القضية الأرمنية والمعاهدات الدولية (1916-1923) (1) بقلم الدكتور آرشاك بولاديان

لغاية عام 1916 استطاعت روسيا جراء عمليات عسكرية مثمرة في جبهة القوقاس احتلال أغلبية أرمينيا الغربية. وأسرعت هذه الإنجازات المفاوضات السرية بين الحليفتين – بريطانيا وفرنسا بشأن اقتسام الخصيب بينهما لتحديد النفوذ في غرب آسيا بعد تهاوي الإمبراطورية العثمانية، المسيطرة  على هذه المنطقة، في الحرب، وبتصديق روسي تم في أيار 1916 توقيع اتفاقية سرية بين بريطانيا وفرنسا المعروفة في التاريخ باسم »سايكس بيكو«[1]، والتي انكشف عنها في عام 1917 بعد انتصار الثورة البلشفية في روسيا. لم يكن في هذه الاتفاقية مادة تذكر عن استقلال أو حكم ذاتي لأرمينيا والشعب الأرمني أكمله. ولكن وفق هذه الاتفاقية حصلت فرنسا عدا مقاطعات أخرى علاوة على كيليكيا وبعض المناطق الشرقية – الجنوبية من الأناضول – عنتاب، أورفة، ماردين، ديار بكر وهكاريا. كما حصلت روسيا على أجزاء من أرمينيا الغربية والتي شكلت عليها في حزيران 1916 مقاطعة عسكرية بحكم الحرب[2]. وبعدئذٍ خرجت القضية الأرمنية بشكل عام من الدبلوماسية الروسية، التي كانت تحاول سابقاً حماية مصالح المسيحيين وخاصة الأرمن في الامبراطورية العثمانية. وكان من المحتمل اعتبار المقاطعات الأرمنية جزءاً من الأراضي الروسية بغياب سكانها الأرمن[3]. إلى جانب الجرائم التي ارتكبت في أرمينيا الغربية وإخلاء سكانها، شارك الأرمن مع الروس (حوالي 180000 جندي) حارب معظمهم على الجبهة الأوروبية. ومن عام 1915 بدأ مكتب تفليس بتجنيد متطوعين من الأرمن، وشكلت 6 فرق وضعت تحت قيادة عسكريين وطنيين أرمن من أمثال آندرانيك، واردان، هامازاسب، درو، آرمين، كارو، والأمير أرغوطيان وغيرهم. وقامت هذه الفرق الأرمنية في صفوف الجيش الروسي بعمليات حربية نشطة في القوقاس. وتمكن الروس جراء ذلك التغلغل في المقاطعات الأرمنية من جديد واحتلال وان عام 1915 وأرضروم وطرابزون وأرزنجان عام 1916. ثم شارك في هذه الحروب متطوعون أرمن من أوروبا أيضاً. ونتيجة لتلك المشاركة العسكرية الأرمنية – الروسية تم تحرير معظم أرمينيا الغربية لغاية اندلاع الثورة الروسية في شباط عام 1917.

في 25 نيسان 1917صدر قرار من الحكومة الروسية المؤقتة في بيتروغراد عن المقاطعات الأرمنية المحتلة وبموجبه وضعت تلك المناطق تحت إدارة روسيا، وتابعت سياسة القيصرية الروسية نفسها وانتهاك حقوق الأرمن. وبانتصار الثورة البلشفية في روسيا في تشرين الأول عام 1917، بدأت الجيوش الروسية بالانسحاب من جبهة القوقاس. أما في 29 كانون الأول عام 1917 فأصدرت روسيا السوفييتية قانوناً عن أرمينيا التركية وبموجبه اعترفت بحقوق الشعب الأرمني لتقرير مصيره وإقامة دولته المسلوبة. ولكن في نتيجة سلسلة من الأحداث السياسية في القوقاس والأوضاع الإقليمية فشلت تلك المساعي[4]. واستخدمت تركيا تلك الظروف وانشغال روسيا السوفييتية بقضايا سياسية – عسكرية داخلية وخارجية ثم قامت في شباط 1918 بشن حرب شاملة واستعادت أرمينيا الغربية، وحتى أواسط آذار، احتل الجيش التركي أزرجان، طرابزون، درجان، أرضروم و…إلخ. وبموجب المادة الرابعة من معاهدة الصلح المبرمة في بريست – ليتوفسك في 3 آذار عام 1918 بين روسيا السوفييتية من جهة وألمانيا والنمسا والمجر وبلغاريا وتركيا من جهة أخرى، كما حسب اتفاقية خاصة، وقعت بين روسيا وتركيا لاحقاً، تنازلت روسيا السوفييتية لمصلحة تركيا عن أرمينيا الغربية إضافة إلى محافظات قارص وأرداهان وباطومي. وتعهدت روسيا بسحب قواتها من هذه المحافظات وتسريح الفرق المتطوعة والحفاظ على فرقة عسكرية واحدة فقط في القوقاس، ثم الاعتراف بحدود عام 1877 مع تركيا[5].

كما نرى، تمكنت تركيا الضغط على روسيا السوفييتية الفتية وفرض شروط قاسية عليها. ثم استخدمت الفرصة المتاحة لنزع مقاطعات ماوراء القوقاس من روسيا، وتقسيمها إلى شطرين تحت سلطتها. ولتحقيق هذه الأهداف أرادت تركيا تحويل منطقة ما وراء القوقاس إلى ساحة النزاع. في أواسط أيار عام 1918، بدأ تغلغل الجيش التركي في أرمينيا الشرقية (الروسية) واحتل الكسندرابول (مدينة غيومري حالياً في أرمينيا) ثم قام بالتحضيرات للهجوم على يريفان، وبذا كانت تركيا ترغب ببسط نفوذها على أرمينيا الشرقية (أو القوقاسية) وتنفيذ مشروعها الطوراني الظالم آنف الذكر.

بعد فقدان أرمينيا الغربية نهائياً والمأساة التي تعرض لها سكانها، ظلت أرمينيا الشرقية بالنسبة للأرمن البقعة الوحيدة للانطلاق إلى الحياة والعيش بكرامة على أراضي الأجداد. وهذه العزيمة والإرادة الصلبة، دفعتهم للبقاء، وقاموا بتوحيد صفوفهم والتصدي في وجه العدو الطوراني، وخوض معركة الحياة أو الزوال. بعد إعلان التعبئة العامة جرى تنظيم المقاومة المدنية وتعزيز جبهة القتال وتأمين طرق التموين والعمل المشترك بكل الوسائل المتحة، وشارك الشعب الأرمني بشتى فئاته جنباً إلى جنب الجيش بقيادة أبطال المقاومة في المعارك ضد القوات التركية من دون استثناء.

إن أرمينيا المحاصرة، التي كانت تلثم جراح الإبادة وتعاني الجوع والفقر ومشاكل النازحين والأيتام من أرمينيا الغربية، وتعيش مرحلة عصيبة للغاية، هبت كرجل واحد ضد الجيوش التركية. وأوقفت في أواخر أيار عام 1918 بعد معارك دامية، تقدمها في قركيليسه وباش أباران وخاصة في سارداراباط الواقعة على سهل آراراط، وبذا زال خطر إفناء الشعب الأرمني في الشطر الشرقي من أرمينيا. بشجاعتهم وإرادتهم الصامدة، أظهروا جنباً إلى جنب مع المقاومة الشعبية بسالة تفوق التعريف عدة شخصيات، نذكر منهم على سبيل المثال آرام مانوكيان، قادة الجيوش الأرمنية نظاربيكيان، سيليكيان، درو وبيك بيروميان وغيرهم[6].

في 26 أيار 1918 أعلن عن حل السلطة التشريعية – »السييم« التابعة »لمفوضية القوقاس« التي كانت تضم أقاليم ماوراء القوقاس. في اليوم نقسه أعلنت عن استقلالها جيورجيا وأذربيجان في 27 أيار. وفي 28 أيار 1918 أعلن المجلس الوطني الأرمني قراراً باستقلال أرمينيا، مستغلة الوضع الجديد الناجم عن الحرب التي خاضتها القوات الأرمنية وحدها ضد تركيا[7]. وهكذا تأسست الجمهورية الأرمنية الأولى بقيادة حزب الطاشناق والتي دامت نحو أكثر من عامين (1918-1920). وبالرغم من الأوضاع الإقليمية القاسية، كان الاستقلال حدثاً مصيرياً مهماً في تاريخ الشعب الأرمني، لإقامة الدولة الأرمنية على مساحة صغيرة بعد فقدانها لعدة قرون في نتيجة الاحتلال التركي، وتقسيم أرمينيا بين القيصرية الروسية والإمبراطورية العثمانية.

إن استقلال أرمينيا الشرقية أسفر عن اتفاقية باطومي بين حكومة أرمينيا وتركيا في 4 حزيران عام 1918 ووفق المادة الثانية من الاتفاقية المبرمة بين الطرفين، جرى ترسيم حدود أرمينيا على نحو مساحة 10 آلاف كم2 تحتوي ولاية يريفان والمناطق المجاورة. وعدا أرمينيا الغربية انضمت إلى تركيا مناطق قارص، أرداهان، سورمالو، شارور وإقليم ناخيجيفان. وبغض النظر إن الاتفاقية، فرضت من تركيا على القيادة الأرمنية الجديدة بشروط لا تتماشى مع مصالح وأمنيات الشعب الأرمني، وانتهكت حقوقه على جزء بسيط على أراضيه التاريخية، لكن في الوقت نفسه، منحت الفرصة للجمهورية الفتية خلال فترة وجيزة لتشكيل المؤسسات الحكومية والاهتمام بشؤون النازحين وتنظيم الجيش وفتح دور التعليم والمستشفيات وبناء الطرق وإرساء التنمية الاقتصادية وإقامة علاقات دبلوماسية مع عدة دول وغيرها. وبحلول عام 1919 بدأت المساعدات الأولى تصل من المؤسسة الأمريكية للرعاية في الشرق الأدنى إلى أرمينيا، ثم أخذ رواد البناء والإعمار يتوافدون إليها من الشتات الأرمني[8].

بعد انهزام تركيا الاتحادية في الحرب العالمية الأولى، تم التوقيع في 30 تشرين الثاني عام 1918 على معاهدة »مودروس« بين »الائتلاف الثلاثي« وتركيا، وبذلك ولدت أرمينيا الموحدة وسط مطالبة الحلفاء. وبعد عقد المعاهدة انسحبت الجيوش التركية من القوقاس وكيليكيا والبلدان العربية وجمهورية أرمينيا وقارص. وبذا توسعت مساحة أرمينيا وبلغت حوالي 55 ألف كم2 حسب الحدود لعام 1914، أي جميع أراضي أرمينيا الروسية.

تحت ضغط الدول الحليفة قررت الحكومة التركية الجديدة تقديم دعوة ضد المسؤولين الاتحاديين الذين تحملوا دخول تركيا في الحرب ومسؤولية الترحيل القسري وإبادة الأرمن. وفي كانون الأول تم تشكيل  عشر لجان قضائية على مستوى  البلاد لجمع براهين جنائية. وبعدئذٍ شكلت في كانون الثاني 1919 محاكم عسكرية استثنائية والتي بدأت جلساتها من شهر نيسان من العام نفسه لغاية كانون الثاني 1920، واتخذت قرارات بحق قادة الأتراك الشباب وأعضاء اللجنة المركزية لجمعية »الاتحاد والترقي« والتشكيلات الخاصة وغيرها من المسؤولين باتهامات ترحيل الأرمن وتفتيتهم. وحكم 11 شخصاً منهم غيابياً بالإعدام، وسجن 75 شخصاً لسنوات مختلفة[9]. ومن المؤسف ما نفذت المحكمة العسكرية ضد هؤلاء المجرمين، عدا بعض قادة الاتحاديين منهم، الذين فتكوا في الخارج بأيدي الفدائيين الأرمن.

بذل قادة الجمهورية الأرمنية خلال عامين جهوداً حثيثةً لحل القضية الأرمنية، وتوحيد أرمينيا الغربية والشرقية ضمن دولة مستقلة.

 

* ينفرد موقع “أزتاك العربي للشؤون الأرمنية” بنشر مقاطع كتاب “شهادات غربية عن الإبادة الارمنية في الإمبراطورية العثمانية” إعداد ومراجعة ودراسة: البروفيسور-الدكتور آرشاك بولاديان، دمشق – 2016، (7).

 

108- اتفاقية سايكس- بيكو  Sykes–Picot Agreement‏، اتفاقية سرية تم توقيعها في أيار 1916 بين بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية. بمقتضاها تقاسمت بريطانيا وفرنسا الأراضي العربية التي ما بين إيران والبحر المتوسط، فرنسا أخذت منطقة تشمل سورية، وبريطانيا أخذت منطقة شملت العراق الجنوبي زائد حيفا وعكا على البحر المتوسط. بالنسبه للأراضي التي مابين المنطقتين اتفقوا على أنها تكون موقعاً لدولة عربية مقبلة بحيث يخضع القسم الشمالي منها لفرنسا والقسم الجنوبي لبريطانيا. بالنسبة لفلسطين اتفقوا على أن تعمل فيها إدارة دولية. الاتفاقية أخذت اسمها من اسامي الديبلوماسيين الإنجليزي والفرنساوي اللذين توصلا إليها: الديبلوماسي الانجليزي السير مارك سايكس والديبلوماسي فرانسوا جورج-بيكو ( (https://arz.wikipedia.org/wiki

109-  كيراكوسيان آ.، القضية، ص 17.

110- نفس المكان، ص 18.

111- نفس المكان، ص 18-19، انظر داسنابيديان هراج، القضية، ص 29-30.

112- نفس المكان.

113- نفس المكان، داسنابيديان هراج، القضية، ص 32-33.

114- نفس المكان.

115- نفس المكان، ص 33-34.

116-  للمزيد انظر: المشانق العربية والمجازر الأرمنية من خلال جلسات محاكمات زعماء حزب الاتحاد والترقي بين عامي 1919-1920، ترجمة الكسندر كشيشيان، بيروت، 1992.

Share This