القضية الأرمنية في عصر حزب الاتحاد والترقي

poladian-book

خلال مظالم السلطان عبد الحميد لسنوات طويلة، وبالتزامن مع نشاط الأرمن ازداد نشاط المعارضة السياسية التركية وتنظيماتها، التي لم تعد تطيق الحكم الحميدي، حيث تأسست جمعية »تركيا الفتاة«، ثم تلتها عام 1895 تشكيل لجنة »الاتحاد والترقي« تهدف إلى انقلاب ضد النظام الحميدي.

بدأت المعارضة التركية تتقوى وتترسخ في أواسط شرائح تركية مختلفة من المنفيين والهاربين من مظالم السلطان عبد الحميد، الذين وجدوا آنذاك ملجأً في أوروبا. فمن أوائل القرن العشرين جرت اتصالات بين قيادة تنظيم جمعية »تركيا الفتاة«، الذي سمي لاحقاَ  »الاتحاد والترقي«، الطاشناق الأرمني، العرب، الألبان، اليهود والأكراد. وعقد في عام 1902 في باريس لهؤلاء القيادات والليبراليين العثمانيين أول مؤتمر يهدف إلى إقامة دولة دستورية تحقق المساواة بين كافة القوميات والأديان في الإمبراطورية العثمانية[1]. وبعد سلسلة من اللقاءات اتفق حزب الطاشناق مع الأتراك الليبراليين وممثلي حزب »الاتحاد والترقي«  (الشباب الفتاة) على العمل معاً للإطاحة بالسلطان عبد الحميد، ولقيت هذه الأفكار أنصاراً لها في أوساط ضباط الجيش التركي في مقدونيا وغيرها.

وفي 8 تموز عام 1908 بعد زحف الجيش التركي من مقدونيا إلى الأستانة قام حزب »الاتحاد والترقي« بزعامة أنور باشا ونياري باشا بانقلاب أطاح بالسلطان عبد الحميد وأرغموه على العمل من دون أي تحفظ بدستور عام 1876، الذي ولد ميتاً[2]. وشاركت في تلك العملية جميع القوى السياسية والأقليات المعادية لنظام عبد الحميد ومن بينهم الأرمن. بعدئذٍ بدأ بالعودة أعضاء حزب »الاتحاد والترقي« من المنفى، وشغلوا مناصب في الأستانة. وهكذا تحولت الإمبراطورية العثمانية إلى ملكية دستورية، وجرت انتخابات برلمانية، واستلم الأرمن في البرلمان الجديد 10 مقاعد[3]. وأقر الدستور الجديد المساواة والحريات والضمانات لجميع الفئات في الامبراطورية ما أدى إلى تقارب وتآخي الأتراك والأرمن واليونانيين والعرب والأكراد بضعة أشهر في جميع أرجاء الإمبراطورية[4].

قبل وصول هذا الحزب إلى سدة الحكم قام بدعايات واسعة النطاق بشأن حقوق الإنسان والمساواة ومنح جميع شعوب الإمبراطورية الحريات الأساسية، والعمل معاً من أجل بناء دولة عصرية تشارك فيها كل قومية بمقوماتها وحضارتها ضمن دولة واحدة. ولذا منذ بداية نشاط حزب »الاتحاد والترقي« سواء في المنفى أم في داخل حدود الدولة العثمانية، كان الأرمن من دون القوميات الأخرى، من الذين انفردوا بالتعاون مع الأتراك الشباب بكل إخلاص، آملين بذلك تحقيق آحلامهم ورغباتهم المهملة من الدول العظمى والإمبراطورية العثمانية[5]، علماً بأن تلك الإيديولوجية الجديدة تتطابق كلياً مع طموحات الشعب الأرمني. فكانت اقتراحاتهم ومطالبهم، التي تبنتها الأوساط التركية المستنيرة والقوميات الأخرى، تهدف إلى إنشاء حكم فيديرالي في إطار الحكومة العثمانية. ولكن مع الأسف الشديد، إن العناصر المعتدلة المتأثرة بالثقافة الغربية سرعان ما لبثت أن فقدت نفوذها في حزب »الاتحاد والترقي« لمصلحة أنور باشا وطلعت باشا، اللذين بدأا بالتراجع من مبادئ الحزب وأرسيا أسس التطرف العرقي ورسّخا العقيدة الطورانية، فكان مصدرها التتار في روسيا والتركمان في آسيا الوسطى[6].

وفي ظروف غياب الإمبراطورية العثمانية المتسارع عن المسرح الأوروبي كدولة كبرى، انبثق في أوساط حزب »الاتحاد والترقي« بتشجيع ألماني فكرة التوسع نحو الشرق، وإنشاء دولة طورانية مترامية الأطراف، تمتد من منغوليا إلى حدود البلقان[7]. وسرعان ما تبنى الحزب العقيدة الشوفينية والنزعة العرقية والتعصب وسياسة التتريك القسرية، كل ذلك أدى إلى خيبة آمال الأرمن وتفجير انتفاضات في كل أنحاء الإمبراطورية ومن بينها المنطقة العربية.

ففي نيسان عام 1909 ارتكبت السلطات الجديدة مجازر رهيبة في أضنة وكيليكيا، ذهب ضحيتها أكثر من 30 ألف أرمني، ما اضطر شخصيات حزب الطاشناق والهنتشاك بقطع علاقاتهم مع جمعية »الاتحاد والترقي«[8].

وبالرغم من الخلافات الإيديولوجية بين برامج الأحزاب الأرمنية السياسية، لكنهم كانوا يتفقون في فكرة تحرير أرمينيا وتأسيس دولة أرمنية موحدة. ومن المؤسف لم تتمكن هذه الأحزاب منذ نشوئها وخلال أعمالها من توحيد كل القوى الأرمنية في إطار حركة تجمعهم للتصدي لحكم السلاطنة، مثلما قامت به على سبيل المثال شعوب البلقان لاحقاً في أعوام 1912-1914.

بعد فشل سياسة السلطان عبد الحميد الثاني الهادفة للإبادة التامة لأرمن الإمبراطورية جراء ضعف نظامه تدريجياً والتناقضات في العلاقات السياسية والاجتماعية والقومية وضياع بعض المقاطعات الأوروبية والإفريقية، قرر حزب الاتحاد والترقي نهائياً من عام 1910 في سالونيك، وخلال اجتماعاته السرية في السنوات اللاحقة متابعة سياسة السلطان عبد الحميد، وحل »القضية الأرمنية« بكل الوسائل المطلوبة. وأصبح التخلص من الأرمن بالنسبة للحزب ضرورة سياسية بقدر ما هي اقتصادية وعرقية ودينية. ورأى الحكام الاتحاديون في وجود الشعب الأرمني، كما ذكرنا، عقبة أمام مشروعهم الهادف إلى الهيمنة ليس في داخل الإمبراطورية، بل خارجها وامتدادها نحو الشرق والقوقاس وآسيا[9].

إن مذابح أضنة في عام 1909 كانت، كما قيل، أول جريمة نكراء قام بها الاتحاديون أمام أنظار الدول العظمى ـ روسيا، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، الولايات المتحدة، حيث كانت أبراجها الراسية في ميناء أضنة – مرسين على بعد مسافة قصيرة. وبعد طلب القنصل الألماني موافقة السفير لتدخل الجيوش الألمانية في وقف الدم في أضنة، منع القيصر الألماني ذلك قائلاً: »لايجب علينا التدخل في شؤون الأرمن، لأنهم لا يهموننا، ولا يحق لأي جندي التدخل«[10]. وهذا يدل مرة أخرى على مدى إهمال البلدان العظمى القضية الأرمنية والمطالب الأرمنية في إطار مصالحهم السياسية والاقتصادية فقط. فبعد وساطة القنصل البريطاني لوقف النار من  الثائرين الأرمن، دخل الجيش التركي الأحياء الأرمنية، وقام بمجزرة فظيعة، وبذا انتهكت الإدارة العثمانية وعودها بشأن العفو. وتابعت سياسة الاتحاديين بالنهج الحميدي نفسه في الولايات الأرمنية، حيث كانوا يستعينون بالقبائل الكردية لإخلاء المناطق الأرمنية من سكانها.

* ينفرد موقع “أزتاك العربي للشؤون الأرمنية” بنشر مقاطع كتاب “شهادات غربية عن الإبادة الارمنية في الإمبراطورية العثمانية” إعداد ومراجعة ودراسة: البروفيسور-الدكتور آرشاك بولاديان، دمشق – 2016، (5).

71- نفس المكان، ص 113، د. رسلان أحمد فؤاد، أرمينيا الأمة والدولة، القاهرة، 1997، ص 52.

72- داسنابيديان هراج، القضية الأرمنية، ص 17. انظر أيضاً: رسلان أحمد فؤاد، أرمينيا الأمة والدولة، ص 52، عربش سمير، مئوية الإبادة الأرمنية، ص 27-28. للمزيد من التفاصيل أنظر: كيراكوسيان جون، الأتراك الشباب أمام محكمة التاريخ، ج 1، يريفان، 1983.

73- ميلكونيان آ.، تاريخ أرمينيا، ص 174.

74- داسنابيديان هراج، القضية الأرمنية، ص 17.

75- انظر: المدور مروان، الأرمن عبر التاريخ، ص 404-403.

76- داسنابيديان هراج، القضية الأرمنية، ص 17-18.

77- نفس المكان.

78- ميلكونيان آ.، تاريخ أرمينيا، ص 174-175.

79- سيمونيان هراج، من تاريخ العلاقات التركية – الأرمنية (باللغة الأرمنية)، يريفان، 1991، ص 212-214، أنظر أيضاً: سافراستيان روبين، الإمبراطورية العثمانية – مشروعان للإبادة – في كتاب: شعوب الشرقين الأدنى والأوسط، ج 14،(باللغة الأرمنية) يريفان، 2005، ص 237-244.

80- دادريان فاهاكن، لمحات عن الإبادة الأرمنية، (باللغة الأرمنية)، يريفان، 2004، ص 12.

Share This