المايسترو هاروت فازليان: أنا متطرّف موسيقياً .. والموسيقى سلاحي

img_0337_resize

إليكم حوار مع المايسترو اللبناني الأرمني هاروت فازليان أجرته سليمى شاهين، ونشر في “الجريدة”.

أخبرنا عن نشاطاتك الموسيقية في هذه الفترة.

ننظّم مع الأوركسترا الفيلهارمونية اللبنانية نحو 32 حفلة سنوياً. وفي كلّ سنة، أحاول إدخال إضافات جديدة تنال استحسان الجمهور. وقبل سنتين قدّمنا لأوّل مرة في لبنان أوبرا مع مغنّين لبنانيين وأوركسترا لبنانية. كذلك قدّمنا السنة الماضية مشاهد من أوبرات عالمية، أما هذه السنة فنقدّم أوبرا «كارمينا بورانا» المشهورة لكارل أورف ليومين متتاليين. كنا بحاجة طبعاً إلى كورال متخصّص للأمسية وشاءت المصادفات أنني كنت في زيارة الى أرمينيا تحضيراً لحفلة الفنانة جوليا مع الأوركسترا الفيلهارمونية الأرمنية، وتحدثت إلى أصدقائي عن تعاون منشود مع كورال الجمهورية الأرمنية وكنت على معرفة بقائد الكورال أوهانيس تشيكيجيان الذائع الصيت. أذكر أنني حضرت حفلةً له في اليونسكو في لبنان حين كنت طفلاً عام 1974 وكان التعاون معه حلماً دائماً لي. وحين تباحثت معه في الأمر أبدى استعداداً لاحضار الكورال إلى لبنان والمساهمة بتكاليف السفر، وشاءت الظروف أن يصادف في الأسبوع نفسه احتفال بالسنة العشرين لسيامة بطريرك الأرمن الأرثوذكس آرام الأول.

-ما المميز في الأمسية هذه؟

صحيح أنها ليست المرة الأولى التي تقدّم فيها «كارمينا بورانا» في لبنان، فقد قدمت في بعلبك سابقاً، ولكن ما يميزنا هو أن قوام الفرقة الموسيقية والمغنين من المواهب اللبنانية فحسب، وسنقدم الأمسيتين في كنيسة القديس يوسف في بيروت.

-لماذا حفلاتك عموماً مجانية وما صعوبة تقديمها في كنيسة؟

حين أسس الدكتور وليد غلمية الأوركسترا أرادها ألا تتوخى الربح كونها مؤسسة تابعة للدولة. كثر يؤمنون بضرورة فرض رسم معين ولكن برأيي إذا كان بوسعنا كموسيقيين أن نعطي فرصة لإظهار المواهب الموسيقية المحلية وتقديم أعمال موسيقية للجمهور أسبوعياً، أعلينا أن نتخاذل عن أداء هذا الدور الجميل؟ أما لماذا هذا الموقع بالذات فلسبب بسيط هو أننا في بداياتنا كنا نقيم الحفلات في اليونسكو ولكن لم تكن التقنيات السمعية (الاكوستيك) فيها جيدة، لذا ولكوني عزفت في الكنيسة هذه سابقاً اقترحت على غلمية إقامة حفلاتنا فيها لأنها تستوفي الشروط التقنية فضلاً عن اتساع المكان لتسعين عازفاً تقريباً، ولنا 16 سنة في الموقع هذا.

-ماذا عن الإقبال؟

يقول البعض إن جمهورنا العربي لا يحبّ الموسيقى الكلاسيكية، لأننا لا نلجأ إليها إلا في المناسبات الرسمية أو في مراسم التأبين. وقد يذهب البعض إلى حد اعتبارها خياراً للمسنين فحسب. طبعاً أرفض هذه المعطيات المغلوطة كافةً وأكبر برهان هو أن عدد المقبلين على حفلاتنا في تزايد دائم. تكمن المشكلة في أنّ وسائل الإعلام لا تقدّم للمشاهد خيارات موسيقية كثيرة على التلفزيون. تجده إذاً مرغماً على متابعة المعروض ولكنه قادر تماماً على الحكم على صوابيته من عدمها، أي أنه يجيد التمييز بين الأعمال الجيدة وتلك السيئة. حين يحضر حفلات جوليا بطرس مثلاً، حيث لا تسويات على حساب الجوهر، يعرف أنها على مستوى مختلف تماماً عما يقدّم له على الشاشات.

الفن بحاجة الى عنصرين برأيي: أولاً الانضباط وهو ما كان متوافراً دوماً لدى العمالقة كبيتهوفن والسيدة فيروز مثلاً فهي كانت منضبطة للغاية وتعرف ما تريد موسيقياً. أما العنصر الثاني فهو انتفاء التسويات في أيّ عمل ناجح. لا يمكن تطبيق معادلة «ماشي الحال» في أي عمل ناجح فأنت تسعى بجوارحك كافة إلى الكمال والمثالية في هذه الأعمال، وإن بلغته نسبياً.

ما هي مآخذك على الصعيد الفني عربياً؟

لدينا مشاكل كثيرة على الصعيد الفني في لبنان والعالم العربي عموماً. رسالتي في الدكتوراه هي حول التربية الموسيقية. واجبنا تربية أجيال من المستمعين «الأذكياء». فلنفكر في الأجيال المقبلة وفي مصلحتهم وليس في احتلال المناصب فحسب، وهو ما يحصل للأسف من دون أي تخطيط واعٍ لبناء أجيال مثقفة.

-وما أهمية الموسيقى للمجتمع العربي تحديداً؟

تكمن الأهمية في التجربة المشتركة التي تنتجها الموسيقى. لماذا يقصد أي إنسان المسرح أو الحفلات الموسيقية؟ طبعاً ليكون جزءاً مما توفره من تبادل في الطاقة. إنها تجربة مشتركة رائعة وأدعو لها في محاضراتي الجامعية. قد تستغربون وجود عدد كبير من متذوقي الموسيقى الكلاسيكية في لبنان كباراً وصغاراً.

أنت من مؤيدي إدراج الموسيقى في المناهج التربوية إذاً؟

طبعاً، ولكنني مع استقدام أهل الاختصاص وليس مع تحويل حصة الموسيقى أو الفنون إلى ساعة لهو وتسلية، وهو ما يحصل غالباً للأسف، إذ ليس كل عازف بالضرورة معلماً لأن التعليم مهنة صعبة، خصوصاً تعليم الأطفال.

-أيرتاح الموهوب موسيقياً أكثر في البلدان الغربية فيما يتعذّب في بلداننا العربية؟

العذاب أمر طبيعي وهو جزء من مسيرة النجاح. لي 30 سنة في قيادة الأوركسترا وكلّ سنة أشعر بأنني في تعلّم مستمر. أنا تلميذ أزلي على غرار مايكل أنجلو. تزعجني في لبنان مثلاً تلك الألاعيب السياسية التي تمارس خلف الأبواب. إن صبّت هذه الألاعيب في مصلحة العمل أو المنصب لما كنت مزعوجاً أبداً، ولكن يحصل العكس غالباً. أؤيد قيام المناظرات لنيل المناصب مثلاً. لمَ لا نقيم في بلداننا العربية مناظرات علنية لإقناع الجمهور بمناسبة الشخص للمنصب الذي يطمح إلى احتلاله؟

-لماذا لا نراك إلا في حفلات موسيقية مع جوليا؟

أولاً، لأنها فنانة من طراز فريد. أسمعها غالباً بأنني محظوظ لوجودي على قاب قوسين منها على المسرح حيث أشعر كأنها تغني لي وحدي. أختار جوليا كذلك لأنّ أغاني زياد بطرس تصلح للعمل الأوركسترالي، أي يمكن تطعيمها بالمنهج الأوركسترالي الغربي. وشخصياً، أحبّ التعاون مع الكبار، فقد قدّر لي العمل في حفلات السيدة فيروز وكان الأمر أشبه بالسحر. كنت طفلاً أتفرج مندهشاً أمام هذا الدفق كله من الموهبة لأجدني بعد فترة أقود الأوركسترا مع هذه «الهالة» أو«القامة الفنية» نفسها. شعور لا يوصف بصراحة.

-أيّ دور تؤديه كموسيقي في المجتمع؟

الموسيقى سلاحي. أحارب بها وأسعى إلى بناء عالمٍ أجمل. أنقل عبرها موهبتي وأتشارك في الجمال. والمسرح هو المكان الوحيد الذي يعريّ المواهب، فإما أن تؤدي بإبهار أو أن تسقط سقطةً مدوية.

-هل من نصيحة تقدمها للجيل الموسيقي العربي؟

علّمني والدي أولاً أن أكون شغوفاً بما أفعل. الشغف هو مفتاح النجاح، والفنان الحقيقي متطرّف في شغفه. المسألة بالنسبة إليه حياة أو موت وليس «ماشي الحال». الطبيب الجراح مثلاً لا يقول «ماشي الحال»، لمَ لا نطبق هذه النظرية على الفن أيضاً؟ فأي خطأ هو بمثابة إجرام هنا أيضاً فكرياً ومعنوياً. لعل الخطأ هنا ليس بمستوى الخطورة نفسه، ولكنه برأيي جرم.

-هل تشجع أولادك على امتهان الموسيقى؟

نعم شرط أن يريدوا ذلك. هي حياة واحدة نحياها، لذا علينا أن نحياها كما نريد.

Share This