن لأهداف سياسية واقتصادية. لقد عاش هذان الشعبان قروناً طويلةً جنباً إلى جنب وكان التعاون بينهما من أعقد المشاكل التي أقلقت المستبدين في هذا العهد. وطغت في قصر السلطان تدريجياً فكرة جهنمية لبذر الحقد وتحريض الآغوات الأكراد ضد الأرمن، والذين كانوا يقومون بواجبين أساسيين تجاه السلطة المركزية وهما: دفع الضرائب والانضمام إلى الجيش التركي في حالة الحرب مع توليهم الزعامة الدينية والمدنية. وفي الوقت نفسه قامت الدولة التركية بإثارة العداوة الدينية بين الأرمن والأكراد، والتي لعبت دوراً كبيراً في الصدامات الأرمنية – التركية[15].

استخدم العثمانيون هذا النهج في الولايات الشرقية، أي تحويل أغلبية الحركات في الإمبراطورية إلى نزعات دينية بين المسيحيين والمسلمين – بين الهلال والصليب لمدة طويلة وخاصة من النصف الثاني من القرن التاسع عشر لغاية الربع الأول من القرن العشرين. وعدا ذلك كانت الإدارة العثمانية تحرض زعماء الأكراد للاستيلاء على ممتلكات الأرمن وأراضيهم. ومن أجل تعميق الخلافات بينهما، وزيادة الشرخ والخصومات، لجأ السلطان عبد الحميد إلى سياسة الحيلة والخديعة، وذلك عبر تشجيع الأكراد من جهة على قتل الأرمن ونهبهم، بينما يصرح علناً من جهة أخرى بعدم رضاه عن الأكراد ويتوعد بالعقاب لاعتداءاتهم على الأرمن[16]. وأدت كل هذه العوامل في النهاية إلى توريط الأكراد في قتل الأرمن واستخدامهم كرأس حربة في النزاعات الجارية في المناطق الأرمنية خلال المرحلة المذكورة.

 بعد إصدار »التنظيمات« والاستياء واسع الانتشار منها، فضلاً عن إجراءات الانتقام الصارمة ضد المتمردين من شعوب البلقان، كان السبب الأساسي للتدخل الأوروبي في الإدارة العثمانية. ففي ظروف تطور الطبقات الرأسمالية والتعليمية والتنويرية في الأستانة والتدهور الملحوظ في الولايات الشرقية، بدأ اهتمام البريطانيين، كما رأينا، أكثر من غيرهم بالأرمن، اهتمام أملته عليهم أطماعهم السياسية التي فرضت عليهم ضرورة استمالة عنصر من عناصر الإمبراطورية، لغرض تحقيق مصالحهم الجديدة في منطقة الشرق الأوسط[17].

إن سياسة الإدارة العثمانية القمعية أدت في ستينيات القرن التاسع عشر إلى حركات تحررية في أرمينيا الغربية – في وان وزيتون في عام 1862 وفي موش  في عام 1863 والخ[18]. وأصبحت أرمينيا مسرحاً لسلسلة من الفظائع إبان الحرب الروسية – التركية في أعوام 1877- 1878 والتي انتهت بانتصار القيصرية الروسية. ففي جبهة البلقان تقربت القوات الروسية من الأستانة، أما في جبهة القوقاس فاحتلت الجيوش الروسية تقريباً كل أرمينيا الغربية. فكان عدد السكان الأرمن في أرمينيا وفي مناطق أخرى من الإمبراطورية آنذاك يبلغ حوالي 3 ملايين وكانوا يتعرضون لاضطهاد وضغوط عرقية واجتماعية واقتصادية وسياسية ودينية من  السلطات التركية. ودفع انتصار الروس في الحرب نوعية جديدة لنضال الشعب الأرمني للتخلص من نير الامبراطورية العثمانية ومن أجل توحيد شطري أرمينيا تحت رعاية القيصرية الروسية[19]، فطموحات هذه الدولة في الجبهة الشرقية وتوسيع نفوذها واحتلال مناطق من الإمبراطورية العثمانية كانت تتطابق كلياً مع مصالح الأرمن. وعلى صعيد آخر وبجهود بعض القادة العسكريين الأرمن في الجيش الروسي أمثال لوريس ميليكيان ودير غوكاسيان ولازاريان وغيرهم تم تحقيق انتصار القوات الروسية في جبهة القوقاس. وبعد تحرير بلغاريا أبدى الدوق الأكبر نيقولاي تاييده لمطالب أرمن الإمبراطورية، التي تقدم بها البطريرك نرسيس فارجابيطيان، وهي كانت مطالب متواضعة ولذلك حظيت بتشجيع الباب العالي، الذي كان يخشى أن يعمد الروس إلى ضم الأراضي المحتلة في أرمينيا الغربية بصورة نهائية إلى القيصرية الروسية[20].

لم يسعَ الأرمن في الإمبراطورية العثمانية إلى الانفصال أو الاستقلال عن الدولة العثمانية، بل طالبوا فقط بإجراء إصلاحات داخلية في الولايات الأرمنية الست التي شكلت ما عُرف بـ »أرمينيا الغربية« في نطاق بقائهم ضمن الدولة العثمانية[21]. في الواقع لم يطمح الأرمن إلا للحصول على حقوق وواجبات مساوية لحقوق الأتراك وواجباتهم، وفي الوقت ذاته برز استياء الأرمن من أوضاعهم خلال الحرب الروسية – التركية نتيجة هجمات الأتراك والأكراد والشركس على قراهم، ما أدى إلى ترحيبهم بالجيش الروسي تحت قيادة الجنرالات الأرمن واشتراك المتطوعين الأرمن من أرمينيا الروسية. وبحلول عام 1878 سيطرت الجيوش الروسية، كما قيل، على أغلبية أرمينيا الغربية. آنذاك طلبت الحكومة التركية وقف القتال وبدء المفاوضات في 31 كانون الثاني 1878[22].

وعندئذ ازدادت قناعة الأرمن بعدم جدية السلطات العثمانية في تنفيذ الإصلاحات في الولايات الأرمنية، وخشوا تنكيل الإدارة العثمانية بهم نتيجة مشاركة أرمن روسيا في الحرب ضد الامبراطورية العثمانية. وفعلاً بمجرد وقف القتال بين الطرفين، بدأت التعديات على الأرمن في شرق الأناضول من الأتراك والأكراد والشركس. ولذا ناشدت  النخبة الأرمنية في الأستانة القيادة الروسية لتبنى مستقبل الأرمن الغربيين في مباحثات السلام. وتلبية لمطالب الأرمن شملت معاهدة الصلح بين القيصرية الروسية والامبراطورية العثمانية نصاً بخصوص أرمينيا الغربية[23].

هذا وتكللت جهود القيادة الأرمنية جزئياً بالنجاح، حيث تضمنت معاهدة »سان استيفانو« المبرمة في 3 آذار عام 1878 بين روسيا والحكومة العثمانية المادة »16« ، التي نصت على »تنفيذ الاصلاحات وضمان سلامة الأرمن من اعتداءات الأكراد والشراكسة، وألا تنسحب القوات الروسية من المناطق التي احتلتها في أرمينيا الغربية حتى تقوم الحكومة العثمانية بتنفيذ تلك الاصلاحات فوراً«[24]. كما نصت المادة »16« أيضاً على: »منح السلطان بالاتفاق مع القيصر حكماً ذاتياً محلياً للولايات التي يسكنها الأرمن وهي وان وبيتليس وأرضروم ودياربكر ومعمورة العزيز (خاربيرت) وسيفاس«[25]. وبموجب بنود معاهدة »سان استيفانو« احتفظت روسيا بأقاليم قارص وأرداهان والاشكيرط وبايازيط من أرمينيا الغربية وتعهدت بإعادة أقليم أرضروم إلى الدولة العثمانية[26].

هذا وطُرحت القضية الأرمنية لأول مرة في معاهدة »سان استيفانو«، التي كانت تسعى لإجبار السلطة العثمانية القيام بالإصلاحات رسمياً تحت رعاية روسيا. وفي الوقت نفسه انضمام بعض المقاطعات الأرمنية لروسيا كان يضمن إمكانية تطوير الحياة الاقتصادية والثقافية لتلك المناطق وتحريرها من حكم السلاطين العثمانيين. ولكن سرعان ما خابت آمال الأرمن، فمن المعلوم أن هذه الاتفاقية أُبرمت في ظروف وعلاقات معقدة بين الدول العظمى، التي أدت في آخر المطاف إلى فشلها.

عارضت هذه الاتفاقية بالدرجة الأولى بريطانيا حليفة الإمبراطورية العثمانية، التي كانت ترغب في منع ضعضعة الحكومة العثمانية أياً كان الثمن، وبادرت بعقد مؤتمر دولي جديد في برلين في العام نفسه، وتمكنت من إجبار روسيا التخلي عن هذه الاتفاقية وتدبير معاهدة جديدة[27]. وفي 4 حزيران 1878 وقعت بريطانيا مع الإمبراطورية العثمانية اتفاقية قبرص السرية، ووفقها حملت حكومة بريطانيا تركيا على التنازل لمصلحتها عن جزيرة قبرص، وذلك تعويضاً لجهودها المبذولة في سبيل الحد من المطامع الروسية وتأمين انسحاب القوات الروسية من الولايات الأرمنية[28]. وكانت القوى العظمى الأوروبية أيضاً ترى أن معاهدة »سان استيفانو« تصب في مصلحة روسيا وتهمش مصالح الدولة العثمانية وأوروبا، لأن الاتفاقية وضعت البحر الأسود تحت السيطرة الروسية كاملاً، وتركت للإدارة التركية استقلالاً صورياً. وأصبح من الضروري مراجعة الاتفاقية[29].

وقامت بريطانيا بتحريك الدول الأوروبية لدعمها بإثارة مخاوف روسيا بالتهديدات الحربية. وحينئذٍ اقترح المستشار الألماني بسمارك عقد اجتماع أوروبي لتسوية المسألة الشرقية وإعادة النظر في بنود معاهدة »سان استيفانو« وتعديلها. بدءاً من 13 حزيران ولغاية 13 تموز عام 1878 انعقد مؤتمر دولي في برلين بمشاركة ممثلي الدول الأوروبية. ووصل برلين وفد أرمني بموافقة شكلية من الحكومة العثمانية برئاسة البطريرك مكرديتش خريميان للمشاركة في أعمال المؤتمر، وطرح مطالب الأرمن في الامبراطورية العثمانية[30]. وبالرغم من أن الوفد الأرمني لم يستلم أي ضمانات من الحكومات الأوروبية، وصل إلى برلين، بيد أن بسمارك رفض دخوله قاعة المؤتمر. واضطر الوفد الأرمني بتقديم ورقة خطية عن أحوالهم التعيسة ويأسهم من عدم تنفيذ الاصلاحات التي وعدت بها السلطات العثمانية في الولايات الأرمنية.

إن المصالح المشتركة والمعادلات الدولية الجديدة واهتمام الدول الكبرى بقضايا سياسية أخرى أطاحت بطموحات الأرمن، واستبدلت المادة »16« بكل إيجابياتها من معاهدة »سان استيفانو« بالمادة »61« من معاهدة »برلين« الغامضة التي أثارت صعوبات وأسئلة جديدة للقضية الأرمنية  عامة ولوضع الأرمن خاصة. لقد نصت معاهدة »برلين« على أن »يتعهد الباب العالي من دون أي تأخير، بتحقيق الإصلاحات وإدخال التحسينات التي تقتضيها ظروف المقاطعات التي يقطنها الأرمن، وبضمان سلامتهم، وسيقدم الباب العالي -دورياً- بياناً بالخطوات التي يتخذها بهذا الصدد إلى الدول المعنية بمراقبة عملية تنفيذ هذه الطلبات«[31].

بمقارنة سريعة بين نصوص معاهدتي »سان استيفانو« و»برلين« سنجد تراجعاً واضحاً، إذ لم يعد الآن تطبيق الإصلاحات مرهوناً بانسحاب الجيوش الروسية، كما اشترطت المادة »16«، إضافة إلى ذلك إن مهمة الإشراف على تنفيذ الإصلاحات قد أُنيطت بمجموعة الدول. الفائدة الوحيدة، كما قيل، من المادة »16« والمادة »61« أنهما ساهمتا في إخراج القضية الأرمنية، من نطاق إقليمي – محلي إلى الصعيد الدولي[32].

لم يناقش مؤتمر برلين الحكم الذاتي لأرمينيا الغربية وألغيت الحماية الروسية. فوفق المادة »61« أصبح تنفيذ الإصلاحات الموعودة في أرمينيا الغربية خاضعاً لرقابة دولية وليس لدولة واحدة كما ما كانت تنص عليه معاهدة »سان استيفانو«، بل مجموعة دول يسود بينها خلاف دائم[33]. فالدول الأوروبية العظمى التي كانت مهتمة بمصالحها ما قامت بالواجب بشأن تطبيق الإصلاحات الناجمة عن معاهدة »برلين« في المناطق الأرمنية، لذا وبصفة غير مباشرة أصبحت لاحقاً مصدر كل تعقيد أحاط بالقضية الأرمنية، وأدى إلى ويلات جديدة في الولايات الأرمنية.

بكل الأحوال، لم تقم الحكومة التركية بأي إصلاحات، بل على العكس، ضمن السلطان الأحمر مكسباً له من تسابق الدول الكبرى لكسب الإمبراطورية العثمانية حليفاً لها، شجعته في ذلك السياسة الألمانية. وهذا ما سمح للسلطان الأحمر أن يتبنى سياسة تنكيل متكاملة الأهداف تسعى إلى المجازر ضد الأرمن. وكان ذلك بمنزلة الضوء الأخضر لارتكاب المذابح الأرمنية التي استمرت 30 عاماً[34].

* ينفرد موقع “أزتاك العربي للشؤون الأرمنية” بنشر مقاطع كتاب “شهادات غربية عن الإبادة الارمنية في الإمبراطورية العثمانية” إعداد ومراجعة ودراسة: البروفيسور-الدكتور آرشاك بولاديان، دمشق – 2016، (3).

1-أ. د. هوفهانيسيان نيقولاي ، العلاقات التاريخية الأرمنية- العربية، القاهرة، 2008، ص24.

2- برنس موسى، مجازر الأرمن جرائم ضد الإنسانية، حلب، 1996، ص 47.

3- الدكتور حسين عدنان السيد، حق تقرير المصير، ص 57-58.

4- القضية الأرمنية، موسوعة، يريفان، 1996، (باللغة الأرمنية)،ص 232.

5- زهر الدين صالح، سياسة الحكومة العثمانية في أرمينيا الغربية وموقف القوى الدولية منها، بيروت، 1996، ص 26-28.

6- هوفهانيسيان ريتشارد، المسألة الأرمنية (1878-1923)، ج 3، جريمة الصمت (جريمة إبادة الجنس الأرمني)، تأليف نخبة من الباحثين والعلماء، ترجمة عزازيان هوري، اللاذقية، 1995، ص 29.

7- نفس المكان، ص 30.

12- الإمام محمد رفعت، الأرمن في مصر،  القرن التاسع عشر، القاهرة، 1995، ص 28.

13- جيرا فينها ح س.، إنجلترا والأرمن 1839-1904، القاهرة، 2009، ص 17.

14- هوفهانيسيان ر.، المسألة الأرمنية، ص 30.31.

15- الإمام محمد رفعت، الأرمن في مصر، ص 28-29.

16- نفس المكان، ص 29-30.

17- هوفهانيسيان، المسألة الأرمنية، ص31.

18- الإمام محمد رفعت، الأرمن في مصر، ص31.

19- زهر الدين صالح، سياسة الحكومة العثمانية، ص 49-50.

20- نفس المكان، ص 57-58: للمزيد من التفاصيل عن العلاقات الأرمنية-الكردية، انظر: بايبورديان فاهان، العلاقات الأرمنية –الكردية في الامبراطورية العثمانية (باللغة الأرمنية)، يريفان، 1989.

21- جرافينها ج س، إنجلترا، ص 17.

22- القضية الأرمنية (موسوعة)، ص 232-233.

23- نفس المكان.

24- انظر داسنابيديان هراج، القضية الأرمنية، بيروت، 1984، ص9، جرافينها ج س.، أنجلترا والأرمن، ص 46.

25- انظر برنس موسى، مجازر الأرمن، حلب، 1996، ص 61، د. الإمام محمد رفعت، القضية الأرمنية في المعاهدات الدولية، القاهرة، 2014، ص7.

26- انظر د. الإمام محمد رفعت، الأرمن والغرب والإسلام، القاهرة 2008، ص 22.

27- نفس المكان.

28- جرافينها ج س.، انجلترا والأرمن، ص 31-34، د. الإمام محمد رفعت ، القضية الأرمنية في المعاهدات الدولية، ص 8.

29- انظر الإمام محمد رفعت، الأرمن والغرب والإسلام، ص23.

30- انظر نفس المؤلف، القضية الأرمنية في المعاهدات الدولية، ص 8.

31- داسنابيديان هراج، القضية الأرمنية، ص 10.

32- نفس المكان.

33- جرافينها ج س.، إنجلترا والأرمن، ص 33-35.

34- – نفس المكان، ص 35-40، انظر أيضاً: القضية الأرمنية (موسوعة)، ص 233.

35- المدور مروان، الأرمن، ص 397، انظر د. الإمام محمد رفعت، القضية الأرمنية، ص10، داسنابيديان هراج، القضية الأرمنية، ص11، د. شرف جان، القضية الأرمنية في السلطنة العثمانية – في كتاب: القضية الأرمنية في الفكر اللبناني، بيروت، 2000، ص 22-23…

36- المدور مروان، الأرمن، ص 397.

37- نفس المكان، 396-397، حسين عدنان السيد، حق تقرير المصير، ص 61-64، داسنابيديان هراج، القضية الأرمنية، ص 11، انظر أيضاً: الإمام محمد رفعت، الأرمن والغرب والإسلام، ص 24-25.

38- برنس موسى، مجازر الأرمن، ص 61-62.

Share This