حوار راق للحضارتين المصرية والأرمينية بريشة طبيبة عيون د. ريهام عفيفي تنقل إرث بلاد الأساطير إلى أحضان النيل عبر 80 لوحة

 

فرنسا بلاد النور، انجلترا البلد الذى لا تغيب عنه الشمس، النمسا بلد الموسيقى بامتياز، أرمينيا بلاد الاساطير.. تعرفت على انجلترا من عبقرية وليام شكسبير وأفكار شارلز ديكنز وتمرد المبدعة شارلوت بروتي،

أحببت فرنسا بعيون فيكتور هوجو وأناتول فرانس وموليير، عشقت النمسا مع موسيقى بيتهوفن وموزرات وشتراوس الذين غردت موسيقاهم عبر الاجيال من خلال أوركسترا فيينا «الفيلهارومنيك» العريقة، ورأيت أرمينيا بإحساس فنانة وطبيبة وجدت فى بلاد الأساطير أسرارا وغموضا حملهما التاريخ والمكان والبشر.

كانت بداية تعارفي بأرمينيا من خلال العمل فى مجلة «داليدا» على ملف الإبادة التى تعرض لها هذا البلد على يد العثمانيين خلال النصف الأول من القرن الماضي، فشاهدت أرمينيا فى عيون الأيتام، فى نظرة الرعب المرتسمة على وجه أم تبحث عن صغيرها، فى عين الغضب ورفض الاستسلام التى كللت ملامح الرجال، فى رؤية المستقبل لدى الجدات حافظات التاريخ، ولكن الفنانة والطبيبة ريهام عفيفي جعلتني أرى أرمينيا بريشة الفن، وألوان الطبيعة، وسحرها وما تحمل من شهادات الإرث والهوية. زرت معرضها وتأملت لوحاتها فأحسست بما كانت تشعر به د. ريهام خلال رسمها لكل لوحة، فكان حوارى معها رحلة إلى تاريخ الفنانة ورحلة إلى ماضى أرمينيا.

الأسطورة الأرمينية بعيون كاشفة السر المصرية

كانت ليلة دافئة من شتاء مصر الجميل حيث اجتمعت فى قاعة «بيكاسو» الروح الأرمينية بسحره والاحتضان المصرى فكانت القاعة بما فيها من لوحات أشبه بجسر للتواصل بين حضارتين عريقتين الأرمينية القادمة من الشرق البعيد والمصرية بإرثها الزاخر بدءا من الفرعونية حتى يومنا الحالي، وكانت اليد التى رسمت الجسر وهندست لإنشائه هى يد طبيبة العيون الشابة د.ريهام عفيفي التي اخذتها دراسة الطب وعلوم العيون وجراحاتها الدقيقة لمدة 15 عاما –كما قالت لى خلال حديثها معي- دون أن تبعدها عن الرسم والكتابة، فهوايتها كانت الرسم، ولم تنسها فى خضم الدراسة العلمية الصارمة بل كانت دائما ما تهدى أصدقاءها وأساتذتها رسومات خاصة لهم كهدايا تعبر لهم من خلالها عن مشاعرها سواء ببهجة الصداقة أو عرفان الطالب لاستاذه.

وكما كانت د.ريهام رسامة صاحبة فرشاة دقيقة، كانت كاتبة صاحبة قلم رشيق، فلم تمنعها جراحات العيون الدقيقة من أن تحتفظ لنفسها بمساحتها الخاصة لتكتب خواطرها وتسجل ما بداخلها لها من أفكار، وكان معرضها «صور وحكايات من بلاد الأساطير» هو خلاصة هذه التجربة والموهبة فى الرسم والكتابة، فكما قدمت من خلال قاعة «بيكاسو» نحو 80 لوحة فنية جسدت فيها أرمينيا كما رأتها بعيون الطبيبة، الفنانة، والكاتبة، خصصت أيضا ركنا خاصا لبيع كتابها الذى اصدرته دار «داليدا» للنشر وجاء تحت نفس عنوان المعرض وتضمن حكايات من التراث الأرميني، وقامت بإهداء حصيلة بيع اللوحات والكتاب للمشاريع التعليمية من خلال صندوق تحيا مصر.

ومن هنا بدأ حديثي مع الرسامة صاحبة الابتسامة المشرقة عن الكيفية التى خرج بها هذا المشروع للنور، عن اللوحات والمعرض والكتاب، فأجابتني: «لم يكن مجهودى انا وحدي، بل كان الدافع وراء هذا العمل، أصدقائى من الأرمن، هؤلاء البشر، الودودون، شديدو المرح، شديدواالتمسك بتراثهم وثقافتهم، شديدوا الحفاظ على تاريخهم. فى الحقيقة لم أكن أعلم شيئا يذكر عن الإبادة الأرمينية والمجازر البشعة التى تعرضوا لها على يد العثمانيين، كنت أعلم أن هناك أرمن يعيشون بيننا، كما عاش بيننا اليونانيون والإيطاليون والفرنسيون فى وقت ما، ولكن لم أكن أعلم شيئا عن تاريخهم ومأساتهم حتى رتب لى القدر أن التقى بأصدقائى الأرمن د.آرمن مظلوميان رئيس لجنة الدفاع عن القضية الأرمنية وزوجته الجميلة، ومع رحلتى الأولى لأرمينيا وقعت فى عشقها، فالطبيعة تحكى التاريخ، والشعب يبنى رغم الصعاب لأنه أحب بلاده، رأيت أرمنيين اضطروا إلى النزوح من بلادهم الى شتى بلدان العالم ولكنهم أبدا لم ينسوا اللغة، وابدا لم يتخلوا عن ثقافتهم، بل حملوها معهم فى كل مكان ذهبوا اليه.

فلنتمسك بهويتنا فهي القوة الناعمة

قالت لى د.ريهام هذه الكلمات السابقة ولسان حالها ينتقد ما يحدث لعدد منا حين نخرج إلى «دول الفرنجة» فتبهرنا الأضواء ويأخذ تقدمها بتلابيب عقولنا، فننسى اللغة ونشرع فى انتقاد كل شيء حتى الجميل عند العودة إلى الوطن. ومن الرحلة الأولى اخذتنى د. ريهام فى جولة بين لوحاتها حيث حكت لى القصة وراء كل لوحة، ورغم اختلاف الأماكن والأهداف فقد اتفقت هذه اللوحات الـ80 على أنها رواية لتاريخ وهوية بلاد الأساطير والخيال.

ففي لوحة أثارت انتباهى منذ لحظة دخولى المعرض، تخرج حمامة زرقاء اللون من بين أبواب أحد المعابد التاريخية، وتروى هذه اللوحة أسطورة أرمينية عن أن حمامة سقطت بالقرب من أبواب أحد المعابد جريحة، وبينما هى فى نزعها الأخير خرجت من المعبد روح شفافة سألتها عما تريد، فأجابت الحمامة بأنها تطلب منها أن تساعدها كى تطمئن على صغارها فى عشهم، على أنهم ينعمون بالأمن ولا ينقصهم الاكل، وفى المقابل سترد لها معروفها بما يريد. بعد فترة من الصمت أجابتها الروح بأنها ستساعدها فى الاطمئنان على صغارها ولن تعيدها للموت وفى المقابل تريد فقط جناحيها. فلم تقبل الحمامه هذا الطلب، وردت بعزة أن كيف تمنح جناحيها اللذين تطير بهما وتسعى بهما بحثا عن رزقها ورزق صغارها لروح يمكن أن تمنعها من الحرية والاستقلال. وتنتهى الاسطورة بأن تساعد الروح الحمامة على الشفاء والطيران لتعود إلى صغارها.

ومن لوحة الحمامة الأم نقلتنى د.ريهام إلى لوحة «أرمينيا الأم»، فكما جسد محمود مختار مصر فى تمثاله نهضة مصر بالفلاحة التى تقف فى شموخ رافعة عن وجهها الحجاب بيسراها، بينما يمناها مفرودة لتلمس بأصابعها رأس تمثال أبى الهول الذى يفرد قائمتيه الأماميتين فى تعبير عن النهوض، جسد الأرمن حضارتهم فى تمثال «أرمينيا الأم» حيث تقف سيدة جملية تحمل فى يدها سيفا وعلى ظهرها حقيبة للمؤن وتقف ناظرة إلى الشمس فى إشارة إلى قوة وشجاعة المرأة الأرمينية.

ومن بانية الحضارة كما وصفتها محدثتى إلى الإبادة التى تعرض لها الأرمن وجسدتها د.ريهام عبر نقلها بريشتها النصب التذكارى الذى وضعه الأرمن فى قلب العاصمة يريفان حيث يمكن للزائر أن يراه من زوايا متعددة كما اختار له أصحاب الذكرى أن يكون بجوار متحف يوثق الإبادة ليكون حافظا للتاريخ والهوية معا.

سارويان وكوميداس وماشتوتس

وبينما استمر حوارى مع د. ريهام، استمرت الجولة بين التاريخ الأرمينى حيث أخذتنى إلى العبقرى الموسيقى «كوميداس» الذى فردت «داليدا» له عددا من صفحاتها حيث تطرقت إلى لوحة «الليلة الأخيرة» للفنان «سركيس موراديان» التى اختزلت قصة المبدع «كوميداس» الذى يرمز إلى شعب بأكمله بثقافته ومصيره الحزين، فكان ضحية الإبادة الأرمينية، ولكنه استطاع أن يكتب فى أنغامه معانى الحب والإخاء والمساواة، وعبر بدقة عن عمق الظلم الاجتماعى وأوجاعه فيما كتبه من الحان قبل أن يفقد عقله نتيجة ما شاهده من قتل وتعذيب لبنى وطنه، ولهذا الفنان خصصت د.ريهام عددا من لوحاتها حيث رأت فى حفظه للموسيقى والتراث الأرمينى أولى أدوات القوة الناعمة التى حافظت على أرمينيا دولة مستقلة رغم عذابات الإبادة.

ومن كوميداس إلى «مسروب ماشتوتس» وكانت لوحته بديعة فللوهلة الأولى يخيل لمن يرى لوحة «ماشتوتس» أنها لوحة لفيلسوف أو مفكر، فهيئته تشبه إلى حد ما تمثال «الانسان المفكر» لصاحبه النحات الفرنسى أوجست رودان قبل أن تحكى لى د.ريهام أن صاحب هذا التمثال فى لوحتها هو مخترع الأبجدية الأرمينية «مسروپ ماشتوتس» الذى يعد أحد أشهر الشخصيات فى تاريخ أرمينيا وتمثاله اختار الأرمن أن يمجدوا صاحبه بأن وضعوه أمام المكتبة المركزية ودار الكتب فى أرمينيا.

ومن مخترع الأبجدية إلى حافظ التاريخ وليام ساريوان الذى جسدته د.ريهام بلوحة باسمه وسجلت إلى جانبها كلمات قصيدته حيث قال عن الأرمن :«أود أن أرى أية قوة فى هذا العالم تدمر هذا الجنس، دعونا نقل انها 1915 أخرى هناك حرب فى العالم، دمّروا أرمينيا! أنظروا إن كنتم تستطيعون فعل ذلك أخرجوهم من بيوتهم إلى الصحارى أتركوهم بلا خبز وبلا ماء، أحرقوا منازلهم وكنائسهم و انظروا إن كانوا لن يعيشوا مرة أخرى أنظروا إن كانوا لن يضحكوا مرة أخرى أنظروا إن كنتم تستطيعون منعهم التهكم من أفكار العالم الكبيرة! أمضوا قدما، وحاولوا أن تقضوا عليهم لكن، حيثما يلتقى اثنان منهم فى هذا العالم، انظروا، إن لم يعيدوا خلق أرمينيا جديدة!»

المرأة حافظة التاريخ وصانعة الخضارة

وما كان لجولتى فى «بيكاسو» مع د.ريهام أن تنتهى قبل الحديث عن المرأة فلأنها مسك الختام كان ختام حوارى مع الطبيبة الفنانة عن المرأة التى عبرت عنها فى العديد من لوحاتها، فهناك بائعة الورد التى قالت لى د.ريهام بابتسامة خفيفة انها تحمل بعض ملامح جدتها، وهناك العجوز التى تتطلع الى المستقبل بعين مليئة ببريق الحياة، وهناك الشابة التى تضئ الشموع فى كنيسة ولسان حالها يقول «لن ننسي».

وبالنظر الى اللوحات رأيت تكرار استخدام اللونين البرتقالى الأشبه بأشعة الشمس والأحمر الداكن، والحق أنه لون لم تختص به د. ريهام المرأة فحسب، بل كان عنصرا مشتركا فى الكثير من اعمال معرضها، فسألتها عنه، فأجابت أن لهذا اللون «الأحمر القاني» قصة تناقلتها الأجيال عبر روايات الجدات، فهم أحد رموز الشخصية الأرمينية حيث كانوا يستخرجونه قديما جدا من أكثر من 200 عام من دماء حشرة كان يصعب كثيرا اصطيادها مما جعل المنتج الذى يخرج منها أغلى من الذهب بالنسبة لهم، ولان الأرمن يعشقون هويتهم فقام العلماء بتطوير هذا المنتج ليصبح لونا يستخدم فى الكثير من مظاهر الحياة الأرمينية وكان الفضل فى البقاء على هذا الإرث يرجع للجدات، قالتها محدثتى وهى تبتسم.

وهكذا جاء سؤالى عن المرأة الأرمينية عن حالها والفرق بينها وبين المرأة المصرية، فأجابت د.ريهام باسمة: «المرأة فى الشرق تواجه نفس التحديات والصعاب، ولكن مع التعليم والثقافة والحفاظ على الهوية يمكن أن نصل إلى الوضع الحقيقى الملائم للمرأة فهى الأم والأخت والصديقة والزوجة، هى حافظة التاريخ والتراث، فهذا ما تعلمته من الأرمن، لولا الجدات، «حافظات التاريخ»، ما كان للتراث والفلكلور الأرمينى أن ينتقل من جيل إلى آخر، ما كان له أن يتحدى بطش آلة الحرب العثمانية ويبقى حيا منذ قرونا مضت.

بهذه الكلمات انتهى حواري مع محدثتي الباسمة دائما وانتهت جولتى مع الأساطير الأرمينية بين لوحاتها الجميلة.
تنويه:
كان حواري مع د.ريهام خلال افتتاح معرضها عن بلاد الاساطير فى الشهر الأخير من العام الماضي، ولكن نظرا لترتيبات معينة جرت خلال الاستعداد لنهاية العام رأت ادارة تحريرملحق الجمعة تأجيل نشر الحوار ليتزامن مع بداية العام الجديد فتكون بداية جديدة بحديث عن بناء جسور التواصل بين الحضارات، فيحمل شهر ينايرتذكيرا بالحضارة المصرية فى فنونها وثقافتها، ويكون منظارا لرؤية الحضارة الأرمينية وتاريخها عبر ريشة الفنانة والطبيبة د.ريهام عفيفي، وهكذا تأخر الحوار قليلا ليكون نشره متزامنا مع بداية عام جديد.

مروة فودة

الأهرام

 

Share This