بنجامين تشاماكيان: آخر الناجين من المجزرة يتــذكّر النهر

الكلمات الخارجة من فم بنجامين تشاماكيان أشبه بفيلم خارج من ذاكرة طازجة. فهو عاش أكثر مما يتوقعه طفل قطع النهر عام 1915  إلى المجهول. آخر الناجين من المجازر الأرمنية، يتذكّر..

حدث ذلك في يوزغات 1915. كان بنجامين تشاماكيان صغير العائلة التي تنحدر من الطبقة الوسطى الأرمنية، المقيمة داخل الأراضي التركية. قيل له لاحقاً حين أصبح شاباً إن عائلته كانت من هذه الطبقة لأنها كانت تملك كروماً شاسعة في البلدة. في نهار بارد، وصل الجنود إلى القرية. أطلعوا العائلة على الفرمان العثماني الجديد. ومشى الأرمن إلى محافظة قيصرية سيراً على أقدامهم، مطرودين من أرضهم. يوضح هنا: «قيصرية بعيد». ما زال محافظاً على لكنته الأرمنية المحببة. قصد أن قيصرية مكان لا يذهب إليه أهل يوزغات سيراً. يلتقط العجوز بعض الصور من رأسه. يتسلّم دفة الحديث البطيء، وحده. كان للمشهد الدرامي تأثير بالغ في عينيه. عينان غارقتان في وجه مشبع بالتجاعيد. لا يتذكر التفاصيل، لكن العربات التي كانت تنقل الناس إلى موتهم لا تفارق رأسه. عربات تجرها حيوانات انقرضت من المشهد المديني المعاصر هي الأخرى.

لم يكن بنجامين يعرف معنى الموت حينها حتى مات والده على الطريق. كان يعرف قسوته من دون أن يفهم البكاء الذي يتبعه عادةً. المشهد الذي لا ينساه هو غرق المئات في النهر. غرقوا رعباً من الجنود الأتراك بعدما تدافعوا وتسابقوا. لا يذكر نجاته، لكنه يذكر موت والدته قبل الوصول إلى قيصرية. وقد بدا جمع الواصلين أشبه ببقايا الخارجين من أويشفتز بعد وصول الأميركيين إلى المعتقل. عرف لاحقاً عن أويشفتز أيضاً، ولم يفهم لماذا لم ينظر العالم إلى قضيتهم، أو إلى قضية الفلسطينيين، بالقدر نفسه من الأهمية. يصمت العجوز قليلاً. يقفز إلى الخمسينيات، فنعيده إلى الحرب العالمية الأولى. حرب، حرب، يردد غاضباً. لا علاقة له بالحرب. يصر على الحديث عن النهر. يكاد يبكي عندما يعترف بأنه لا يتذكر رائحة والدته، لكنه يتذكر صوتها كأنها حدثته منذ خمس ساعات. وعلى أبواب قيصرية، ضاع أشقاؤه في الرحلة وهو بقي مع عمته.

بهدوء، انتقل في روايته إلى دير مار غارابت، في قيصرية، حيث سيمكث بضع سنوات. في الأساس هناك أرمن في قيصرية يستعدون للرحيل أيضاً. لكن الدير استقبلهم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وفي تلك الحقبة، يتذكر بنجامين صورة الجندي العثماني المخيفة. في الدير، غيروا له ملابس القرية. هكذا يعرّف عنها أو عما بقي منها. هناك، علمه مرجان أفندي اللغة الأرمنية. يذكر المياه النظيفة في الكنيسة، إذ منعوا من الماء طوال الرحلة، وكانت رحلةً طويلة لا يذكر كم استغرقت. يذكر جثثاً مكوّمة بعضها فوق بعض، وعابرين يضطرون إلى الدوس عليها للنجاة، بلا فائدة. ويذكر جيداً الفارق بين اسحاق، الذي علّمه الصلاة، والجنود الأتراك الذين دخلوا ذات مرة وأخذوا المراهقين الأرمن الضخام الجثة. أخذوهم ليستفيدوا منهم في تركيا. يتكلم على تركيا كثيراً ويرفض التمييز بينها وبين الإمبراطورية العثمانية رفضاً قاطعاً. فقد أجبروه على التحدث باللغة التركية أيضاً، قبل أن تنتهي آخر أيامه في بلاد العثمانيين، عندما أقلته جمعية «نير إيست ريليف» إلى لبنان، مع 400 أرمني باقين في قيصرية، في عشرينيات القرن الماضي. أخذوهم إلى ميرسين، حيث كان هناك مبنىً في البحر. أو أنّ المراهق الذي قضى حياته حتى ذلك الوقت تحت رحمة الجنود، ظن أن السفينة الكبيرة التي ستقله إلى بلد يجهله (لبنان) هي مبنى في البحر. وعلى متنها، لم يلحظ شيئاً آخر. الزيتون الذي قدمته الجمعية للاجئين الأرمن لم يكن معروفاً بالنسبة إلى كثيرين فلم يأكلوه. كان الخوف قد طغى على التفاصيل وتحولت أيامهم إلى مسرح.

كانت نهاية الطقس البحري العاصف في الكرنتينا. كثيرون من الأرمن يذكرون المخيّمات التي أقيمت في تلك الفترة (ثلاثينيات القرن الماضي) لهم. وضعوا بدايةً في ملجأ كان مستوعباً للحيوانات. هكذا، تنقل بنجامين بين أنطلياس، وجبيل. من دير إلى دير ومن جمعية إلى جمعية. تعلم اللغة العربية، وعرف أنه أصبح مواطناً لبنانياً، بالصدفة، في أحد صفوف الدراسة، بعدما أخبرهم الأستاذ بذلك. وفي أنطلياس أيضاً تعلم مهنة الخياطة، وعندها انطلقت حياة جديدة. بدأ عاملاً في منطقة زقاق البلاط، حيث أجري أول إحصاء بعد الاستقلال، وعلى هذا الأساس ما زالت شؤونه الإدارية تعود إلى تلك المنطقة. لكنه ينتمي عملياً إلى أنطلياس، حيث عاد قبل عامين، ليشتري منزلاً إلى جانب الميتم الأول. يشدّه الحنين دائماً إلى العظام الساكنة بطريركية الأرمن في مواجهة المنزل. وفي مطلع الخمسينيات، اتجه شمالاً بعد تجربة مهنية غير مقنعة في السويداء السورية. سكن لعقود من الزمن في طرابلس. عاش زمن الحرب الأهلية والميليشيات، وعاش طرابلس العيش الواحد قبل ذلك الزمن. وكانت الصدفة اللافتة، أن جارته في طرابلس كانت حفيدة السلطان عبد الحميد الثاني. وقد قامت بينهم، رغم كل شيء، علاقة جيرة ممتازة. كان الأرمن قد بدأوا في 1949 ببناء كنيستهم في الميناء، حيث بدأوا يلتقون. يفتخر بنجامين بأنه لم يحمل السلاح يوماً، حتى إنه ذعر حين قدم له أحد أصدقائه المسلمين سلاحاً في أيّام الحرب للدفاع عن نفسه. عاش في الشمال، وعرفه الجميع هناك، حتى بعدما تراجع صيت الحرفيين لحساب الشركات الكبيرة. وحينها، قرر التقاعد، قبل أن يعود إلى أنطلياس. اليوم، تخطّى بنجامين المئة عام من عمره، ولم تتعب المجزرة من ملاحقته بعد.

محطات لا تنسى

يتذكر بنجامين تشاماكيان أنّه زار في العام 1955 فرنسا والتقى شقيقه الأوسط، الذي تزوج بأرمنية. ثم عاد في 1977، لكن هذه المرة ليزور قبر شقيقه. بقيت حسرتان أخريان في حياة بنجامين؛ أولاهما أنه لم يمتلك الشجاعة لزيارة القرية في يوزغات. يقول إنّه بكى كثيراً. والحسرة الثانية، أنه لم ير شقيقه الثالث، الذي جنّده الأتراك، ولم يعرف عنه شيئاً.

شو الأخبار – صحيفة الأخبار

Share This